ضوابط المصلحة الدَّعوية

الكاتب : عبد الرحمن عبد الله الجميلي
التاريخ : ٢ ٢٠١٩ م

المشاهدات : 3586


ضوابط المصلحة الدَّعوية

الحمد لله رب العالمين، بيَّن لنا شرف العمل للدين، وحثَّنا على السير في ركاب عباده الصالحين، فلا أحسن ولا أعظم من الدعوة إلى الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 وبعد:

فإن الدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، بعثهم الله تعالى للقيام بها، وبذل المهج في طريقها؛ قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: 45-46]، وقال تعالى:﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: 67].

ولأهمية الدعوة إلى الله تعالى، ولعظم آثارها في الدنيا والآخرة، عَمَدَ أهلُها ورجالُها إلى أساليب متنوعة وإلى وسائل مختلفة، يستعينون بها لتحقيق أفضل النتائج وأحسن الثمار، والناس في ذلك بين مضيِّق وموسِّع، ومصيبٍ ومجافٍ، ولهذا فالحاجة إلى ترشيد العمل الدعوي قائمة، ومن ذلك الاحتياج إلى ضوابط تضبط المصالح الدعوية، كيلا تخرج الاجتهادات الدعوية عن الخط القويم، الذي يحظى بقبول قواعد الشرع الحنيف ومقاصده العظيمة.

 

أولًا-المقصود بالدعوة:

عرفها أهل العلم بتعريفات عديدة متقاربة، ومن التعريفات المعاصرة:

- عرفها الشيخ محمد خضر حسين -رحمه الله- بأنها:" حثُّ الناس على الخير والهدى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليفوزوا بسعادة العاجل والآجل" [الدعوة إلى الإصلاح: 17].

-وعرفها الدكتور عبدالكريم زيدان:" والمقصود بالدعوة إلى الله الدعوة إلى دينه، وهو الإسلام (إن الدين عند الله الإسلام) الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى" [أصول الدعوة: 5].

-وجاء تعريفها في كتاب نضرة النعيم:" هي دعوة النّاس إلى الإسلام بالقول والعمل" [نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: 5-1945].

وهذه التعاريف يكمل بعضها بعضًا، فقد جمعت الرسالةَ التي توصلها هذه الدعوة، وهي دين الإسلام، وعمليةَ نشر الإسلام وطرقَ تبليغه، وإقامة الحجج، وبيَّنت حال القائم بها.

ثانيًا-المقصود بالمصلحة:

-المصلحة عرفها الإمام الغزالي -رحمه الله- بأنها في الأصل:" عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرة" [المستصفى: 1/174]. ومن المتفق عليه بين جمهور علماء المسلمين:" أن الله سبحانه ما شرع حكمًا إلا لمصلحة عباده، وأن هذه المصلحة إما جلب نفع لهم، وإما دفع ضرر عنهم، فالباعث على تشريع أي حكم شرعي هو جلب منفعة للناس أو دفع ضرر عنهم" [أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف: 1/64].

-والدعوة إلى الله تعالى بأحكامها ووسائلها راجعة إلى أحكام الإسلام، ولهذا: فإن إعمال المصلحة في الدعوة أمر معتبر، وسبيل شرعي، شأنُ الدعوة في ذلك كشأن الأحكام الشرعية الأخرى، فإذا شهد الشرع باعتبار مصلحة دعوية ما، فهي معتبرة، وإذا شهد لها بالرفض والإلغاء، فهي ملغاة غير مقبولة.

ثالثًا-ضوابط اعتبار المصلحة الدعوية:

حذَّر العلماء عند العمل بالمصلحة من دخول الهوى وحظوظ النفس، في قضية اعتبارها أو إلغائها، ودعوا إلى اليقظة والحذر في ذلك، فقد يختلط تقديرُها على الوجه الصحيح على طالب العلم؛ قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-:" ولكن التحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر، حتى يتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها، أو مفسدة أرجح منها، أو مساوية لها" [المصالح المرسلة، للشنقيطي: 1/21].

 فالحاجة كبيرة إلى ضوابط شرعية، تضبط هذه المصالح، وتضيء لطالب العلم طريقه، وتجعله على بصيرة في تقديرها واعتبارها، في مسيرته الدعوية إلى الله تعالى، ومن هذه الضوابط:

1-الضابط الأول: أن تكون محققةً وحافظةً لمقصدٍ من مقاصد الشريعة، وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال؛ قال الإمام الغزالي:" لكنا نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينَهم ونفسَهم وعقلَهم ونسلَهم ومالَهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة" [المستصفى: 1/174].

 ومن أمثلة ذلك: إقامة احتفالات حفظ القرآن الكريم، إذ في هذه الاحتفالات إدخال السرور على قلوب الطلاب، وفيها مظهر من مظاهر تعظيم كتاب الله تعالى، ففي هذه الاحتفالات مصلحةٌ تحقِّقُ مقصدًا من مقاصد الشريعة، وهو الاهتمام بالدين والعناية به، ولا شك أن القرآن الكريم هو أصل أصول الإسلام.

2-الضابط الثاني: ألا تكون مصادمةً لأصلٍ من أصول الشَّرع، كأن تكون مخالفةً لنص أو إجماع أو قياس جليٍّ، ويرى بعض أهل العلم أن مجرد افتراض ذلك لا ينبغي:" فإن فرض مخالفة المصلحة للكتاب والسنة والإجماع مجرد فرض لا واقع له" [المصلحة عند الحنابلة: 1/18].

ومن أمثلة ذلك: قطع يد السارق، فقد ذهب بعض المفكرين إلى أن الحكم بقطع يد السارق كان في وقته وظروفه يحقق المصلحة ويلائمها، وأما اليوم فلم يعد كذلك، وأن مصلحة الدعوة تقتضي القول بحبسه، والعمل على إصلاحه؛ حتى لا يؤدي ذلك إلى النفرة من الدين.

فهذه المصلحة ملغاةٌ غير معتبرة؛ لأنها مخالفة لنصٍّ صريح في كتاب الله، قال تعالى:﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 38-39]. فالمصلحة كل المصلحة تكون بالقيام بما أمر الله تعالى، وذلك حينما يستوفي هذا الحكم شروطه ولوازمه، وأما تطبيق الحدود دون مراعاة شروطها ولوازمها فسيكون ظلمًا للناس وللشريعة ذاتها.

والحقيقة أن الإنسان لو تفكَّر وتأمَّل في هذه العقوبات بتجرد وعقلانية، وهو متحررٌ من ضغط التأثر بالعالم الغربي، لتبيَّنَ المصالحَ العظمى من الاهتمام بهذه الزواجر الإلهية.

3-الضابط الثالث: أن تكون المصلحة يقينية أو غلب على الظن اعتبارها، قال المرداوي: "مهما وجدنا مصلحةً غلب على الظن أنها مطلوبة للشرع، فنعتبرها؛ لأن الظن مناط العمل" [التحبير شرح التحرير: 7/ 3394]. أي: يغلب على الظن وجود هذه المصلحة، وليست مصلحة موهومة.

 ومن أمثلتها: إقامة المراكز الصيفية للناشئة، فقد عُلم من التجربة حصول نفع كبير منها، وكفُّ شر كثير بالقيام بها، فهي تفسح المجال للشباب للهو المباح، واستغلال الوقت في الخير، وبذلك يضعف تعرُّضهم لمواطن الانحراف ومجالس الفساد والشرور.

4-الضابط الرابع: أن تكون المصلحة عامة لا خاصة، ويعني ذلك أنها توضع لمصلحة عموم الناس، وليس لمصلحة جهة معينة أو شخص معين، كما جاءت الإشارة إلى ذلك في كتاب [الوجيز في أصول الفقه لعبد الكريم زيدان: 242].

ومثال ذلك: أن تكون جماعة في سفينة، وقد وقعوا في خطر، فلو رموا واحدًا منهم في الماء لنجا البقية، وإلا فهم جميعًا في خطر، فهذه مصلحة ليست كلية عامة، ولذلك فلا رخصة لهم بذلك. [انظر: شرح تنقيح الفصول، للقرافي: 3/188، والمصالح المرسلة، للشنقيطي: 1/16].

5-الضابط الخامس: ألا تكون هذه المصلحة في العبادات؛ لأن أمر العبادات أمر توقيفي، يلزم فيه الاتباع، ولأنَّ معاني العبادات لا تُدركُ على وجه التَّفصيل، كما لا تُدرك وجوهُ المصالح فيها إلا بدلالة الشَّرع.

 قال الإمام الشاطبي:" فالمصالح المرسلة -عند القائل بها- لا تدخل في التعبُّدات ألبتة، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية، ولذلك تجد مالكًا رحمه الله، وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشددًا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين؛ فلذلك نهى عن أشياء وكره أشياء" [الموافقات: 3/285].

رابعًا- ضوابط تحديد المصلحة عند التعارض:

واقع الداعية يجعله أحيانًا أمام خيارات متعددة، وقد يعجز عن الجمع بين هذه الخيارات، مما يضطر إلى تقديم واحد على آخر، ولكن هذا التقديم أو الاختيار ليس متروكًا للرغبات والأهواء، وإنما لابد فيه من الاجتهاد وبذل الوسع؛ لتكون المصلحة موافقة لمقصد الشارع، ولقد وضع العلماء ضوابط يهتدي بها الداعية في تحديد المصلحة واختيارها، عند حصول التعارض بينها:

1-الأول: تقديم المصلحة الراجحة على المصلحة المرجوحة، وذلك حينما يعجز المكلَّف عن الإتيان بهاتين المصلحتين؛ قال الله تعالى:﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 19].

قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-:" إذا تعارضت المصلحتان، وتعذَّر جمعُهما، فإن عُلِمَ رجحانُ إحداهما قُدِّمت" [قواعد الأحكام: 1/51].

 وقال ابن القيم -رحمه الله-:" وقاعدةُ الشرع والقدر تحصيلُ أعلى المصلحتين، وإن مات أدناهما، ودفعُ أعلى المفسدتين، وإن وقع أدناهما وهكذا" [إعلام الموقعين: 3/279].

ومن أمثلة هذا:

السَّهر بعد العشاء، فإنَّ فيه كراهة؛ لكونه ذريعة إلى تفويت قيام الليل، ولكن إن عارضته مصلحة راجحة، كالسَّهر في طلب العلم وتحصيله، والسعي في مصالح المسلمين فإن الكراهة تزول. [انظر: إعلام الموقعين: 3/148].

2-الثاني: دفعُ المفسدة الأكبر مقدَّم على دفع الأقل، وفي سورة الكهف توضيح لهذا الضابط؛ قال الله تعالى:﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف: 79]. فقد دفعَ العبدُ الصالح المفسدةَ الأكبر، وهي غضب السلطان وأخذه للسفينة، بمفسدة أخف، وهي خرق السفينة.

فقد يترك الداعية أحيانًا الإنكار على الناس في بعض المخالفات؛ خشيةَ أن يؤدي إنكاره إلى وقوعهم في منكرات أكبر منها، فيترك الإنكار في المخالفات التي هي أقل شرًا وإثمًا؛ لعله بذلك يبعدهم من الوقوع في الأعظم والأخطر.

3-الثالث: أن يراعي الجانب الأقوى في المنفعة أو المفسدة، فإن كانت المنفعة أكبر جلبَها، وإن كانت المفسدةُ هي الغالبة درأَها، وهكذا.

ودليل ذلك قوله تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219]. فلما كانت المفاسد أعظم وأغلب حُرِّم الخمر والميسر.

ومن ذلك امتناع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتل المنافقين، الذي أتعبوا الدعوة الإسلامية في المدينة، بمكرهم وكيدهم، وتأليب الكفار على المسلمين، والمصلحة في قتلهم ظاهرة، ولكن مفسدة قتلهم أعظم؛ فانتشار ذلك بين العرب يكون ذريعة إلى النُّفرة من دخول الدِّين.

 قال الشاطبي:" فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عرفًا، وإذا غلبت الجهة الأخرى، فهي المفسدة المفهومة عرفًا" [الموافقات: 2/45].

4-الرابع: تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة، وذلك إذا تساوت المصالح فيها مع المفاسد، والقاعدة المشهورة في ذلك تقول:" درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح".

 والأمثلة في ذلك كثيرة، منها: إكراه شخص على إطلاق النار على الغير، كما كانت العصابة النصيرية تفعل مع العناصر الذين لا يريدون إيذاء المتظاهرين، فتأمرهم بإطلاق النار، ومن يرفض يُقتل، فليس لهذا المُكرَه أن يُنقِذَ نفسَه بقتل غيره؛ فقد تساوت المصلحة هنا مع المفسدة، فكان الاختيار هو درء قتل الغير، وإن قُتل هذا الشخص.

خامسًا-وفي الختام:

1-الحاجة كبيرة إلى معرفة ضوابط المصلحة في الحركة الدَّعوية، وإلى فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد فيها؛ وذلك لأن هذا الفقه العظيم يؤهل الداعية إلى أن يحقق مصالح عظيمة في دعوته، وأن يدفع عن المجتمع مفاسد كبيرة.

2-الإخلال بهذا الفقه يفوِّت على الأمة مصالح كبرى، كما يجلب لها مفاسد، لا تُحمد عقباها.

3-تحديد المصالح واعتبارها، ليس لكل متصدِّر للعلم والدعوة، إنما هو من اختصاص أهل الفقه والعلم والنظر، والمعروف منهم بالتقوى والخير والصلاح، فجديرٌ بنا أن نرجع إلى هؤلاء العلماء الربانيين؛ لتصحَّ دعوتُنا وتسلم طريقتُنا.

اللهم ارزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، واهدنا سبل السَّلام، وأخرجنا اللهم من الظلمات إلى النور، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المصادر:

مجلة مقاربات