من معوقات الاستقامة... التسويف

الكاتب : عامر الهوشان
التاريخ : ٤ ٢٠١٨ م

المشاهدات : 4101


من معوقات الاستقامة... التسويف

غدا سأبدأ حياة جديدة عنوانها الاستقامة على طاعة الله والثبات على التزام أمره واجتناب نهيه.. سوف أتوب بعد أيام وأتوقف عن اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي.... سأقطع عهدا على نفسي فور انتهائي من العمل الذي بين يديّ بأن لا أعود إلى أيام البعد عن الله وليالي الشرود عن عبادته وطاعته..

 عبارات يرددها كثير من أبناء الأمة هذه الأيام , يُسكتون من خلالها صوت تأنيب الضمير و الواعز الفطري الإيماني في قلوبهم , ويُمنون بها أنفسهم بالاستقامة على طاعة الله وعدم الانحراف عن نهجه في المستقبل القريب أو البعيد الذي لا يضمنون مجيئه وهم على قيد الحياة .

 تمر الأيام والشهور والسنون ويأبى يوم الاستقامة الموعود أن يأتي , ولا يشعر المُسوّف المسكين إلا وقد داهمه الزمن وأثرت في جسده وشبابه الأعوام و أوهن في عزيمته الشيطان الذي لم يجد ثغرة لوساوسه ومدخلا لمنع وإعاقة استقامته - واستقامة بني آدم عموما - أفضل وأعظم من مرض التسويف وداء التأجيل .

 لا يجدي نفعا اعتذار بعض المسوّفين بصدق نيتهم في التوبة والاستقامة ورغبتهم الشديدة في الخلاص مما هم فيه من طول الأمل وضعف الإرادة ما دام الأمر لم يتعدَّ حدود النية ولم يترجم إلى توبة نصوح وعمل صالح ومجاهدة نفس وتحمل تكاليف...فمن المعلوم أن العمل الصالح ركن أصيل من أركان الإيمان وترجمة فعلية لحقيقة الخضوع والإذعان لله تعالى.

لا يقتصر أثر تسويف ترجمة الاستقامة على منهج الله إلى أفعال وتأجيل تنفيذ متطلبات الالتزام بأوامره سبحانه ونواهيه على مجرد فوات الحسنات و فقدان لذة الطاعة وغياب الشعور بحقيقة الحياة الطيبة التي وعد الله تعالى بها عباده الطائعين بقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النحل/97....بل يتعداه إلى خطر تمكن الشهوات في القلب مع مرور الوقت حتى يغدو التخلص منها والانعتاق من أسرها من الصعوبة بمكان وهو ما قد يفضي في نهاية المطاف إلى الموت على العصيان ومفارقة الحياة على غير طاعة الله - عياذا بالله - .

 كثيرة هي الآيات والأحاديث التي تحث المؤمنين على المسارعة إلى الطاعات وعدم تسويفها والتسابق في المبرات وترك تأجيلها والمبادرة إلى الاستقامة والالتزام قبل فوات الأوان....وهو ما يشير بوضوح إلى أن نبذ التسويف وذم التأجيل هو أمر إلهي وتوجيه نبوي . 

قال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } آل عمران/133 , وقال تعالى: { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } الحديد/21 .

 ويأتي الهدي النبوي ليبين أن المسارعة والمسابقة والمبادرة إنما تكون بالأعمال لا بمجرد الأمنيات وأنها سلاح المؤمن الذي يقيه من تقلبات الأيام وأعراضها وينجيه من الندم على تسويف الاستقامة يوم لا يجدي ولا ينفع الندم , فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدَّابَّةَ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ) والمقصود باردوا بالأعمال الصالحة قبل وقوع هذه الأمور .

 العلماء والمربون والمصلحون مجمعون على أن التسويف من أعظم أسلحة إبليس اللعين ومن أضر العادات بالإنسان ومن أكثر الآفات التي لا يجني منها المسلم إلا الحسرة والندامة والخسران . 

 يقول ابن القيم في مدارج السالكين وهو يتحدث عن الفرار إلى الله : "يفر من إجابة داعي الكسل إلى داعي العمل والتشمير بالجد والاجتهاد والجد هاهنا هو صدق العمل ، وإخلاصه من شوائب الفتور ، ووعود التسويف والتهاون ، وهو تحت السين وسوف ، وعسى ، ولعل ، فهي أضر شيء على العبد ، وهي شجرة ثمرها الخسران والندامات" 468 .

 وفي كتابه "الفوائد" وصف رحمه الله هذه الآفة بأنها من الصوارف عن الخير قائلا : " كلما جاء طارق الخير صرفه بواب "لعل وعسى" .

ويقول الحسن البصري رحمه الله : "إياكَ والتسويف فإنك بيومك ولست بغدك فإنْ يَكُنْ غد لك فكِسْ فيه - أي اغتنمه واجتهد فيه - كمــا كِستَ في اليوم ، وإلا يكن الغدُ لك لم تندم على ما فرَّطـــت في اليوم" كتاب الزهد لــ"هناد بن السري" ص289.

 يبقى التذكير بأن علاج داء تسويف الاستقامة على طاعة الله ومعالجة آفة تأجيل الالتزام بأوامر الله ونواهيه يكمن في أشياء كثيرة أهمها : عدم نسيان المُسوّف لحقيقة أنه لا يملك من حياته إلا اللحظة التي يعيشها الآن , وأن الموت ربما يداهمة قبل إعلان توبته وإظهار استقامته , وأن يجعل من قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} المؤمنون 99 – 100 رادعا له ومحذرا من تسويف الطاعة وتأجيل الاستقامة .

المصادر:

المسلم