العابدون الله على حرف

الكاتب : مجاهد مأمون ديرانية
التاريخ : ٢٧ ٢٠١٤ م

المشاهدات : 2938


العابدون الله على حرف

شاهدت قبل سنوات تسجيلاً مصوراً قصيراً لم أنسَه من بعد. مَدّ رجلٌ من المغامرين الحمقى خشبةً ضيّقةً بين عمارتين عاليتين ومشى عليها منتقلاً من العمارة الأولى إلى الثانية. ولعله تمرن جيداً على خشبة قليلة الارتفاع من قبل، فإنه لم يظهر عليه شيء من الخوف أو التردد حينما بدأ بالمشي بين العمارتين، ولكن يبدو أنه لم يحسب حساب تيار الهواء الذي يزداد قوةً في الأعالي، فلما هبّت عليه الريحُ القوية دفعَته فسقط من عَلٍ وارتطم بالأرض فمات على الفور.
 

 

لا أزال أتذكر هذا المشهد المريع كلما قرأت قوله تبارك وتعالى: {ومن الناس مَن يعبد الله على حَرْف، فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ به، وإن أصابَتْه فتنةٌ انقلب على وجهه}، فيُخيِّل لي خيالي عبادةَ أولئك العابدين على الحرف كمشي ذلك الأحمق على الخشبة الضيقة المعلقة في جوّ السماء، وكما دفعَته فأسقطَته أهونُ ريحٍ فإن أولئك القوم -هداهم الله- يُزلّهم ويسقطهم أدنى ابتلاء.

لقد شَبّه القرآن -في هذه الصورة العجيبة- عبادةَ أولئك القوم بالمشي على الحرف، وهو الطرف القَصِيّ من الطريق، فإنهم يتركون الجادّة العريضة التي يمشي الماشي فيها في أمان ولو مال إلى اليمين قليلاً أو مال قليلاً إلى اليسار، ويأخذون الطرف الأقصى الضيق المحاذي للهاوية، فإذا تعرضوا لأي قلقلة (ولو كانت قلقلة هَيّنة يسيرة) سقطوا إلى الموت والضياع.

خطرت ببالي هذه الآية وهذه المعاني اليوم عندما سمعت عن بعض الناس في سوريا، وأرجو أنهم قلّة بإذن الله؛ قوم أتعبهم طول البلاء فيئسوا من ربهم وأساؤوا الظن به، فكفّوا عن دعائه وطلب الفرج منه، ثم كَفّ بعضُهم عن الصلاة وعن العبادة جملة. فكتبت من أجلهم هذه الكلمات على سبيل الذكرى، وأرجو أنهم مؤمنون غشيَت إيمانَهم غاشيةٌ من اليأس والقنوط، ثم لن تلبث أن تنحسر قريباً ويعودوا أفضلَ ممّا كانوا بإذن الله رب العالمين.

*   *   *

إن من أعجب العجب أن الناس الذين يتعاملون مع الله "على حرف" هم أنفسهم الذين يتعاملون مع المخلوقات والمصنوعات على الجادّة العريضة.

إنهم يجازفون بقطع العلاقة مع الله إذا ابتلاهم الله بمرض أو فقر أو خوف وشدّة حال، ولكنهم يصبرون طويلاً ويحافظون على علاقاتهم الدنيوية بكثير من المزعجات والمنغّصات، ولو أنهم ضاقوا بكل بلاء فقطعوا سببَه لرأينا الأعاجيب: سينتهي نصف الأولاد في الملاجئ وثلثا المتزوجين إلى الطلاق، وسوف يتخلص ثلاثة أرباع أصحاب السيارات من سياراتهم القديمة ويرمي أربعةُ أخماس مستعملي حواسيب "ويندوز" حواسيبَهم من الشبابيك.

ولكن أحداً لا يصنع ذلك. إن الوالدين الذين يزعجهم أولادُهم الصغار يحتملون إزعاج الأولاد عشرَ سنين ولا يَهَبونهم للملاجئ، والأزواج والزوجات الذين تنشأ بينهم الخلافات يصبرون على خلافاتهم العمرَ الطويلَ ولا يهدمون بيوتهم بالطلاق إلا في أقل الحالات، ويحتمل الرجال سياراتهم القديمة ويتعهدونها بالرعاية والإصلاح، ويستمر الناس في استعمال حواسيبهم المثقَلة بنظام التشغيل الشبابيكي الغبي (ويندوز) كل يوم ولا يرمونها من الشبابيك.

أكلّ ما سبق أكرمُ على أولئك القوم من الله؟ لماذا يتسع صبر بعض الناس في كل تلك الحالات ولا يفرّطون في علاقاتهم بمن يضايقهم من الناس وبما يضايقهم من الأشياء، ثم يتسرعون بقطع علاقتهم مع الله عند أول امتحان؟

*   *   *

ليقرأْ مَن عَبَد الله على حرف، مَن أصابه اليأسُ فانقلب عن عبادة الله وترك ذكر الله ودعاءه، ليقرأ خاتمة الآية الرهيبة: {خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين}، ثم ليقارنْ بين هذه النهاية الكارثية ونهاية الراضين بقضاء الله: {رضي الله عنهم ورَضُوا عنه، ذلك الفوز العظيم}.

كيف يفرّط أي عاقل من الناس بالفوز العظيم ويفضّل عليه الخسران المبين؟

لقد قُضي الأمر يا عباد الله؛ جَفّت الأقلام ورُفعت الصحف، وقضاءُ الله ماضٍ في خلقه برضا الراضين وسُخط الساخطين. فارضوا عن الله وعن قضاء الله يرضَ الله عنكم، أو اسخطوا (وأرجو أن لا تفعلوا) فلن يغيّر السخط القدَرَ ولن يرفع البلاء؛ في حديث أنس: "إنّ عِظَمَ الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحبّ قوماً ابتلاهم، فمَن رضيَ فله الرضا ومن سخط فله السّخط".

اللهمّ صبّرْنا على ما ابتليتَنا به من بلاء وارفع به درجاتنا وقرّبْنا به إليك.

اللهمّ لا تجلعنا من الخاسرين الذين عبدوك على حرف، اللهمّ اجعلنا من الراضين بقضائك الذين وعدتهم بالفوز العظيم.

المصادر: