الموءُودة.. ثورة الغلابة

الكاتب : عباس شريفة
التاريخ : ١٢ ٢٠١٦ م

المشاهدات : 3044


الموءُودة.. ثورة الغلابة

لعل ما بين  الحرية والأنوثة من وشائج  وثيقة وعلاقة وطيدة  ما يجعلهما توأمان  فاسم الحرية هو اسم أنثوي في اشتقاقه  ومن حيث  عداء الجاهلية للأنوثة وعداء الطغاة للحرية  تشابه كبير في شدة الكراهية التي تكنها صدورهم لجمال الحرية  والأنوثة بكل ما تحملنه من معان  ذلك أنهم لا يعرفون من معنى الأنوثة إلا العار ولا يعرفون من معنى الحرية  إلا أن يتساوى الأسياد مع العبيد .
إن من أعضل المعضلات أن تقيم الدلائل والبراهين على الحقائق التي تشرق في سماء الفطرة، يستشعرها الإنسان السليم، ولكن ما تستطيع إثباتها ببراهين ملموسة، لمن يريدون رؤية المعاني المجرّدة جهرة، ولا غرابة أن يتنكّر لها من فسدت إنسانيّته وتلبدت أذواقه، وانحرفت فطرته، فقد تنكر العين ضوء الشمس من رمد.
هي كذلك الحريّة، تساكن القلب، وتهفو لها النفس، كحنين المغترب للأوطان، وتهيم له نفوس الأحرار، كهيام العيس التي شفّها الظمأ لمورد الماء العذب.
الحريّة كالحب، لا يستطيع أن يصف المحبّ ما يعتريه من حرّ النوى رغم ما يعانيه وما يكابده من برحاء الشوق وألم الهجر.
أمّا الخانعون الفاقدون لهذه الحرقة الملتهبة من عبيد القيد والسوط، دائماً ما يسَوِّغونَ تخلّفهم عن ركوب سفينة الثورة، لأنّهم لا يعرفون معنى الرسوّ على شواطئ الحرّيّة.
وهم راضون يستعذبون الذلّ والهوان، ويضربون مثل السوء بحريّة الانحلال والفوضى، ويأتون باب الجبن مُتعلّلين بِالقيم والأخلاق، كنوع من تسويغ خدمة الطاغية.
ومع كلّ مغالطاتهم فلسنا ملزمين بتبيان معنى الحريّة التي نريد، فإن للحريّة معنى في فطرة الإنسان لا يدركه إلا الأحرار.
فمن أين لمن ألِفَ أن يعلفَ في قفصه، ويُقصَّ جناحُهُ، ويحرمَ التحليقَ، أن يستشعرَ لذّةَ التحليقِ فوق القمم؟!.
وهنا تأتي العلاقة الجدليّة بين الثورة والحريّة، في شق طريق الحياة، والانتفاض من الجدث، وكأنّ إسرافيل ينفخ فيها روحاً جديدة يومَ بعثِها، وقد ظنّ الطغاة أنّها لا تعود للحياة أبداً، كيف وقد وسّدوها في الترب، وهي تنبض بالحياة كأنّها الموءودة.
ولم يدر أولئك الطغاة أنّ الحريّة هي فطرة الحرّ فطرة الحرّ التي لا تطيق مقاماً، وهي تألف السير دائبة كالنسيم، لتحيي كل أشجار البستان، التي خامرها الذبول، واصفرت أوراقها من عطش الحريّة والكرامة، وقد شحذ الحطّاب فأسه ليحزمها حطباً للتنّور، فإذا بنسمة الحريّة الرقيقة تهبّ على البستان، فتحييه ربيعاً من جديد، لتعود خضراء ممرعة.
ومنا هنا تبدأ قصة التلازم بين طريق الثورة وغاية الحريّة.
لكنّ الثورة التي لا ترفع قيمةً أخلاقيّة جاذبة لعاطفة الجماهير، تتمحور حولها، و ترى في هذه القيمة خلاصها، وفكّ أغلالها، وتمزيق قضبان سجنها، وكسر سوط جلادها، ترى فيها الحياة من فوهة الموت، وترى طريقها الأحمر بساطاً سندسيّاً، توشّى بالزهور، و تسترخص كلّ نفيس، في سبيل بلوغ ذراها، واعتلاء رباها، لن تكون بحال الخيط الناظم لعقد الشعب الثائر، وتقطع الخيط بخيوط الأدلجة الخاصّة هو فرط لعقد الحراك الثوري.
وساعة أن تتحول الثورة إلى أيديولوجيّات خاصّة، فإنّها تفقد معنى الثورة، لتتحوّل إلى معركة خصوصيّة، لا شأن لعموم الشعب بها، سواء انتصرت أم انهزمت، هو لا يعنيها بشيء
كما كان جواب عنترة لسيّده لمّا استثار في نفسه النخوة ليذبّ عن عرض قبيلته!
القبيلة التي ضنّت عليه بأعزّ ما يهفو له الإنسان، (حرّيّته المسلوبة)، لماذا يذبّ عنها إن انهزمت؟ فلن يزيد الغزاة على استرقاقه.
وإن انتصرت، فهو من عداد الرقيق، لن يتغيّر في حياته شيء.
فهو على الحالين في عداد العبيد والهمل.
فما كان جوابه لسيّده ( لم تخلق العبيد للكرّ، ولكن للحلابة والصرّ)، عندها فهم سيده: أنّ ما من شيء يفجر طاقة الشجعان، مثل تكسير قيد العبوديّة، وتنسم عبير الحريّة، ليتحوّل من نسر عجوز، إلى باز جارح.
فقال له: كرّ وأنت حرٌّ، عندها قام ليدفع عن حريّته في صورة تلك القبيلة.
لذلك كان من شأن الأيديولوجيا الضيّقة أن تجعل من الثورة صراعاً بين مستبدين: أحدهم يحمل قيداً أسودَ، والآخر يحمل قيداً أبيضَ، تنحاز لهم جيوش من العبيد، بحسب لون القيد الذي يفضلون، وبحسب الطعام الذي يقدمونه، وبحسب الجلاد الذي يفضلونه، كأنّ مشكلتهم مع الظلم تحلّ إن استبدل قيد الحديد بقيد من ذهب.
و الانحياز لأيّ منها هو انحياز عن طريق الثورة، وشرود عن غاية الحريّة، والدخول في حظيرة جديدة، مخافة خفق العصا، وطمعاً بنقر الحَبِّ المنثور على فخّ العبوديّة.
فيلهو بقوت الذل عن ذوق ما ذاقه الخليل عليهِ السلام وهو يصطلي بنار النمرود، وما ذاقه يوسف عليهِ السلام وهو يقضي في السجن بضع سنين، وما عاينه موسى عليهِ السلام وهو يضرب بعصاه البحر ويفر من فرعون خائفاً يترقّب، وما تنسمه محمد صلى الله عليه وسلم وهو في الغار مهاجراً،
ومنهم الواقفون في منتصف الطريق، ما استطاعوا مضيّاً ولا يرجعون.
أقول: ويل لهؤلاء المساجين في منتصف طريق الحريّة، التائهين على دروب بركان ثورتها،
يرون سياط الجلاد من ورائهم، فتحدوهم إلى الأمام، ويرون ثمن الحريّة الباهظ من أمامهم، فيحجموا إلى الخلف، لم يحسموا خيارهم، ولم يتخذوا قرارهم.
ولأن الحريّة لا تقبل الاحتكار، إلا عند من يحملون نفسيّة العبيد..
سنرتقي في طموحنا لنبلغ غايتنا في تحرير جلادنا من عبوديته لأدوات الاستعباد، فما من شيء أشقى على الحرّ من أن يعيش بين مجتمع من العبيد، وما من شيء أسعد لقلب الحرّ من أن يكون حرّاً بين أحرار.
حينها نستحق الحرّيّة بجدارة، ونكون مشعلها الملهم، ونورها المشع، يمزق سجوف الطغاة، ليوقظ تلك الرؤوس التي ثقل نومها تحت نير العبوديّة، وطال ليل الظلم وهي ترمق فجر الحريّة الجديد، فلا تجد له من أخر، وهو أقرب إليها من حبل الوريد.
وما بينهم وبين أن تنبت شجرتها و يستظلوا بوارف ظلالها إلا أن يروا جذورها من دماء وريدهم، ولا نصدق وهم الذي ينتظر من الذين صنعوا السجّان على أعينهم، أن يتعطّفوا على السجين بمفاتيح القيد لينال حرّيّته.
التاريخ يذكر أنّ القيود تكسر ولا تفتح، وأنّ الحريّة تؤخذ عنوة ولا تعطى عن طيب نفس.
ولكن السؤال الصعب الذي يتردّد دائماً: ماذا سنصنع بعد أن نتحرّر؟.
لماذا نبحث عن  طاغية جديد لنؤدّي له طقوس العبوديّة التي تربّينا على ممارستها، أم أنّنا سننفض عن كواهلنا كلّ ما علق بنا من رزايا الخضوع والاستبداد لأدوات القهر وعنت السنين؟!.
لماذا نبحث عن صنم جديد بعد أن كسرنا أصنام المعبد؟ هل سترهبنا نار النمرود فنعود لحظيرة الطغيان لنعكف على أصنامها؟.
لماذا نعتذر من فرعون قبل أن نصلب في جذوع النخل!
لماذا يرعبنا منظر الأخدود ونعود إلى دين الملك!
هل سنصل إلى تسوية مذلّة مع أبي جهل فنعبد ربّه عاماً ويعبد ربنا عاماً؟
هل سننتج طاغوتاً يحمل سوطاً مكتوباً عليه: باسم الله، بدلاً من السوط الذي كان يكتب عليه: باسم الشعب؟.
هل سنعمد إلى وأد ثورتنا بأيدينا كعربون مصالحة مع الجزّار الجديد، فننحر ثورتنا قبل أن ينحرنا.؟
ربما يكون ذلك عندما تتجسّد القيمة السلبيّة بفرد عارض، فتكون ثورتنا على المستبدّ، وليس على الاستبداد، وعلى الظالم وليس على الظلم، وعلى الصنم، وليس على الصنميّة.

 

 

 

حساب الكاتب على تويتر
 

المصادر: