سوريا والمشروع الجيوسياسي الروسي الجديد

الكاتب : عامر راشد
التاريخ : ٢٩ ٢٠١٦ م

المشاهدات : 2128


سوريا والمشروع الجيوسياسي الروسي الجديد

تقترب الذكرى السنوية الأولى للتدخل العسكري الروسي في سوريا دون أن تظهر حتى الآن مؤشرات تدل بشكل ملموس على إمكانية حدوث تراجع مفصلي في سياسات موسكو حيال الملف السوري في المدى المنظور.

بل خلافا لذلك تماما يبدو أن روسيا بدأت تكشف عن أن أهداف تدخلها العسكري، على المستوى الإستراتيجي، تخلع على هذا الملف أبعادا تضعه في سياق توجه جيوسياسي روسي شامل، لإعادة رسم خارطة تقاسم النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، من خلال مجموعة عمليات إعادة تمحور دولية ودولية وإقليمية، أبرزها ثلاث حلقات رئيسية:

الأولى تمحور مع الصين، والثانية تمحور مع إيران، والثالثة تمحور مع تركيا، في لعبة مركبة محفوفة بمتاهة من التناقضات الجيوسياسية، ترى روسيا أنها قادرة على استغلالها لصالحها في ظل انكفاء سياسات الولايات المتحدة والدول الفاعلة في الاتحاد الأوروبي.

الحرب مستمرة:
شكّل التدخل العسكري الروسي في سوريا، في 30 سبتمبر/أيلول 2015 مفاجأة لم تكن متوقعة، ومخالفة لكل التقديرات والحسابات، لجهة مصلحة روسيا في التدخل عسكريا وقدرتها على تحمل تبعاته سياسيا واقتصاديا، لاسيما في ظل العقوبات الاقتصادية الغربية والتراجع الحاد في أسعار النفط.
وراجت تكهنات على نطاق واسع بأن روسيا قامت بمراجعة سياساتها إزاء الأزمة السورية بعد إعلانها عن البدء بسحب قواتها من سوريا، في 15 مارس/آذار 2016، لكن سرعان ما خبت تلك التكهنات وثبت أنها كانت خاطئة.

وعلى أبواب الذكرى السنوية الأولى للتدخل العسكري الروسي في سوريا فجّرت موسكو مفاجأة ثانية من العيار الثقيل، بكشفها عن أن قاذفات روسية طويلة المدى قصفت، في السادس عشر من أغسطس/آب الجاري، مواقع لتنظيم "الدولة الإسلامية" والمعارضة السورية المسلحة في دير الزور وحلب وإدلب، انطلاقا من قاعدة همدان الجوية الإيرانية، في واقعة يُنظر إليها كتحول كبير، ليس في مسار الأزمة السورية، بل الخارطة الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط ككل.

تحول من شأنه أن يجعل التدخل العسكري في سوريا نقطة ارتكاز لعملية معقدة وطويلة، باستخدام الأراضي السورية كرقعة لحروب بالوكالة، واستخدامها كمنصة انطلاق رئيسية لحرب سياسية شرسة، ربما تكون مقدمة لحرب عالمية جديدة، ليس بالضرورة على منوال الحربين العالميتين الأولى والثانية. 

الصينيون قادمون: 
منذ بداية الأزمة السورية اتخذت الحكومة الصين موقفا لا لبس فيه في دعم النظام السوري، لكنها حاولت طوال السنوات الخمسة الماضية إظهار دعمها في إطار سياسي من خلال تعطيل قرارات أممية تدين النظام، في سعي منها -وفق وجهة نظرها- للعب دور دبلوماسي يؤكد أن لها كلمة نافذة في المنطقة على غرار روسيا، إلا أنها خرجت مؤخرا عن حذرها المعهود، بإبداء استعدادها لتعزيز التعاون العسكري مع الجيش السوري، بتدريب أفراده على استخدام أسلحة تم شراؤها من الصين. كما كشفت وزارة الدفاع الصينية عن وجود مستشارين عسكريين صينيين على الأرض السورية من أجل هذه المهمة.

لاشك أن الخطوة الصينية لقيت ارتياحا لدى روسيا إذ يمكن اعتبارها ثمرة متقدمة من ثمرات التمحور الروسي الصيني، بيد أن ذلك لا يمنع وجود مخاوف روسية من زيادة التدخل الصيني إلى المستوى الإستراتيجي، ففي مؤتمر استضافته موسكو في أواخر مايو/أيار 2016، وشارك فيه ممثلون عن الحكومات والأوساط الأكاديمية ورجال الأعمال من روسيا والصين، وقد اتفق المشاركون على أن الكثير من الأسئلة حول العلاقات الروسية الصينية مازالت بحاجة إلى إجابات، رغم أن العلاقات وصلت إلى "مستوى غير مسبوق"، على حد وصفهم.

فروسيا تدرك أن للصين طموحات تتجاوز سقف التحالف معها، وأن سعي الصين لتقويض النفوذ الأميركي والغربي في الشرق الأوسط، وكسر الهيمنة الأحادية الأميركية والغربية، يندرج في إطار طموح بكين إلى فرض قطبية عالمية ترث القطبية الأحادية الأميركية، قطبها الأول الصين وقطبها الثاني الولايات المتحدة، ويكون فيها للدول الكبرى الأخرى مقاعد في الصف الثاني.

ومن هذه الزاوية لا يمكن حصر الموقفين الروسي والصيني بالأزمة السورية، فالصراع على سوريا يكتسي طابع صراع جيوسياسي شرس، يعيد تذكير الجميع بأجواء "الحرب الباردة"، وربما تكون واشنطن غير منزعجة من التغيير في الموقف الصيني بخصوص سوريا، فهو قد يضعف مستقبلا الأوراق الروسية، فضلا عن اعتقاد صناع القرار في واشنطن بأن ما تتمتع به السياسة الصينية من براغماتية عالية يوجد فرصا للوصول إلى تفاهمات معها، أكبر بكثير من فرص التفاهم مع موسكو، وهذا يمكن توظيفه أيضا في تليين مواقف الأخيرة.

مكاسب روسية:
ما سبق لا يجيز التقليل من وزن روسيا في المعادلتين الدولية والإقليمية الشرق أوسطية، فهي استطاعت فرض نفسها كطرف رئيس لا يمكن تجاوزه في البحث عن تسوية للأزمة السورية. ويشار هنا، وفقا لقناة الجزيرة الفضائية، إلى أن المبعوث الأميركي إلى سوريا، مايكل راتني، طالب أعضاء من الهيئة السياسية للائتلاف السوري المعارض بالحوار مع روسيا، وأضاف خلال لقاء معهم "الإدارة الأميركية من خلال حوارها مع الروس تسعى لتفادي هزيمة المعارضة، مشيرا إلى أنه في حال لم تتدخل أميركا عند الروس فإن روسيا كان بمقدورها سحق المعارضة"، والرسالة واضحة لا تحتاج إلى تفسير، وتؤكد بشكل لا لبس فيه أن السياسة الأميركية ستظل عرجاء في المدى المنظور.

على الأرض، حصلت روسيا على أول قاعدة عسكرية خارجية منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، في منطقة مطار حميميم باللاذقية، وحسب الاتفاق الموقع بين الحكومتين السورية والروسية: "تتمتع المجموعة الجوية الروسية بحصانة كاملة من السلطة القضائية المدنية والإدارية السورية، وهي معفاة من أي ضرائب، وروسيا لها الحق في استيراد وتصدير الأسلحة والذخائر والمعدات والمواد بشكل معفى من الرسوم الجمركية".

وأعلنت وزارة الدفاع الروسية أنه "ستتم تهيئة الظروف لنشر طائرات النقل الثقيلة، وبناء مدارج جديدة ومواقف للطائرات وتركيب معدات لاسلكية جديدة، بما في ذلك نظام مراقبة الحركة الجوية. كما سيتم بناء منشآت جديدة في القاعدة- الثكنات، والمقاصف، والمستشفيات، وبالإضافة إلى ذلك، ستكون القاعدة مجهزة بمنظومات صاروخية ومدافع مضادة للطائرات من طراز (بانتسير) كما ستتم زيادة عدد القوات البرية".

وتزامن ذلك مع إعلان روسيا وإيران عن أنهما "اتفقتا على نشر قاذفات إستراتيجية روسية، من طراز توبوليف 22M3، في القاعدة الجوية همدان على أساس طويل الأجل"، ومن شأن هذا الاتفاق أن يغيّر الوضع السياسي في الشرق الأوسط، فهذه الطائرات تتميز بسرعة تفوق سرعة الصوت 1850 كم/ساعة، ويصل المدى الأقصى إلى حوالي 3000 كم. ما يتيح لها تغطية كامل منطقة الشرق الأوسط.

سياسيا استعادت روسيا علاقاتها الودية مع تركيا، بعد سنة من القطيعة والاتهامات المتبادلة، وتمخضت القمة بين الرئيس الروسي ونظيره التركي، في قصر قسطنطين بسان بطرسبرغ في التاسع من أغسطس/أب الجاري عن استئناف المشاريع الإستراتيجية المشتركة، والتأكيد على الرغبة في زيادة التعاون بين البلدين إلى مستوى جديد، بينما تمر العلاقات التركية- الأميركية بمرحلة حرجة.

كما عززت روسيا علاقاتها التحالفية مع إيران، حيث اعتبر محللون سياسيون روس أن "استعداد إيران لتقديم قاعدة همدان العسكرية لروسيا هو حدث فريد من نوعه في التاريخ الحديث للدولة الإيرانية، ودليل على وجود تحالف إستراتيجي وثيق بين البلدين. وهذه الخطوة تربط الجغرافيا السياسية الروسية مع مصالح إيران في المنطقة.. وبالنسبة لروسيا، فهذا الحدث هو الحدث الحاسم (اختراق إلى البحار الدافئة) في البحر الأبيض المتوسط وإيران والهند ". (مع ملاحظة أن إيران أكدت أن الوجود العسكري الروسي كان مؤقتا، وأن إعلان موسكو عنه كان "عملا غير مدروس").

 تحديات وعقبات:
  ومع كل ذلك فلن يكون من السهل على روسيا الاحتفاظ بمكاسبها، فالولايات المتحدة الأميركية لن تسلم بتقويض نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، ولن يعود بمقدور موسكو المحافظة على مقاربتها التي تعتمدها للتعامل بمرونة مع كل الأطراف في المنطقة، فالتحالف الروسي الإيراني سيترك أثرا سلبيا على علاقات روسيا مع دول الخليج العربي، وهناك محذور أن تؤدي زيادة حدة الاستقطاب في المنطقة إلى إشكالية كبيرة بالنسبة لموسكو ومشروعها الجيوسياسي في المنطقة.

أبعد من ذلك، لا تبدو المكاسب الروسية مضمونة تماما، فثمة عقبات تعيق قيام شراكة إستراتيجية بين روسيا وتركيا، فمواقف البلدين ما زالت متناقضة إزاء العديد من الملفات الجيوسياسية الساخنة، كالموقف من نظام حكم الرئيس بشار الأسد والصراع الأذربيجاني الأرمني، بالإضافة إلى وجود خلافات عميقة فيما يخص الملف الكردي في سوريا، ناهيك عن توجس روسيا من النفوذ التركي القوي في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق الناطقة بالتركية، (أذربيجان وأوزبكستان وكازاخستان وقيرغيزيا وتركمانستان) وهو ما تنظر إليه موسكو من منظور منافسة جيوسياسية لها في "حديقتها الخلفية"، إن صح التعبير.

ولا يمكن لروسيا في أي حال الحديث عن واقعية قيام تحالف إستراتيجي بين روسيا وإيران، فزواج المصالح بين البلدين من البوابة السورية لا يلغي احتمال الشقاق بينهما من البوابة نفسها. وثمة تاريخ من الصراع الجيوسياسي بينهما، ترجع جذوره إلى توقيع الإمبراطوريتين الروسية والفارسية "معاهدة تركمان شاي" عام 1828 لترسيم الحدود بينهما. كما أن عدم وضع روسيا ضوابط في علاقتها مع إيران يؤدي إلى خسارتها للدول السنية، وبالتالي خسارة منطقة الشرق الأوسط ككل.

بناء على ما سبق؛ واقعيا لا يمكن للأهداف الجيوسياسية الروسية أن تصل إلى ما هو أبعد من هدفين:

الهدف الأول: هو البحث عن شركاء دوليين وإقليميين، وهي مستعدة لتقاسم النصر معهم، حتى لا تتحمل ثمن الفشل لوحدها في حال حصوله، وحتى لا تغوص في مستنقع أفغاني جديد. ولذلك تسعى روسيا جاهدة لحملة عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة في حلب.

الهدف الثاني: الترويج لمنظومة أمنية متكاملة من آسيا الوسطى إلى الخليج وسوريا بمشاركة جميع الأطراف الإقليمية بديلا عن المنظومة الأمنية الأميركية المهيمنة منذ عقود.. مقاربة ربما تبدو بسيطة لكنها ستفتح معركة جيوسياسية شاملة، وغير مضمونة النتائج مع الحلفاء والشركاء قبل الأعداء.

 


الجزيرة نت

المصادر: