من ضيق الانتماءات إلى سعة الإسلام

الكاتب : رابطة خطباء الشام
التاريخ : ١٤ ٢٠١٦ م

المشاهدات : 4969


من ضيق الانتماءات إلى سعة الإسلام


أهل الإسلام ليس لهم سمة سوى الإسلام والسلام.. هو دثارُك وشعارك أيها المسلم، فلا تخرج من السعة إلى القوالب الضيقة؛ فالإسلامُ كله لك جادة ومنهجاً، والمسلمون جميعهم هم الجماعة، وإن يد الله مع الجماعة..وأعيذك بالله أن تتصدّع، فتكون نَهَاباً بين جماعات ورايات وانتماءات وفصائلية..تَعقد سلطانَ الولاء والبراء عليها. . فكم أوهنَتْ تلك الانتماءاتُ الضيقةُ حبلَ الاتحاد الإسلامي، وغشيتِ المسلمينَ بسببها الغواشي.. فاحذرْ رحمك الله أحزاباً, وطوائفَ طاف طائفُها، ونجَمَ بالشرِّ ناجمُها، فما هي إلا كالميازيب؛ تَجمعُ الماءَ كَدَراً، وتُفرِّقه هَدَراً؛ إلا من رحمه ربك.
1) الائتلاف أمر الله ورضوانه، والتشعب والتفرق من لعب الشيطان بابن آدم:
لقد أمر الله تبارك وتعالى هذه الأمة بالاجتماع والائتلاف ووحدة الكلمة ورصِّ الصفوف ونبذِ التنازع والتفرقِ والاختلافِ، وتركِ الشقاق والتفرق والتحزب، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران:103]. ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف:4].
وقال أيضاً: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَاوَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَاتَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾[الشورى:13].
قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ)[1]
ولقد تفتّتتُ الأمةُ اليومَ وتشرذمت لما ضحك علينا الشيطانُ وقسَمنا شيعًا وطوائفَ، وبدَّدنا أقساماً وأحزاباً، كلُّ حزبٍ بمالديهم فرحون، وكلُّ طائفةٍ بما عندهم مقتنعون ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون:53].
قد نجحَ الشيطانُ في تفريق قلوبنا، وشقِّ صفوفنا؛ ووصل إلى أعماقنا ودواخلنا، وزرع فيها الضغائنَ والأحقادَ، والكراهية والحسد؛ فصرنا نختلف على أبسط الأشياء، ويهجرُ بعضُنا بعضاً على أتفه الأمور، فضلاً عن التناحر والاقتتال، ولكنه رجسُ الشيطان وخبثُه، وصدَقَ النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (إنَّ الشَّيطانَ قد أيِسَ أن يعبُدَه المصلُّونَ في جزيرةِ العربِ ولَكنْ في التَّحريشِ بينَهم). أخرجه مسلم/2812
عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: (كان النَّاسُ إذا نزلوا تفرَّقوا في الشِّعابِ والأوديةِ ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ تفرُّقَكم في الشِّعابِ والأوديةِ إنَّما ذلكم من الشَّيطانِ).[2]
فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض.
2) التفرّقُ يوهِنُ بيضةَ الإسلام:
قال تعالى ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال:46].
أتى بفاء التعقيب فقال ناهياً لنا عن التنازع والاختلاف ﴿وَلَا تَنَازَعُوا﴾ فإذا حصل التنازع والاختلاف ذكر مباشرةً عواقبَ ذلك فقال ﴿فَتَفْشَلُوا﴾ وليس الفشل وحده فقط وإنما أيضا ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ أي تضعف قوتُكم وتتلاشى هيبتُكم وتصيروا لقمةً سائغةً لعدوكم.
ولننتظر المزيد من الفشل الذريع وتبدُّدِ القوةِ وذهابِ الهيبةِ، وحلول الوهن، إن أصررنا على التناحر والاختلاف الذميم فيما بيننا.
ها هو يجتمع العالم علينا ونحن نختلف.. وتتكالب الأمم ضدنا ونحن نزداد تشتتاً واختلافاً، وتزيد الهجمات علينا من كل حدَب وصوب.. ومكرُ الليل والنهار ضدنا جميعاً، ونحن منشغلون ببناء أمجادٍ ممزقةٍ موهومة!
ففي الوقت الذي يتحتم علينا أن نجتمع على أعدائنا، فإذا بنا نكشِفُ ظهورنا لهم، ونُظهِرُ خلافاتنا أمامهم، وندعوهم من حيث نعلم أو لا نعلم بأن يزيدوا في ضربنا والاستهانة بنا، لأنهم يروننا نكيدُ لبعضنا، ونتناحر فيما بيننا؛ فأين عقولُنا !؟ أم أين دينُنا الذي ندّعيه ونحامي عنه، ونرفعُ شعاره ورايته!؟
بل من المخزي أنَّ المتربِّصَ بنا صار يحرِّكُنا كالدمى بسبب خلافاتنا وولاءاتنا الضيقة، التي مزَّقت عباءةَ الإسلام، لتفصِّل انتماءاتٍ مشوهةٍ ممسوخة!
فهذا عدوُّنا اليومَ يبلغُ قمةَ صَلَفه وبطشِهِ بأهلنا في داريا، فيُمطرُهم الموتَ في كلِّ لحظةٍ.. وفي حلب وإدلب حيث لم تمهلهم غاراتُ البطش، وأسلحةُ الدمار الشامل وقتاً ليتنفسوا.. أو يذوقوا للعيد طعماً أو لوناً..
ألا فإننا بخلافنا وتناحُرِنا وتفرُّقِنا نحملُ كِفلاً عظيماً من هذا الإجرام.. بل لعلنا شركاء به، شعرنا أم لم نشعر بذلك! 
فلو جمعنا كلمتنا، وشبكنا أيدينا، ورصصنا صفَّنا، لقلبنا المعادلة على العالم كله، ولوقفنا سبباً عظيماً أمام يد البطش والإجرام التي أبادت شعبنا.
بل العجب لما يصل الخلاف بيننا إلى أن نستبيح دماء بعضنا، ونسطو على سلاح بعضنا، ونفرحَ بتحرير بعضٍ مما تحت أيدي بعضنا!! طاشت العقول، ورق الدين في النفوس.
ألا فليعلم هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم بريء ممن هذه حاله، فعن الحسن، قال: (شَهِدْتُهُمْ يَوْمَ تَرَامَوْا بِالْحَصَى، فِي أَمْرِ عُثْمَانَ حَتَّى جَعَلْتُ أَنْظُرُ فَمَا أَرَى أَدِيمَ السَّمَاءِ مِنَ الرَّهْجِ ، فَسَمِعْتُ كَلَامَ امْرَأَةٍ مِنْ بَعْضِ الْحُجَرِ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ: إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَرِئَ مِمَّنْ فَرَّقَ دِينَهُ وَاحْتَزَبَ). [ 3 ]
مع أنهما اسمان شرعيان, المهاجري والأنصاري, لكن لما كان هناك موالاة ومعاداة عليهما, ونصرة في هذين الاسمين، خرجت عن اسم الإسلام بعامة، صارت دعوى جاهلية.
3) إعلام الفصائل والجماعات أنْ لاشعار ولا اسم إلا الإسلام:
عن جَابِر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: (غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا, وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ, فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا؛ فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا, وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ, وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ, فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: (مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ), ثُمَّ قَالَ: (مَا شَأْنُهُمْ), فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الْأَنْصَارِيَّ, قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ)). [ 4 ]
قال العلامة ابن القيم: العلامة الثانية -عند علامة أهل العبودية- قوله: ولم يُنْسَبُوا إلى اسم أي: "لم يشتهروا باسم يعرفون به عند الناس" من الأسماء التي صارت أعلاماً لأهل الطريق, وأيضا فإنهم لم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه فيعرفون به دون غيره من الأعمال, فإنَ هذا آفة في العبودية, وهي عبودية مقيدة, وأما العبودية المطلقة, فلا يُعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها, فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها؛ فله مع كل أهل عبوديةٍ نصيبٌ يَضرِب معهم بسهم, فلا يَتقيد برسم ولا إشارة ولا اسم, ولا بزي, ولا طريقٍ وضعي اصطلاحي, بل إن سُئل عن شيخه, قال: الرسول صلى الله عليه وسلم, وعن طريقه, قال: الاتباع, وعن خرقته قال: لباس التقوى, وعن مذهبه قال: تحكيم السنة, وعن مقصوده ومطلبه, قال: يريدون وجهه, وعن رباطه وعن خانكاه, قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور].، وعن نسبه قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم
4) سبب الخلاف إنما هو البغي والهوى:
عندما أخبر الله عن أهل الكتاب واختلافهم، كشف سبب تفرقهم مع ما عندهم من العلم الذي كان يجب أن يجمعهم، ويحسم الخلاف الذي وقعوا فيه،وما ذاك إلا لبغي بعضهم على بعض، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[آل عمران:19]. ، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ}[الشورى: 14].
قال أبو العالية عن قوله تعالى: {إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}؛ بغياً على الدنيا وطلبِ ملكها وسلطانها، فقتل بعضُهم بعضاً على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس .[تفسير الطبري:3/142].

وقال الطبري في معناه: أنهم أتوا ما أتوا من الباطل على علم منهم بخطأ ما قالوه، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلاً منهم، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه تعدياً من بعضهم على بعض، وطلب الرياسات والملك والسلطان . (تفسير الطبري:3/142)

فالذي فرَق أهلَ الكتاب هو تنازعُهم على السلطة والملك، وحبُّ الرئاسة والظهور والسعي لحصول ذلك ولو بظلمِ الناس وأخذِ أموالهم وقطعِ رقابهم.
اللهم ألهمنا رشد أنفسنا، وارزقنا كلمة الحق في الغضب والرضا، واجمع كلمتنا واهد قلوبنا.
------------------------------
1 - رواه الإمام مسلم في صحيحة برقم/3236.
2 - إسناده صحيح، أخرجه عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الصغرى/526،وأبو داود/2628
3 - حديث حسن، الجامع في العلل ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل، رقم/334.
4 - البخاري/3518

المصادر: