عريضة "المنشقين" الأميركيين.. إحباط يستبق الرئيس القادم

الكاتب : إبراهيم فريحات
التاريخ : ٢٠ ٢٠١٦ م

المشاهدات : 2656


عريضة

أحدثت العريضة التي وقعها خمسون دبلوماسيا من وزارة الخارجية الأميركية ووجهوا فيها "انتقادات حادة" لإدارة الرئيس أوباما وطريقة تعاملها مع الأزمة السورية صدى هائلا في الأوساط السياسية والإعلامية الدولية.

كما أثارت العريضة التي كشفت عنها صحيفة النيويورك تايمز العديد من التساؤلات حول مدى قدرتها على إحداث تغيير جوهري في الموقف الأميركي من الحرب السورية التي دخلت عامها الخامس.
فهل نتوقع مثلا -بعد هذه الرسالة- أن يتم "توجيه ضربات عسكرية ضد حكومة الرئيس السوري بشار الأسد حتى تتوقف عن خرقها المتواصل لوقف إطلاق النار"؟

مفهوم الانشقاق:
بداية من الواضح أن هناك تباينا بين الصحف الأميركية والعربية في التعبير عما جرى، فقد استخدمت صحيفة النيويورك تايمز التي كشفت عن الوثيقة كلمة "dissent" لوصفها والتي تعني لغويا معارضة أو انشقاقا أو مخالفة، في حين استخدمت الكثير من الصحافة العربية مصطلح "انشقاق" لوصف الحركة التي قام بها دبلوماسيو وزارة الخارجية الأميركية.

ولأن كلمة "انشقاق" في الإطار السياسي العربي تنصرف إلى معنى "الانفصال" أو "الانسلاخ" كما في حال "المنشقين" عن النظام السوري -والذين عادة ما يحكم عليهم بالإعدام- أو "المنشقين" عن قيادة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عام 1983 والتي قادت حركتهم "الانشقاقية" إلى ما عرف وقتها بـ"حرب طرابلس" بين القيادة والمنشقين، فمن المهم هنا الإشارة إلى أن "الانشقاق" السياسي بالمفهوم الأميركي مختلف تماما عنه بمفهومه السياسي العربي.

فللمصطلح (الانشقاق) في الدبلوماسية الأميركية تاريخ طويل تعود بداياته إلى حرب فيتنام عندما قامت وزارة الخارجية الأميركية بإنشاء ما سمته "dissent channel" (قناة المنشقين) أو بمعنى أدق هنا "قناة المعترضين" والتي تسمح للمعترضين على السياسة الخارجية الأميركية من داخل السلك الدبلوماسي بتسجيل اعتراضاتهم وإيصالها إلى الجهات المعنية دون الخوف من تعرضهم للانتقام.

كذلك نشأت حركة احتجاجية مماثلة عام 1993 حين قام 12 من كوادر وزارة الخارجية بتوقيع عريضة وتسليمها إلى رئيس الدبلوماسية الأميركية وقتها وورن كريستوفر انتقدوا فيها سياسات إدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون للحرب في البوسنة، وطالبوه بالقيام بعمل عسكري، لما يقع على الولايات المتحدة من مسؤولية أخلاقية لمنع حدوث "إبادة جماعية" ضد المسلمين على يد القوى القومية الصربية هناك.

وهو ما يعني أن "الحركة الانشقاقية" الحالية لا تشير إلى تطور سياسي خطير يحدث في أروقة السياسة الخارجية الأميركية كونها تأتي ضمن القنوات المشروعة للتعبير عن الرأي داخل النظام نفسه، وهي أيضا جزء من آلية صنع القرار السياسي الأميركي، خلافا للحالة العربية التي تأتي -إن حدثت- كخروج على النظام وليس العمل من خلاله، ولهذا لم يكن من المستغرب أن يرحب وزير الخارجية الأميركي جون كيري بهذا الفعل ويعتبره "إعلانا مهما" سيبحثه حال عودته إلى واشنطن.

يؤخذ على هذه الحركة أو العريضة أن الموقعين عليها هم من المستوى الوظيفي المتوسط ولم يتم دعمهم بأسماء كبيرة من الكادر الأول في وزارة الخارجية. فالعريضة البوسنية عام 1993 مثلا تم دعمها من قبل ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة آنذاك مادلين أولبرايت التي أرسلت مذكرة إلى البيت الأبيض طالبته بالقيام بضربات جوية ضد الصرب، وكتبت تقول إنه إذا رفض الأوروبيون المشاركة فإن "علينا أن لا ندير ظهرنا لمسؤولياتنا الدولية".

دلالات ورسائل:
رغم محدودية الحركة الإحتجاجية داخل دهاليز صناعة القرار السياسي فإن الإدارة الأميركية ستخطأ كثيرا إن تجاهلتها ولم تتعامل معها بالمستوى الذي يتناسب مع رسالتها؛ فمستوى الإحباط من إدارة الرئيس أوباما للأزمة السورية داخل مؤسسات صنع القرار الأميركي وصل درجات غير مسبوقة، وتكمن أهمية هذه العريضة في أنها الأولى من نوعها التي تقوم ببلورة وتوثيق هذا الإحباط على شكل عريضة احتجاجية يتم تداولها عبر وسائل الإعلام.

صحيح أن كان هناك حركات "انشقاقية" مشابهة في تاريخ الدبلوماسية الأميركية ولكن قد تكون هذه الحركة هي الأكبر من حيث عدد الموقعين عليها الذي وصل إلى أكثر من خمسين مشاركا، مقارنة مع اثني عشر فقط على "العريضة البوسنية" التي قادت إلى تدخل أميركي دبلوماسي مكثف أفضى إلى توقيع اتفاقية دايتون التي أوقفت شلال الدم في البوسنة.

يلاحظ أيضا أن "العريضة السورية" قد تم تهريبها بطريقة متعمدة إلى وسائل الإعلام؛ حيث تذكر صحيفة النيويورك تايمز صراحة أنها تسلمت نسخة من العريضة مباشرة من "مسؤول رسمي في وزارة الخارجية" أي أن "المنشقين الأميركيين" قد تشاوروا وتآمروا وقرروا العمل خارج النظم والأطر الرسمية مثل الاكتفاء بالاحتجاج عبر "قناة المنشقين" التي تحدثنا عنها سالفا، وقاموا بتسليم نسخة من العريضة إلى وسائل الإعلام التي لا تعتبر جزء من المؤسسة الرسمية الأميركية في صناعة القرار.

في حين أن "عريضة البوسنة" استندت إلى أبعاد أخلاقية في حث كلينتون على التدخل العسكري، فقد شددت "عريضة سوريا" على البعدين الأخلاقي والإستراتيجي للمصلحة الأميركية كأسس للتدخل العسكري؛ فمن الناحية الأخلاقية يتضح أن سوريا ستتحول إلى "رواندا أوباما" التي ما زالت لعنتها (رواندا) تطارد الأمم المتحدة التي وقفت صامته تجاه الإبادة الجماعية هناك.

ولذا سيسجل التاريخ أن أكثر من أربعمائة ألف سوري قضوا في إحدى أكثر الحروب شراسة دون أن يحرك الرئيس الأميركي ساكنا لوقف شلال الدم هناك. ومن الناحية الإستراتيجية للمصلحة الأميركية فقد أشارت العريضة إلى أن وقف الحرب هو الطريق لمقاومة الإرهاب التي يضعها أوباما على رأس أولويات المصلحة الأميركية؛ فلهيب النار المستعرة في سوريا قد بدأ يلفح أطرافا دولية عديدة، وبدأت أفكار تنظيم الدولة تترجم إلى أفعال على الأرض في أورلاندو وسان بيرنادينو ومن يدري ما هو القادم بعد ذلك، كذلك فإن الإحباط من "موقف المتفرج" قد بدأ يعصف حتى بمؤسسة صنع القرار في أميركا حيث بدأت تتبلور الحركات "الانشقاقية" كما هو الحال الآن.

إلى الرئيس القادم:
ومع ذلك فليس من المؤكد أن تؤدي هذه العريضة إلى تغييرات جوهرية في السياسة الخارجية الأميركية كقيام إدارة أوباما بتوجيه ضربات عسكرية إلى النظام السوري وذلك لسببين رئيسيين: الأول لوجستي يرتبط بقصر الفترة المتبقية لأوباما في البيت الأبيض حيث يصعب القيام بتدخل عسكري يحتاج إلى تحضير ومتابعة كبيرين في أقل من ستة شهور. والثاني وهو الأصعب يتعلق بعقيدة أوباما التي تقوم على الانسحاب من حروب الشرق الأوسط -كما في العراق وأفغانستان- بدل التدخل فيها.

بالمقابل فقد جاء الرد الروسي على العريضة سريعا وحاسما حيث ندد ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي بالمذكرة الأميركية قائلا "هناك قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي لا بد من احترامها"، وربما فهم الكرملين خطورة العريضة أكثر مما فهمه البيت الأبيض.

ومهما يكن الأمر فإن أهمية العريضة تبقى في أنها رأت النور وخرجت إلى العلن ولن يقلل من أهميتها أن الرئيس أوباما سيتعامل معها -على الأرجح- كما تعامل مع الكثير من العرائض التي طالبته بالتدخل لوقف الحرب في سوريا والتي صدرت خلال السنوات الخمس الماضية.

والواقع أن هذه العريضة مقدمة للرئيس الأميركي القادم أكثر مما هي موجهة للرئيس الحالي؛ فإن كان أوباما سيتجاهل العريضة الآن فهناك رئيس قادم في شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم يقوم بتدوين ملاحظاته الآن حول حالة الإحباط الشديدة التي تسود مؤسسات صنع القرار السياسي، وربما تكون هذه العريضة بمثابة الخطوة الأولى في سياسة أميركية مختلفة حول سوريا للرئاسة الأميركية القادمة.

 

 

الجزيرة نت

المصادر: