ترك السلام واختلاف الصفوف وتنافر القلوب

الكاتب : هيثم الكناني
التاريخ : ٣ ٢٠١٦ م

المشاهدات : 5222


ترك السلام واختلاف الصفوف وتنافر القلوب

الحمد لله الذي امتن على عباده بنعم لا تعد ولا تحصى، والصلاة والسلام على من كانت سيرته أعظم مثال للبر والتقوى، وعلى آله وصحبه الذين لا يقدرهم حق قدرهم إلا من راقب من يعلم السر وأخفى، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر والقيامة الكبرى، أما بعد:

فمن النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- أن ألَّف بين قلوب أصحابه؛ تلك القلوب التي لا يدرك عمق ما كان يفرقها إلا من خبر حال العرب قبل الإسلام من التنافر والتفاخر والتقاتل, وإغارة بعضهم على بعض, وسبي بعضهم نساء بعض، فكيف وقد ألف الله بين هؤلاء فيما بينهم، وألف بين العرب والعجم، والأسود والأحمر، والغني والفقير، والسيد والعبد؟

لن يدرك حقيقة هذه النعمة حق الإدراك إلا من يقرأ قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103].

وقوله جل وعلا: (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال:62-63].

إن مما ابتلينا به في هذا الزمان ما نجده من تنافر بين المسلمين وتباعد واختلاف للقلوب، وهو ما يمكن أن يصل إلى حد التدابر والتقاطع والعداوة، كما نرى في بعض أماكن العمل وبين الجيران وبين الأقارب، بل ربما بين أهل البيت الواحد؛ وقد يكون دون ذلك, فترى كل إنسان يعيش وكأنه جزيرة معزولة عن محيطه من الإخوان والأصدقاء والجيران والأقارب، بل حتى داخل نفس البيت.

فإذا خرجت من الإطار الضيق ومحيطك الصغير، وجلت بناظريك في عالمنا الإسلامي الكبير، هالك ما تجد من خلافات وصراعات بين أبناء الدين الواحد المنتمين بالجملة لأهل السنة؛ صراعات فكرية وعلمية وسياسية واجتماعية و(كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون:53]، رغم أن العدو متربص بهم جميعاً، ولا شيء يسعده أكثر من هذه الخلافات والعداوات التي تضعف الجميع، فهو يتحين الفرصة المواتية لينقض عليهم جميعاً، وحينها لن يفرق بينهم، ولن يرحم سيفُه منهم أحداً.

ترى ما هو الحل والمخرج من هذا التيه؟

لا شك أن كتابات كثيرة كتبت لتشخيص الداء، وتحديد أبعاد المشكلات، والغوص في تفاصيلها، والبحث عن حلول مؤصلة عميقة، وهذا كله مطلوب وحسن، لكن هذا لا يعني أن الحلول لا بد أن تكون كلها كذلك، ولا يعني أيضاً أننا كأفراد عاديين -على اختلاف أعمالنا ومستويات تعليمنا ودرجات تأثيرنا فيمن حولنا- لا نملك أي شيء نقدمه في هذا السبيل.

إنني أزعم أن جزءاً كبيراً من حل المشكلة هو بأيدينا نحن كأفراد، وأن جزءاً كبيراً من حلها هو أبسط وأسهل بكثير مما نتخيل، بل إن الهدي النبوي أشار إلى ذلك بوضوح، ففي الحديث الذي رواه مسلم.. وغيره, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»(1).

هل هو حديث جديد يطرق سمعك لأول مرة أيها القارئ الكريم؟

أكاد أجزم أن كلنا أو جلنا يعرف هذا الحديث ويحفظه منذ نعومة أظفاره، ولكن هل تأملنا في معناه جيداً، وهل تشربنا هذا المعنى في قلوبنا؟ يقول النووي -رحمه الله-: "فيه: الحث العظيم على إفشاء السلام وبذله للمسلمين كلهم من عرفت ومن لم تعرف... والسلام أول أسباب التآلف، ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه تمَكُّن ألفة المسلمين بعضهم لبعض... وفيه: لطيفة أخرى وهي أنه يتضمن رفع التقاطع والتهاجر والشحناء وفساد ذات البين التي هي الحالقة"(2).

فهذا عمل بسيط يغفل عنه كثير من المسلمين ولا يلقون له ولا لآثاره بالاً، مع أن آثاره عظيمة جداً، وأي أثر أعظم من تحقق المحبة وكمال الإيمان ودخول الجنة؟!

ومن الأعمال البسيطة أيضاً التي نبه إليها نبينا -صلى الله عليه وسلم- وغفلنا عنها -إلا من رحم الله- قوله: "أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ, ثَلَاثًا، وَاللَّهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ" قَالَ النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَلْزَقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ, وَرُكْبَتَهُ بِرُكْبَةِ صَاحِبِهِ وَكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ»(3).

وفي الحديث الآخر: «رُصُّوا صُفُوفَكُمْ, وَقَارِبُوا بَيْنَهَا, وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ»(4).

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب التسوية، قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: "القولُ الرَّاجحُ في هذه المسألة: وجوب تسوية الصَّفِّ، وأنَّ الجماعة إذا لم يسوُّوا الصَّفَّ فهم آثمون، وهذا هو ظاهر كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-"(5).

ترى هل نقيم صفوفنا اليوم في الصلاة ونرصها أم أنها مفرقة مبعثرة تسرح الشياطين فيها وتمرح؟ إن من المتعين علينا والواجب اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نتبع الهدي النبوي في تسوية الصفوف ورصها، وهي أعمال هينة بسيطة، أفنعجز اليوم عن الإتيان بها ونحن نرى رأي العين آثار تركها واضحة جلية؟

وإن مما ينبغي التأكيد عليه هو ضرورة تنبيه الأئمة لهذا الأمر، فإن المسؤولية تقع عليهم بالدرجة الأولى، فهم يقومون في إمامة الناس مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في إمامة أصحابه، وقد كان الحرص على تسوية الصفوف ديدنه، وديدن الخلفاء والأئمة من بعده, فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ –رضي الله عنهما-، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ, يَمْسَحُ صُدُورَنَا وَمَنَاكِبَنَا, وَيَقُولُ: لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ»(6).

وقال الترمذي -رحمه الله-: وروي عن عمر –رضي الله عنه-: "أنه كان يوكِّل رجالًا بإقامة الصفوف، ولا يكبر حتى يُخبَر أن الصفوف قد استوت".

وروي عن علي، وعثمان –رضي الله عنهما-: "أنهما كانا يتعاهدان ذلك، ويقولان: استووا، وكان علي يقول: تقدم يا فلان، تأخر يا فلان"(7).

والله الموفق.

 

________________

(1) صحيح مسلم (1/ 74) (54).

(2) شرح النووي على مسلم (2/ 36).

(3) سنن أبي داود (1/ 178) (662)، وصححه الألباني.

(4) سنن أبي داود (1/ 179) (667)، وصححه الألباني.

(5) الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 10).

(6) سنن أبي داود (1/ 178) (664)، وصححه الألباني.
(7) سنن الترمذي (1/ 439) (227)، وصححه الألباني.

 

 

 

المصادر: