تشريع التجويع من مضايا إلى الفلّوجة

الكاتب : عبد الوهاب بدرخان
التاريخ : ١١ ٢٠١٦ م

المشاهدات : 2415


تشريع التجويع من مضايا إلى الفلّوجة

حاضراً ومستقبلاً، سيبقى في الذاكرة، في غور الوجدان، وفي أعماق المجتمع هذا العار التاريخي المتمثّل بحصار مدن وبلدات لتجويع أهلها وانتهاك إنسانيتهم وكرامتهم، كعقاب على ظروف لم يسعوا إليها بحُرِّ إرادتهم، وإنما زُجُّوا فيها مضطرين، ردّاً للاعتداء عليهم... ها هي الفلوجة تنضم إلى لائحة العار الإنساني/ اللاإنساني هذا، بعد مضايا ومعضمية الشام وداريا، التي كانت عناوين لحواضر سورية، وأصبحت أسماء لـ»مسارح» جرائم ضد الإنسانية ارتكبها النظام السوري ويواصل ارتكابها، مستعيناً بـ»حزب الله» اللبناني وسواه من الميليشيات الإيرانية.

كان الحصار التجويعي لقطاع غزّة أكثر ما أصاب سلطة الاحتلال الإسرائيلي بالخزي، وعرّضها للازدراء العالمي، أيّاً ما تكون عليه مواقف حكومات أميركا وأوروبا وسياساتها المنحازة لمجرمي الحرب في حكومات إسرائيل.

لكن حكام دمشق وبغداد ساروا على خطى هؤلاء المجرمين حتى تجاوزوهم، مستخدمين التجويع سلاحاً للإخضاع.

حصار العدو الخارجي يخيّر بين الاستسلام والمجاعة، فيصبح الجوع تلقائياً فعلَ مقاومة وصمود ودفاع عن النفس. أما حصار العدو الداخلي فعدا تجرّده النهائي من أي قيم يفترضها التواطن والتعايش والتراحم، ناهيك بأي أخلاقية على الإطلاق.
حكام إسرائيل أرادوا غزّة نموذجاً للجبروت العسكري، ودلالةً على أن البقاء لمن يقتل أكثر، لكنهم يبرهنون كل يوم أن ما يراكمونه من عداء في نفوس الفلسطينيين هو أكثر ما يقلقهم على وجودهم.

وحكام دمشق وبغداد يظنون أن موت الأطفال جوعاً في مضايا أو في الفلوجة يقلب وعي خصومهم ويؤمّنهم في مناصبهم أو يؤبّد سلالاتهم في الحكم. لكن الأوجاع والمعاناة والأحقاد التي تعتمل على وقع المجاعات، المعروفة والمموّهة، لا تصنع مستقبلاً لأي سلطة، بل تجعل من الحاضر وجرائمه مجرّد فصل في صراعات وجود بلا نهاية.
الفارق بين مضايا والفلوجة أن الأولى استطاعت اختراق الصمت بعد مرور أكثر من عام على حصارها، فأمكن للضغط الخارجي أن يمدّها ببعض الإغاثة. لكن مأساتها لم تنطوِ بعد، فقبل أيام قال رئيس فريق المهمات الإنسانية في سوريا، يان إيغلاند، إن ثلاثة صبية نزفوا حتى الموت أخيراً في مضايا، لأن «حزب الله» الذي يحاصر البلدة تجاهل «دعوات ملحة لإجلائهم»، مؤكداً أن شاباً في البلدة مات جوعاً «وكان يمكن إنقاذه».

أكثر ما يذهل الإغاثيين الدوليين أن هذا القتل بدمٍ بارد بات السلاح السائد، أما الأخطر فهو أن مآسي الحصارات والمجازر والمجاعات لا تنفك تتحول إلى وقائع «عادية» و»طبيعية» في غمرة تحلّل جماعي.
هذا تحديداً ما نشهده في الفلوجة، التي جعل منها الصمت الداخلي والخارجي، طوال عقد ونيّف فريسة مُجمعاً على التضحية بها. تُرك الاحتلال الأميركي يستشرس عليها بإجرام قلّ مثيله، وتُركت حكومة بغداد السابقة والحالية تقصفها بالبراميل والصواريخ وتستهدف مدنييها ومستشفياتها ومساجدها، ويحمّلونها الآن وزر اضطهاد تنظيم «الدولة»/ «داعش»، وكأنها كانت مخيّرة في احتضانه.
أكثر من ثمانين في المئة من سكانها (700 ألف) غادروها رافضين العيش في ظل هذا التنظيم. ورغم أنه طُرد من محيطها فإنه استُبقي ليضفي «مشروعيةً» على الاستمرار في قتلها.

يقول الهاشتاغ «الفلوجة_تقتل_جوعاً» وهو يشير بأصابع الاتهام إلى تساوي الجميع في الإجرام، مَن يسيطر عليها ومَن يتلكأ في تحريرها. وبعد حملة دولية لإغاثة المدينة كانت استجابة نظام بغداد والحليف الأميركي قصفاً جوياً حَصَد عشرات المدنيين.

 

 

العرب القطرية

المصادر: