التصلب الفكري عند الجماعات الإسلامية

الكاتب : عباس شريفة
التاريخ : ١٧ ٢٠١٦ م

المشاهدات : 5039


التصلب الفكري عند الجماعات الإسلامية

إن الجمع بين المرونة والثبات من أخص خصائص الشريعة الإسلامية وهذه خصيصة تقتضها خصيصة الخلود فلما كانت الشريعة خالدة ناسخة لما قبلها كان لابد أن تحمل قابلية الاستيعاب لكل مستجدات الحضارة والواقع المتغير ضمن مصادر التشريع المرنة ك(الاجتهاد) الذي لا يملك أحد أن يغلق بابه إلى يوم الدين.
تُعرف المرونة بأنها هي (الحدُّ الفاصلُ بين الثباتِ المطلقِ الذي يصل إلى درجة الجمود، والحركةِ المطلقةِ التي تخرج بالشيء عن حدوده وضوابطهِ، أي أنّ المرونة حركة لا تسلب التماسك، وثبات لا يمنع الحركة)
في كلّ منظومة فكريّة أو أيديولوجية هناك الدائرة الصلبة والدائرة المرنة حتى هاتين الدائرتين هي مستويات متباينة في شدة الصلابة والمرونة فلا مجال للنظرة الحدية المحضة التي تجعل من الحكم ثنائي.
فهناك من يظهر الإسلام بمرونة مفرطة تشابه الماء الذي يأخذ شكل الإناء الذي يوضع به ولون المحلول الذي يحل فيه وهناك من يظهره بمظهر التصلب المفرط كالجليد الذي يكسر كل إناء يوضع فيه.
والحقيقة أن في الإسلام الدائرة الصلبة (العقائد، العبادات، المحرمات القطعية) {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الكافرون،
وهناك الدائرة المرنة (الوسائل والأساليب والسياسة الشرعية) التي يناوِر فيها السياسيون (امحُها يا علي، اكتب محمد بن عبد الله)
الخوارج ومن ينتهج فكرهم جعلوا من الإسلام دائرةً واحدةً صلبة فتكسَّروا لأنهم لا يستطيعون المناورة، فينزلقون في مزالق التكفيروالتبديد.
والمرجئة جعلوا من الإسلام دائرة واحدة مرنة فتميّعوا ومناوراتهم تكون على كلّ الدوائر فينزلقون في مزالق الكفروالتضييع.
ونحن نرى الكثير من التيارات التي تنحو نحو التصلب والجمود إنما تفعل ذلك كردة فعل على من يجنحون نحو الميوعة والتحلل بِليِ أعناق النصوص وتأويل المحكمات وفي المسافة بين الفعل ورد الفعل ينحسر صوت العقل والرشد ويرتفع صوت التعصبية السمجة.
تكاد الجماعات الإسلامية ذات المناهج الخاصة ينقسمون إلى فئتين متقابلتين:
- جماعات تبرز جانب المرونة والتطور في أحكام الإسلام حتى تحسبها عجينة لينة.
- وجماعة تبرز جانب الثبات والخلود في تشريعه وتوجيهه حتى تحسبها صخرة صلدة.
وقليل من هذه الجماعات كانت رؤيتها واضحة لهذا المنهج الإلهي الفريد وتستطع المواءمة في تعاطيها بين  المتغيرات والثوابت.
إن من أجلى مظاهر التوازن التي يتميز بها نظام الإسلام هو التوازن بين الثابت والمتغير:

  • الثبات على الأهداف والغايات والمقاصد الكلية والمرونة في الوسائل والأساليب.
  • الثبات على الأصول والكليات والمرونة في الفروع والجزئيات.
  • الثبات في القطعيات والمرونة في الظنيات.

ومن الأمثلة على الجمع بين المرونة والثبات من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ثباته في موقفه صلى الله عليه وسلم من الُقريشية المخزومية التي سرقت ومحاولة قريش تخليصها من العقوبة عن طريق الشفاعة إلى رسول الله بحبه وابن حبه (أسامة بن زيد) فغضب الرسول وقام بينهم خطيباً قائلاً: ((إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها)) رواه الشيخان.
وتتمثل مرونته في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقطع الأيدي في الغزو)) رواه أبو داوود
جاء في مصنف عبد الرزاق عن الحكم بن مسعود الثقفي قال: قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخوتها لأبيها وأمها وأخويها لأمها، فأشرك عمر بين الأخوة للأم والأب والإخوة للأم في الثلث، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، قال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم [مجموعة الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية - ج 19: أصول الفقه الصفحة 69] [إعلام الموقعين عن رب العالمين]، كتاب عمر في القضاء وشرحه، تغير الحكم بتغير الاجتهاد الجزء الأول ص[87].

وهذا الإمام الشافعي رجع عن مذهب كامل في العراق إلى مذهبه الجديد في مصر لما بدا له من أدلة.
جاء في مناقب الإمام الشافعي للبيهقي(1/263) (قيل لأحمد بن حنبل: فما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أحب إليك أم التي عند المصريين، قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر، فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم ذلك)
تتعرض الجماعات الإسلامية للخطر نتيجة أحد أمرين:
الأول: أن تتصلب على ما شأنه التغير والتطور فتصاب الحياة بالعقم والجمود وهذا ما حدث في عصور الانحطاط والشرود عن هدي الإسلام الصحيح فتوقف الاجتهاد في الفقه وكان إغلاق باب الاجتهاد أكبر جناية على الفكر الاسلامي الذي وصل إلى الانحطاط بحجة ما ترك الاول للأخر من شيء ووقف الإبداع في العلم والابتكار في الحرب وضربت الحياة بالجمود والتقليد في كل شيء على حين أخذت المجتمعات الأخرى الراكدة تستيقظ وتتطور ثم تنمو وتتقدم.
الثاني: أن تخضع للتطور والتغير ما من شأنه الثبات والاستقرار كما نرى في عصرنا الحاضر إن فئة من أبناء المسلمين يريدون خلع الأمة من دينها باسم التطور.
إذا أردت لهدف أن لا يتحقق فضع له شروط مثالية تثير عواطف الأغرار وتجحد الإنجاز المنقوص لصاحب القدرة المحدودة وأكتفي ببطالة التقييم والمحاكمة.
الجمود في فكر التيارات الإسلامية يمتد إلى ثلاثة جوانب:
في جانب التعامل مع التيارات الإسلامية الأخرى ومرده إلى توسيع مساحة القطعيات على حساب مساحة الظنية فيصبح أي نوع من التلاقي هو تنازل عن المعلوم بالضرورة والاختلاف في ترتيب الأولوية يجعل بعضها تبدأ من حيث تنتهي الجماعة الأخرى فيحصل الاصطدام.
في جانب التعامل مع الحضارات الإنسانية والمنتج البشري المدني ورفض الإفادة من الوسائل بناء على اختلاف الأصول العقدية كمن يرفض تناول العسل لما أصابه من لسع النحل والقاعدة الضابطة لهذا الأمر [التفاعل بلا ذوبان والخصوصية بلا انغلاق]

إن استيراد الوسائل الحضارية يمثل قمة المرونة في نهج النبوة فقد استورد الخندق من حضارة فارس والخاتم من حضارة الروم والمنبر من حضارة الحبشة.
في جانب التعامل داخل الجماعة الواحدة بين الاتباع والقيادة فالعناصر يعدون بطريقة الآلة الصماء البكماء ضمن الشروط القياسية للحزب والتي تستعد لتلقي التعليمات دون المناقشة والاعتراض وظهر التصلب جلياً بين هذه الجماعات ومناهجها في ظل غياب مساحة الحوار وإرساء قواعد التقليد الأعمى وانعدام الاجتهاد والتجديد والمراجعة في فكر الجماعة والتحرك ضمن مقتضيات العصر والمكان.
فمشكلة المعجَـبينَ بالجماعات والرّموز أنهم يريدون تعميمَ أفكار مَن يُحبُّـون ومناهجهم على كل الظُّـروفِ الزَّمانيَّة والمكانيَّة فيقعون في التّـعصُّبِ المـمْجوجِ، والإنصاف أن تُـحاكمَ الأفكار في سياقِ خُصوصيَّـةِ الظَّـرف أمام مأزق التصلب الفكري الذي دخلت فيه بعض الفصائل الممنهجة.
{التمنهج هو جعل اجتهادات منظري الجماعة بمثابة القواعد القطعية في رسم استراتيجية العمل الحركي للجماعة فتصبح بمثابة الهوية التعريفية للتيار} في الساحة بات من شبه المستحيل الالتقاء على مشروع واحد بسبب تضخيم دائرة القطعيات في مناهجها الحزبية وتمترس كل تيار وراء ترسانة من النفايات الفكرية التي تشكل المبرر لوجد الجماعة لذلك عندما يصل البعض إلى الاختيار بين جماعته والأمة يقول لك جماعتي أو الأمة ولكن عندما تتلون بلون منهجنا.
إن أزمة التضخم الفكري لدى الفصائل الممنهجة تشبه مشكلة فأر القرع الذي أحدث ثقباً في قرعة و دخل ليأكلها من الداخل فلما سمن بداخلها لم يستطع الخروج منها إلا بعد طرح سمنته وهكذا نرى كثيرا منا  بحاجة إلى الريجيم الفكري قبل أعادة تأهيله، لكن ما يمنع الكثير من اقتحام هذا الدرك الصعب هو أن التطورات الفكرية ونسف ما يصل إلى درجة المسلمات عند الجماهير والأتباع سيواجه بمعارضة شديدة لا تخلو من التفسيق والتبديع وقد تصل لحد التكفير كما كُفر ابن تيمية لما خرج عن المألوف للمدارس الفقهية في عصره ولكن بعد قرون من الزمن رجع كثير من المفتين يستجدي من أقوال ابن تيمية ليجد فيه سعة على الأمة وهذا يحصل لكثير من أهل الفكر والعلم الذين يسبقون عصورهم.
إن الفكرة قد تنضج في عقل المفكر قبل أن ينضج الناس لقبولها هذا الفارق الزمني قد يجعل الكثير من المبدعين في حالة من الغربة وأن يُسلق بألسنة حداد فيعرض عن البوح بالكثير مما يدور في خلده ذلك بأن العوام ينضجون بالتجربة وأهل العلم ينضجون بالاعتبار فالذين ينضجون بالعبرة أسرع خطىً من الذين تكتمل قناعتهم بالتجربة الذاتية وعندما يصلون سيجدون أفكار المفكرين السالفين قد سبقتهم إلى كبد الحقيقة وهنا سيعرفون قدرها وقدر أهلها.
فالأمر يستدعي مراجعة شاملة لإخراج كثير من الأوهام والظنون الفكرية من دائرة القطع والمسلمات لتذويب السدود الجليدية الفكرية التي تعيق كل مشاريع التوحد والاجتماع إن أفكارنا المبعثرة تحتاج إلى ترتيب وأفكارنا الضامرة تحتاج إلى تنمية أفكارنا القديمة تحتاج إلى تجديد، والأفكار المعطلة تحتاج إلى تشغيل فمعركتنا الكبرى هي معركة فكر بالدرجة الاولى وما صوت السلاح إلا صدىً بسيطاً من أصدائها والرابح النهائي هو من يكسر جليد الأفكار التي تعيق فُلك القافلة ويستطيع أن ينتج مزيداً من الأفكار التي يواجه بها تحديات العصر وإلا ستصيبنا كل شروره.
والحمد لله،،،

 

 

 

نور سورية

 

المصادر: