الحج؛ دروسٌ مهمةٌ للميدان

الكاتب : رابطة خطباء الشام
التاريخ : ١٨ ٢٠١٥ م

المشاهدات : 7428


 الحج؛ دروسٌ مهمةٌ للميدان

مقدمة:
تقرأون في هذه المادة دروساً عظيمة من الحج يحتاجها الميدان الآن، دروس في الوحدة والمرجعية والشعار والوجهة، ورمي العدو بسهم واحدةٍ رغم اختلاف أجناس وأطياف المواجهين.
كما تقرأون فيها كيف ابتلى الله ابراهيم بابتلاءات فأتمهن إبراهيم وفاء وقضاء.. فبشره الله بالإمامة
(إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) في آية تختصر لنا معنى الطريق وكأنها تتنزل الآن.
وكيف أرسى النبي قانون حرمة الدماء والأموال والأعراض، وبيَّن خطر اقتتال الجماعات المسلمة، ثم نداء إلى قادة الفصائل المقاتلة.

عناصر الخطبة:
1- الأمة الإسلامية أمة واحدة.
2- الحج رسالة في وحدة القيادة والمرجعية.
3- ابتلاءٌ وصبرٌ ثم تمكينٌ وإمامة: آية تختصر لنا معنى الطريق !!
4- النبي صلّى الله عليه وسلّم يصدع بقانون حرمة الدماء والأموال والأعراض.
5- نداء إلى قادة الفصائل.
1- الأمة الإسلامية أمة واحدة:
إن  الأصل في الإسلام هو وحدة الأمة، وتواصل أبنائها وقيامهم بكافة متطلبات هذه الأمة مهما اختلفت الأوطان والأزمنة.
والحج مؤتمر عالمي يتكرر كل عام مرة، ويعقد في الأرض المباركة حول الكعبة؛ يجمع المسلمين، ويؤلف بين قلوبهم، ويوحد غاياتهم، تحت شعار: "أمة واحدة" قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]. وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [المؤمنون: 52]
ليست كل دعوة إلى الوحدة ونبذ الفرقة يستجاب لها؛ﻷنها ربما كانت من أجل عصبية، أو إخلال بشريعة،أو عرض، أو نفس، أو عقل، أو مال.
في الحج تتجلى هذه الآية واضحة وضح النهار، وكأن الناس في طوافهم وسعيهم ورميهم ووقوفهم كأنهم قرآنٌ يمشي على الأرض في وحدتهم ووحدة دعائهم وتلبيتهم وعبادتهم لربهم.
وقد أمرنا الله بالاتحاد وحذَّرنا من التفرق فقال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، كما أمرنا الله بطاعة الله ورسوله، وحذرنا من التنازع وجعل عقوبته الفشل قال الله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46].
2- الحج رسالة في وحدة القيادة والمرجعية:
وما أعظم عوامل الوحدة بين الأمة الإسلامية، فربها واحد، وكتابها واحد، ورسولها واحد، وشريعتها واحدة، وعباداتها تجمعها وتوحد بينها، فالصلاة إلى قبلة واحدة، والصيام في شهر واحد، ويأتي الحج ليقوي هذه الوحدة، ومن أهم مظاهر ذلك:
- فشعارهم واحد:
تلهج به ألسنتهم: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ".
- ومكانهم واحد:
يلتقون على جبل عرفات: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم: (الْحَجُّ عَرَفَاتٌ الْحَجُّ عَرَفَاتٌ الْحَجُّ عَرَفَاتٌ أَيَّامُ مِنًى ثَلاَثٌ ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: من الآية 203]، ومَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ)
- واتجاههم واحد:
يطوفون حول الكعبة المشرفة.. التي جعلها الله قيامًا للناس، ومحطًّا لأنظارهم وقبلة لهم ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: من الآية 144]. وقال تعالى: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ﴾ [المائدة:من الآية 97]
- ولباسهم واحد: تذوب معه كل الفوارق.. يذكرهم بالأكفان عند لقاء الرحمن.
- واجتماعهم في زمان واحد:
قال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة:197].
- وحركتهم واحدة:
وحدة الحركة في أعمال هذه الشعيرة حيث تراهم في وقوفهم في عرفات، وإفاضتهم منه، وطوافهم حول البيت في فلك واحد واتجاه واحد حيث يوحي بأن المؤمن لا يخرج عن دائرة الإسلام، حياته كلها دائرة حول بيت الله ودين الله.
ومن أعظم مظاهر الاجتماع في الحج رجمهم للشيطان عدوهم جميعًا عن يد واحدة، إنها آية عظيمة والله في رصِّ الصف واتحاد القوة ضد العدو الواحد!
إنه لابد وأن تكون بين هذه الجموع الغفيرة للحجيج فوارق في قوة الإيمان وضعفه، وفي كثرة العمل لهذا الدين وقلته، وفي حضور الهدف وغيابه، وحتى في المعتقد فقد تكون هناك فوارق كذلك، ولكنهم جميعاً اجتمعوا على عدوهم المشترَك في ضربة واحدة ليرسل الله لنا من ذلك رسالة مفادها:
إن عدوكم واحد، لا يفرق بينكم رغم اختلافاتكم، فاجتمعوا عليه في ضربة واحدة قاصمة.
هكذا يريد الله منا يا عباد الله (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف:4]
لقد اجتمع في الحج أناس جاؤوا من كلِّ فجٍ عميق، تختلف ألسنتهم وأقاليمهم وأنسابهم وطبقاتهم، ولكن أعمالهم واحدة وشعارهم واحد وحركاتهم واحدة واتجاههم واحد، ورسالتهم واحدة، وفي هذا رسالة واضحة من الله لكم يا من سلمكم الله قياد الناس والجماعات في أن لا تفخروا على غيركم ولا تحصروا الحقَّ في منهجكم ولا ترفضوا الحق إن أتى من غيركم، بل بعضكم يكمِّلُ بعض، ويجبر خطأ بعض في نصح رحيم، حتى يقوم بكم بنيان الأمة وتستوي على سوقها؛ فتُعجَبَ بكم الأمم، ويَغيضَ الله بكم الكفار.
إن هذا الركن العظيم يذيب فوارق العرق والنسب واللغة والإقليم والطبقة، ويوحد بين الأمة في مخبرها ومظهرها، ويجعلها أمة واحدة. ويزيل الفرقة التي يسعى إليها أعداء الأمة بالليل والنهار.
3-ابتلاءٌ وصبرٌ ثم تمكينٌ وإمامة: آية تختصر لنا معنى الطريق:
في الحج ذكر الله لنا شيئاً من قصة ابراهيم عليه السلام لتختصر لنا ذلك الطريق الطويل وتضع لنا النقاط على الحروف، وكأنها تتزل اليوم، في بيان إلهي عجيب، ونسق من الترتيب والتعبير بديع: (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)
ابتلى الله إبراهيم بكلمات من الأوامر والتكاليف، فأتمهن وفاء وقضاء..
وكأن هذا الدرس الميداني يتكرر اليوم، وتُكتبُ حروف تفاصيله بمداد من الدماء الزكية التي سالت على أرض الشام
فلقد طُرِحَ إبراهيم في النار، وزعم قومه انهم سينصرون آلهتهم وطغيانهم بتحريقه (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم عن كنتم فاعلين)
واليوم يتكرر المشهد فكم حُرِّق من المسلمين الموحدين على أيدي الطغاة والمجرمين والغالين،
وكم تحرقت بيوت وخيام على ساكنيها فذهبت عائلات بأكملها إلى الله شاهدة على طغيان الطغاة وتقصير المقصرين.
وطرده إبراهيم من بلده مثلما طرد سائر الأنبياء، (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا)
واليوم يطُرِدَ الملايين من أرضهم وديارهم ليسيحوا في الأرض ويذوقوا ألواناً من الذل والهوان.
ثم يأتي الأمر بذبح إسماعيل بعد شوق طويل إليه، فيلبي إبراهيم وولده نداء ربهم بكامل الاستسلام واليقين،
ولكم لبّى اليوم آباءٌ وأمهات نداء ربهم وقدموا من أبنائهم قرابين حرقاً وخنقاً وصبراً وذبحاً وغرقاً وغيرها من أصناف التعذيب والتنكيل في سبيل نصرة الدين، إنها التضحية وأي تضحية!!
لقد وفى ابراهيم بالالتزامات التي ابتلاه بها ربُّه، (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)
فأتمهن وفاء وقضاء.. وقد شهد الله لإبراهيم في موضع آخر بالوفاء بالتزاماته على النحو الذي يرضى الله عنه فيستحق شهادته الجليلة: (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) .. وهو مقام عظيم بلغه ابراهيم ليستحق بعدها تلك البشرى وتلك الثقة: (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)..
إماماً يتخذونه قدوة، ويقودهم إلى الله، ويقدمهم إلى الخير، ويكونون له تبعاً، وتكون له فيهم قيادة.
أرأيتم أيها المسلمون؟!
ابتلاء واختبار وتمحيص، يليه اصطفاء واجتباء وتمكين، ليكون إبراهيم إمامأ للأمة في الدين!!
هي رسالة من الله لنا، فالطريق طريق واحدة، بدايتها معلومة ونتيجتها محتومه، ومن أصدق من الله قيلاً.
قال بعدها إبراهيم: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) 
يا رب: ومن ذريتي سيكون أئمة؟
قال الله: لا ينال عهدي الظالمين..
والظلم أنواع وألوان:
ظلم النفس بالشرك، وظلم الناس بالبغي..
والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة: إمامة الرسالة، وإمامة الخلافة، وإمامة المرجعية والقيادة..
فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها.
ومن ظلم- أي لون من الظلم- فقد جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها بكل معنى من معانيها.
فيا أيها القادة:
لقد نصبكم الله أئمة للناس في طريق الجهاد، وكلفكم بتكاليف عظيمة، ألا فوفُّوا بالتزاماتكم تجاه دينكم وأمتكم كما وفى إبراهيم فامتدحه ربه وقال له: (إني جاعلك للناس إماماً)
إن الإمامة لن تكون بخيانة الأمانة، فاتقوا الله وارعوا حرمة الدماء التي تسيل، وحرمة ملايين المشردين، ومئات آلاف المعتقلين...
واعلموا أن محاولات التضييق والضغط على الشعوب لن توقف قدر الله الماضي إلى الإصلاح والتغيير، ولن تمنع نور الله من الانتشار في الآفاق، ويجب أن ندرك جميعًا أن مكر العدو ﴿ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ [فاطر: من الآية 43]،
وطغيان وبغي القوة الأمريكية والروسية والصفوية الغاشمة لن يعجز الله شيئًا ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8]
وإنا لموقنون أن كل الدعم المادي والمعنوي وكل ما ينفق في هذا العالم للحيلولة دون عودة الناس إلى سبيل ربهم سيكون حسرة في الدنيا، وغلبة للمؤمنين عليهم، مع عظيم ما ينتظرهم من عذاب في الآخرة تحقيقًا لقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 36].
ولذلك كله كونوا على يقين بأن النصر لأمة الإسلام آتٍ بحول الله وقوته وما ذلك على الله بعزيز.
نحن أقوياء بالحق والإيمان:
إن لنا سلاحًا لا يفل ولا تنال منه الليالي والأيام هو (الحق): والحق باقٍ خالدٌ، والله يقول: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18].
ويقول ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ ﴾ [الرعد: من الآية 17]، ويقول: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81].
إن أول درجة من درجات القوة: قوة العقيدة والإيمان، ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن تُوصف جماعة بالقوة، حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعًا.
ولن يتحقق لأمتنا ما تصبو إليه من عزة وسيادة إلا إذا نزعنا من قلوبنا الوهن الذي حذرنا منه رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: (يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا". فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: "بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ". فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ: "حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ).
4-النبي صلّى الله عليه وسلّم يصدع بقانون حرمة الدماء والأموال والأعراض:
وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة في حجة الوداع ونادى بالناس : قال: (أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال:«أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال أليس ذو الحجة؟ قلنا: بلى، قال أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض) [البخاري: 1741]
(ليبلغ الشاهد الغائب) نداء نبوي عظيم لتحذر الأمة كلها شاهدها وغائبها من إراقة دم معصوم بغير حقٍّ أو اعتداء على مال أو عرض، فحقوق العباد غالية عند الله عز وجل؛ لذلك:
فقاتل النفس بغير حق في غضب الله وناره، ولعنته وعذابه. قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء: 93]
وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا).[البخاري: 6862].
قال ابن العربي في شرحه: (الفسحة في الدين): سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت؛ لأنها لا تفي بوزره. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حِلِّه).
ونظرًا لعظيم إثم جريمة القتل جعلها الله أولَ ما يُقضى به يوم القيامة؛ لأن مرتكبها قد تبيّن أمره وهلاكه؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: (أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) [مسلم: 1678].
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم) (النسائي:3987، وصححه الألباني).
وقد حذر القرآن من اقتتال الأمة بين فصائلها وجماعاتها وقد نبه إلى هذا الخطر حين قرن بين عذاب مهلك ينزل بالصواعق من السماء أو بالزلازل من الأرض، وبيّن فرقة الأمة وانقسامها. قال تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام: 65].
وقد بيّن لنا القرآن خطر أن الذين يقومون بالاغتيالات السياسية أو الطائفية -خدمةً لمن كلَّفهم بهذه الجريمة- وبيَّن أنهم في غضب الله وناره يوم القيامة. قال صلى الله عليه وسلم: (قال يجيء المقتول آخذا قاتله وأوداجه تشخب دما عند ذي العزة فيقول يا رب سل هذا فيم قتلني فيقول فيم قتلته قال قتلته لتكون العزة لفلان قيل هي لله) [صحيح لغيره، صحيح الترغيب والترهيب: 2448].
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أهل السموات والأرض اجتمعوا على قتل مسلم؛ لكبّهم الله جميعًا على وجوههم في النار) قال الألباني صحيح لغيره ، [صحيح الترغيب والترهيب: 2443].
لقد حذرنا النبي صلّى الله عليه وسلّم أشد التحذير من الجاهلية والعصبية التي تستبيح الدماء والأموال والأعراض؛ فقال  : (مثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثل بعير تردّى في بئر فهو ينزع منها بذنَبه) [صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2249].
ومعنى الحديث: أنه قد وقع في الهلاك والمعصية (كالبعير إذا تردّى في بئر فصار ينزع بذنبه، ولا يقدر على الخلاص.
وقد حذرنا رسول الله  صلّى الله عليه وسلّم من الاقتتال الداخلي الذي يهدد كيان الأمة، فقال: (إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)[مسلم: 2812].
لهذا كله ينبغي التنبه إلى خطورة غفلة الأمة عن كيد أعدائها حين يسعون لجرّهم إلى الاقتتال فيما بينهم، لتتمزق الأمة من الداخل، وتنسى أن صراعها مع العدو التي خرجت لإسقاطه.
ولا ننسى أنه كان للعرب دولة ومُلْك في الأندلس فقدوه وخرجوا منها، عندما تحوّل الصراع بين ملوك الأندلس؛ يحارب بعضهم بعضًا، ويستعين بعضهم بالعدو الكافر على أخيه المسلم، حتى هُزموا جميعًا، وخرج آخر ملوكهم يبكي وأمه تقول له:

ابك مثل النساء ملكًا مضاعًا *** لم تحافظ عليه مثل الرجال

وكأني بالشاعر ينادينا بقوله:

لا تُرجعوا مأساة أندلسٍ لكم *** واستشعروا الخطر العظيم وأبصروا

إن الجماعات الإسلامية عندما تخوص فيما بينها صراعاً لتصفية مشاريعها بحجة انحرافها تنسى أن الأمة برمَّتهاتخوض مع اعدائها صراعاً يهدد وجودها.
5-نداء إلى قادة الفصائل:
فهذه رسالة إليكم يا قادة الجهاد في سوريا بأن تتوحدوا تحت قيادة واحدة ومرجعية واحدة، لا دور للمناصب الآن، العدو يلتهمنا جميعاً، دماء الأمة الآن رهن توحدكم، وأنين الأسرى والأسيرات ممن وهبوكم ثقتهم يستنهض ضمائركم، أنتم جنود لله سواء كنتم في المقدمة أو في الساقة.
ولكم رأينا من كرامات في تحرير نقاط عسكرية تعجز عنها الجيوش المنظمة المدربة قد حررها شبابنا عندما توحدوا وأخلصوا النية لله، فكانت فتوحاً عظيمة تحررت على أثرها أجزاءٌ كبيرة من وطننا ولا تزال بقدرات بسيطة وبخسائر قليلة والأمثلة من الواقع أكثر من تحصى وكلكم يستحضر في ذهنه من تلكم الكرامات الشيء الكثير.

وليس بعيد عنكم نصر الله للمستضعفين في الغوطة من بعد أن ظن العدو الغاشم أنه قدر عليهم فأتى النصر الإلهي بحظر رباني لسلاح الطيران بسبب أحد جند الله وهو الغبار وعلى إثر هذا التقدم الذي أذهل كبريات الدول تغيرت سياسات وترسم الآن سياسات، نسأل الله أن يجعل كيد الفجار في نحورهم ويعيذ المجاهدين من شرورهم.
إذا فالله قادر على نصرنا بأحقر الأشياء، وبأضعف جندٍ، وما علينا إلا أن نأخذ بأسباب النصر من الوحدة والإعداد والتوكل ثم سترون نصراً مؤزراً يأتيكم من حيث لا تحتسبون.
لقد شابت رؤوسنا، وكلَّت ألسنتنا ونحن نطالب الغرب والعرب بحظر جوي، ومضادات للطائرات، ولكن قد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي!
أما عندما نادينا الحيَّ القيوم بصلاة ودعاء وتضرعٍ وأخذٍ بالأسباب وهبنا حظراً جوياً ونصراً مؤزراً بكلمة كن،
إن نصر الله ينتظركم حتى تكونوا أهلاً، فإذا صرتم جاء نصر الله والفتح. فانصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
لا تتفرقوا شيعاً وأحزاباً، كلُّ حزب بما لديهم فرحون، فالله جعلكم أمة واحدة، اسمعوا إلى نداء الله لكم وكأنه يخاطبكم اليوم: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون: 52-53].
كل حزب (بما لديهم) فرحون" اقتصروا بالفرح على أفكارهم وآرائهم ولم يفرحوا بالحق إن كان مع غيرهم.
ألا فاتقوا ربكم وكونوا أمة واحدة، واعلموا أنه عندما تُستبَدلُ عقيدة الولاء والبراء الربانية بعقيدة الولاء والبراء الأرضية ستكون النتيجة: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)
فاللهم وحد صف المجاهدين، واجمع كلمتهم، وسدد رأيهم ورميهم، وانصرنا على القوم الكافرين.
ملاحظة:
ينبه الخطيب المصلين على فضل صيام يوم عرفة وما فيه من الأجر، وعلى فضل اغتنام باقي أيام العشر.

المصادر: