«أفغنة» سورية... خيار روسيا وإيران بعد الاتفاق النووي

الكاتب : عبد الوهاب بدرخان
التاريخ : ١٨ ٢٠١٥ م

المشاهدات : 2585


«أفغنة» سورية... خيار روسيا وإيران بعد الاتفاق النووي

استغرقت المساعي الروسية بضعة أسابيع، أو طرفة عين فحسب، لتعود موسكو بعدها إلى ما كانت عليه دائماً بالنسبة إلى سورية. كلّ الرهانات على دور روسيا في ترتيب ظروف الحل السياسي وسط رضا ومباركة اميركيين، وكلّ اللقاءات التي جعلت منها محجّة للنظام والمعارضة وإيران وسائر الدول المعنية، سقط سقوطاً هائلاً.

ليس فقط لأن موسكو كانت في الأثناء تبني قاعدة جوية جديدة اتُّخذ قرارها قبل شهور، بل لأنها أوحت بأنها تقود «وساطة» سياسية بالأصالة عن نفسها وبالوكالة عن أميركا، لكنها جعلت من هذا السراب غطاءً لتدشين مرحلة تصعيد جديد في الحرب الدائرة.

كان هذا التطوير للتدخل والوجود الروسييَن في سورية متوقعاً، ولم يكن السؤال هل يحصل وكيف بل متى، وقد جاءت الإجابة حين بات نظام بشار الأسد على وشك الانهيار، ولا يطمح الروس لإنقاذ النظام فحسب، بل أيضاً لإعادة تأهيله.

خرجت واشنطن من انكفائها لتعلن «قلقها» من النشاط الروسي المتنامي، ولا أحد يصدّق أنها فوجئت به، أو أنها لا تعرف أهدافه.

لكن هل مردّ هذا «القلق» إلى أن موسكو تجاوزت الإطار المتفق عليه، أم إلى خدعة روسية أخرى. والأهم، ماذا بعد «القلق»؟

قال الأميركيون أن التدخل العسكري الروسي سيشكّل تغييراً جدّياً في مسار الصراع في سورية وسيجعل من أي تعهد روسي بإيجاد حل سياسي محلّ شك، ما يعني إمكان سحب «تفويض» أميركي بهذا الشأن، لكن الروس أثبتوا أنهم غير مبالين بذلك وأنهم يعملون وفقاً لخططهم التي تتلاقى أكثر مع خطط إيران، خصوصاً أن الطرفين يتقاسمان الوظائف والمصالح في سورية.

وقال الأميركيون أيضاً، في ما يشبه التحذير، أن أي عمليات جوية روسية قد تتقاطع سلباً مع عمليات «التحالف الدولي» الجارية ضد تنظيم «داعش».

ردّ الروس بإبداء استعدادهم لـ «التنسيق» في إشارة إلى أنهم باتوا فارضين أنفسهم على «التحالف» الذي استُبعدوا عنه، ولم يكتفوا بذلك بل دعوا الأميركيين إلى التنسيق مع نظام الأسد ضد «داعش»، وخلال بضعة أيام تناوب مسؤولون روس على تكرار أن قوات النظام هي الأكثر قدرةً على محاربة التنظيم الإرهابي.

وهكذا أعاد التدخل العسكري الروسي المباشر الولايات المتحدة إلى الواقع السوري الذي دأبت على التهرّب منه بإلقاء المسؤوليات والتكليفات على الآخرين.

وفي ضوء ذلك يمكن فهم الاندفاعين المتأخرين لبريطانيا وفرنسا للمشاركة في ضربات جوية في سورية، وكذلك التغيير الذي أدّى إلى انضمام تركيا إلى جهود «التحالف» والإعلان عن «حرب شاملة» وشيكة ضد «داعش».

صحيح أن هذه الدول استندت إلى ذرائع شتّى (عملية التفجير في سوروش التركية، مجزرة السياح البريطانيين في تونس، هجمات «داعش» في فرنسا) لتبرير مواقفها وقراراتها، إلا أن الحراك الروسي كان عنصراً حاسماً في إقناع حلفاء أميركا بالمشاركة. بل إن بدايات التدخل الميداني الروسي كانت الدافع الرئيسي لزيارة جون كيري المفاجئة للقاء فلاديمير بوتين في سوتشي (ايار/ مايو الماضي)، رغم القطيعة، وكذلك ما تبعها من تنشيط للتشاور مع وزيري الخارجية، وصولاً إلى لقائهما المشترك في الدوحة مع نظيرهما السعودي.

فهذه كانت محاولات - أخيرة؟ - لجذب روسيا وإغرائها ببعض الصفقات لإقناعها بـ «قيادة» حل سياسي في سورية، مع تليين بعض الشروط المتعلقة بمصير الأسد شخصياً فضلاً عن رموز نظامه.

في الأصل، لم تكن روسيا مؤهلة لمثل هذا الدور، لأنها طرف في الصراع، أو بالأحرى نصف طرف شريك للنصف الآخر الايراني، وكلاهما يدير شؤون النظام الذي يعرفان قبل سواهما أنه لم يعد أكثر من واجهة لهما. هذان شريكان متلازمان، يحتاج كلٌ منهما إلى الآخر، ولا يستطيع أيٌ منهما الاستئثار وحده بالنفوذ على سورية النظام التي كانت، مع البرنامج النووي، من أبرز عوامل تعميق العلاقة الروسية - الإيرانية. وبالنسبة إلى روسيا لم تكن سورية النظام يوماً مفيدة ومجدية كما أصبحت في حقبتها الايرانية.

لذلك، لم ولن يكون متوقّعاً أن تعتمد موسكو أي سياسة في سورية من دون موافقة طهران، ثم أنها مقرّة بأن الطبيعة «المذهبية» لعلاقة إيران مع النظام والاستثمار الضخم الذي بذلته في سورية جعلاها أكثر قدرة على توجيه الأسد وأجهزته، بل أكثر كفاءة في التخطيط وفي إدارة الصراع.

وفوق ذلك يأتي التوافق الاستراتيجي المزمن بين روسيا وإيران على مواجهة الولايات المتحدة، وما دام الاتفاق النووي يفتح أمام النظام الإيراني أو جناح منه خيار الانفتاح على أميركا فهذا دافع آخر لروسيا كي تتمسّك بالشراكة في سورية، الموقع الاستراتيجي الأكثر أهمية حالياً لإيران بعد العراق، ولتضمن حصتها من الصفقات الإيرانية المزمعة بعد رفع العقوبات.

في المقابل، ترافق الاتفاق النووي مع دعوة أميركية لإشراك إيران في حل أزمات المنطقة بالإضافة إلى إشراك العرب، تحديداً المملكة العربية السعودية. ومع تنشيط التشاور الاميركي - الروسي وإعطاء روسيا دوراً «قيادياً» لمعالجة الأزمة السورية اعتبرت إيران أن وجود طرف عربي سيهدّد مصالحها في التسوية وفقاً للسيناريو الذي يناسبها، ويفترض أن يناسب أيضاً مصالح روسيا. لذا وجب على الأخيرة أن تحدّد وجهتها.

كانت موسكو حسمت موقفها منذ الربع الأول للسنة الحالية مع توالي الانتصارات التي حققتها فصائل المعارضة السورية ضد النظام، لكنها كانت تبحث عن خطة شاملة ومتكاملة تستطيع الدفاع عنها لتبرير تدخلها المباشر بإرسال آلاف من العسكريين مع أسلحة وصواريخ متطوّرة لا تريد تسليمها إلى السوريين، أو إلى الإيرانيين الذين يملكون الخطة المناسبة لكن تماسّهم مع الأميركيين في العراق حال دون تنفيذها، وقد طرحوها أيضاً بالنسبة إلى سورية، إذ دعوا مراراً إلى تعاون «التحالف الدولي» مع نظام الأسد.

إذاً، فعنوان الخطة هو محاربة «داعش» ودعم النظام ضد الإرهاب، أما مضمونها فمختلف تماماً لأن الشركاء الثلاثة (روسيا وإيران والأسد) يعتبرون المعارضة مجموعات إرهابية، أي أن الهدف من التدخل الروسي يرمي أولاً إلى ضرب المعارضة لإحداث تغيير ميداني واضح لمصلحة النظام وبالتالي استكمال إعادة تأهيله بطرحه شريكاً في الحرب على «داعش»، فإذا لم توافق أميركا نظراً إلى معارضة شركاء عرب وغير عرب، فإن «التحالف الثلاثي» سيستند عندئذ إلى اتفاق مع حكومة الأسد «الشرعية» ليضرب «داعش» من دون التنسيق مع «التحالف الدولي».

هذا لا يعني أن روسيا أسقطت «الحل السياسي» من حساباتها، بل أنها وإيران متفقتان على إسقاط المعارضة الحقيقية من أي حل لتستعيضا عنها بالمعارضة «المدجّنة» في الداخل، أو ما بات يُعرف بـ «معارضة موسكو» و«معارضة القاهرة» في إشارة إلى الذين شاركوا في لقاءات نظّمت في العاصمتين لمعارضين اختيروا بعناية دمشق وطهران وموسكو وتعهّدت الأخيرتان ضمان الأمن الشخصي لمن اختارتهما.

وبالطبع سيستخدم التقارب بين القاهرة والأسد لإضفاء «شرعية» عربية لأي ترتيبات سياسية يمكن التوصّل إليها على أساس بقاء الأسد ونظامه مع حكومة يشارك فيها هؤلاء المعارضون، من دون أن تُعتبر «انتقالية».

غير أن الروس والإيرانيين يعرفون، وكذلك المصريون، أن هذه لا تشكّل تسوية دائمة من دون «شرعية» المعارضة التي لا تزال ممثلة بـ «الائتلاف»، ومن دون مشاركة كبيرة من الكوادر المستقلّة، وبالتالي فهي لا تعني أن الأسد سيتمكّن من قيادة البلد إلى الاستقرار.

اختارت روسيا إذاً التحالف مع إيران على التقارب مع أميركا، واختارت أن تتقدّم لحماية مصالحها بشراكة مع الأسد وإيران وبقاعد جوية مستحدثة، غير مهتمة بأي ضمان أميركي لهذه المصالح.

لكن الأخطر أنها اختارت المسار التقسيمي الذي رسمته دمشق وطهران، باعتباره الضامن الوحيد لمصالح «الثلاثي».

لكن السيناريوات المقفلة كهذه لا تسهّل التسويات الدولية بل تؤخّرها، وبالتالي فإن التدخل الروسي سيشعل «أفغنة» الصراع ويؤججها، لأن إدخال أسلحة متطوّرة لحسم الصراع لمصلحة طرف سيدفع إلى مدّ الطرف الآخر بأسلحة مكافئة، إلا إذا كانت روسيا تتحرك بموافقة أميركية في نهاية المطاف.

 

 

 

الحياة اللندنية

 

المصادر: