مصانع الطغاة

الكاتب : مجاهد مأمون ديرانية
التاريخ : ٥ ٢٠١٥ م

المشاهدات : 2953


مصانع الطغاة

-1-

أين يُصنَع الطغاة؟ إنهم يُصنَعون في "مصانع الصمت". إنهم تماثيل من ثلج، وكلمةُ الحق في وجه الطاغية الجائر هي الشمس التي إذا أشرقت ذابت التماثيلُ وعاد الثلج ماءً يمشي حيث يمشي الماء الآسن.

إننا نلوم الطغاةَ والمستبدين ونحمّلهم مسؤوليةَ المأساة التي عشناها لقرون طويلة، ولكنّ الحاكم المستبد ليس سوى فرد واحد، والفردُ أمام الجماعة ضعيفٌ لا محالة، فمِن أين تأتي قوّته إذن؟ وكيف يستطيع أن يُخضع الملايين ويَسوسهم السياسةَ التي يريد؟

-2-

لا يستطيع فردٌ واحد أن يستولي على مقدَّرات الملايين إلا بسلاح واحد. هذا السلاح يتلقاه الحاكم المستبِدّ هديةً مجّانية من ضحاياه، وهو "الرضا والصمت والخنوع".

إن الطغيان لا يأتي جملةً واحدة، بل هو يتسلل قليلاً بعد قليل فلا نحسّ به ونسمح له بالمضيّ إلى آخر الطريق. يبدأ المستبد أولَ ما يبدأ ببعض الاختبارات الصغيرة: يعتدي على حريات الناس، فلا يسمع كلمة ولا همسة، الوضع إذن تحت السيطرة. يتحرك خطوة أخرى فيصادر تلك الحريات بالكامل، لا اعتراض، الوضع ما يزال تحت السيطرة. إلى التي بعدها: يستولي على الثروات والمقدَّرات، لا اعتراض! فينتقل إلى الخطوة التالية... وهكذا يتمدد السلطان يوماً بعد يوم وينكمش الإنسان، فيصبح الوطن بعد بعض الوقت اثنَين لا غير: صنماً بحجم الجبل هو الزعيم، ورعيّة بحجم أمة من النمل!

الوصف السابق يبسّط المسألة بالتأكيد، لكن جوهر العلّة صحيح: إنه الصمت! هذا هو عدو الحرية الأول، وهو سلاح المستبدّين. إنهم يتمددون ببطء والناسُ خائفون وصامتون. الأسد وصدّام والقذافي وماو وستالين وأمثالهم من الطغاة اعتمدوا على خوف الناس، فصار الواحد منهم هو الواحدَ الأحد في أمة من الخائفين.

-3-

لمّا كان سكوتُ الناس ورضا الأمة هو السبب في تكريس الاستبداد وهو السلاح الذي به ينتصر المستبدون، فلا ينزعهم من الأرض ويقضي على استبدادهم إلا السلاحُ المضاد: "عدم السكوت". وما هو عدم السكوت؟ هو الفريضة الإسلامية الكبرى التي يزهد فيها أكثرُ الناس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الدعوة إلى كل خير ومحاربة كل شر، ورأس الأمر كله: كلمة الحق في موضعها، ولو في حضرة سلطان طاغية مستبد جائر.

ليس الشجاع الجريء هو الذي يقاتل في الميدان؛ ذاك رجل يستمد شجاعته من سلاحه، إنما الشجاع الجريء الذي يقف أمام الرجل القوي فيقول كلمة الحق. إنه مجاهد من الطراز الأول، ومَن أعظمُ الشهداء بعد حمزة؟ رجلٌ في يده سيف يقاتل به حتى يُقتَل؟ لا، ليس هذا، أنتم تعرفونه: إنه رجل وقف في وجه سلطان جائر فنصحه وأمره ونهاه فقتله. رجل لا سلاح له إلا لسانُه وقلبه، اللسان المعبّر والقلب الشجاع، لكنه أشد خطراً على السلطان الظالم من السيوف والمدافع والقنابل... هذا وهو لسان واحد، فكيف لو كانت آلافٌ من الألسنة معها آلاف؟

-4-

إن الناس كلهم مسؤولون عن ولادة الطغاة واستبدادِهم بالعباد والبلاد، والمسؤوليةُ تتناسب مع العلم والقدرة، هذه هي القاعدة العامة في إنكار المنكر والأمر بالمعروف.

إن حساب الله لنا سيكون على قَدْر ما منحَنا من العلم والقدرة، فإذا اعتُدي على بريء وفينا الأعزل الضعيف وفينا القويّ الذي يحمل السلاح فليس الفريقان في الميزان سواء، فربما نجا الضعيف الأعزل يوم الحساب من العقاب، أما القوي فمَن ينجّيه وقد وهبه الله القدرةَ على تمييز المنكر والقدرةَ على إنكاره باليد واللسان ووَقْف العدوان والطغيان؟

وإن الذي يملك الوعي والعلم أعظمُ مسؤوليةً من الأمّي الحمّال وصبيّ البقال، لأن الله لم يمنحهما ما منحه من الفهم والعلم، ولو كانا كذلك لما اشتغل أحدُهما حمّالاً والآخرُ صبيَّ بقال. والعالِم أعظم مسؤوليةً من عامة الناس لأنه يمتلك العلم الواسع والقدرة على التأثير في الجماهير.

-5-

إن الأمة كلها مسؤولة عن ولادة الطغاة والمستبدين وعن انتشار الظلم والطغيان، لأن الطغاة لا يولدون ولا ينتشر الطغيان إلا في الأمة الصامتة، الأمة التي لا يرتفع فيها صوتٌ ينكر منكراً ولا تُسمَع فيها شكوى من مَظلمة. إنها أمة من النائمين تستحق أن يحكمها الطغاة والمستبدون، أمة قال شاعرُها فيها:

الله أكبر ما هذا المنامُ فقد   ***   شكاكمُ المهد واشتاقتكمُ التُّرَبُ

كم تُظلَمون ولستم تشتكون وكم   ***   تُستغضَبون فلا يبدو لكم غضبُ

ألِفْتمُ الهونَ حتى صار عندكمُ   ***   طبعاً، وبعض طباع المرء مُكتسَبُ

وفارقتكمْ -لطول الذلّ- نخوتُكم   ***   فليس يؤلمكم خسفٌ ولا عطب

للهِ صبرُكمُ لو أنّ صبرَكمُ   ***   في ملتقى الخيلِ حين الخيلُ تضطرب

 

 

الزلزال السوري.

المصادر: