بذل الوفاء لأُسرِ المجاهدين والشهداءِ

الكاتب : أبو مارية القحطاني
التاريخ : ٩ ٢٠١٤ م

المشاهدات : 6159


بذل الوفاء لأُسرِ المجاهدين والشهداءِ

مقدمة
الحمد لله عالمِ مكنونات الصدور، ومَخفِيَّاتِ القلوب والألباب، وأشهد ألاَّ إله إلا الله، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، كريم الأصل، زكي المآثر، نبي الرحمة والملحمة صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والمفاخر، والوفاء الزاخر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وهو على درب الحق سائر.

 

أما بعد:
فإنّ الله قد أرسل محمَّداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن وضيع الخلق إلى أحسنه وأرفعه، فاستجاب له وآمن بدعوته ناس من قومه أشرق نور الإيمان في قلوبهم، فانجلت عنها ظلمة الشرك ودلس الجهل، وأبصروا الحقَّ الذي دعاهم إليه.
فما زال النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعاهدهم بالقرآن والحكمة، ويزكيهم بالعمل الصالح والخلق الباهر؛ حتى صار هذا الدين أعظمَ ما يكون في قلوبهم؛ فتمثلت فيهم كل الأخلاق السامية والفضائل الرفيعة.
فكان مجتمعهم طرازاً فريداً، ونسيجاً وحيداً، لم يكن في أتباع الأنبياء مثلُهم، لهم القدح المعلى من كل فضيلة، والسهم الأعلى من كل مكرمة؛ فهم أهل لكل محبة وتعظيم وإكرام وتقدير، مِن كل مَن جاء بعدهم من هذه الأمة، وأهل لأن يقتدى بهم، ويُتمَسَّك بطريقتهم وهديِهم، فإنَّ الدين ما كانوا عليه، ولا شكَّ أنَّهم أفضل الأمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وأن معرفة أحوال هؤلاء الصحابة وما اتصفوا به من أخلاقٍ ساميةٍ وصفاتٍ نبيلةٍ، ينير الطريق أمام المؤمن الذي يريد الاقتداء بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرة أصحابه رضوان الله عليهم.

بيننا وبينهم:
وقد تأملت كثيراً في واقعنا.. فعندما أرى عوائل الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله ذوداً عن شريعة الرحمن وحرمة الأوطان، وكذا أُسَرَ الجرحى والمصابين والأسرى؛ يمر على خاطري صورةُ أخينا المجاهد المصاب أو الشهيد حينما كان بيننا صحيحا معافى...
يمر شريط من الخواطر.. فأرى الأخَ أمام عينيَّ مستوفزاً في النائبات، مقدِّماً كلَّ ما أمكنه من تضحيات، صابراً في وقت الشدة، وحاضراً في وقت الكرب، مناصراً لإخوانه، ذاباً عن أعراضهم في غيبتهم، مدافعاً عن أمته، والكل مغتبط برجال كهؤلاء؛ يذودن عن حياض الأمة وعن كرامتها وعزها.
ولما حان قدر الله السابق، ووقع أمره النافــذ واستشهد أو أصيب أخونا.. فتنظر في حال أهله وذويه؛ فلا تجد أحداً من صحبه وأبناء جماعته يتعاهد شؤونهم ولا مِن مواسٍ لهم أو مخفف عنهم ما حل بهم، حتى أصبح أهالي الشهداء والجرحى نسياً منسياً!!
بل ربما كان إخوانه المجاهدون يزورونه في أيام جهاده كلَّ يوم ويتفقدونه وأهلَه، ولكن وبعد إصابته تصاب كلُّ هذه العلائقِ بالعوائق، وبعد مقتله تُقتَل تلك المودة والوصال!!
فلله ما أندر الأوفياء!
وما أطيب معدنهم!

يا أوفياء وما أحلى الوفاءِ على * * * تقلُّبِ الدهر من معطٍ ومستلبِ
أفديكمُ عصبةً لله قد خلصَتْ فما * * تَغَيَّرُ في خصب ولا جدب

وما أكثر الذين يظن المرء أنهم عدتُه للدهر، فإذا هم عون للشدائد عليه!
وقد أصاب ابن صمادح حين أنشد:

وزهَّدني في الناس معرفتي بهم * * وطُولُ اختباري صاحباً بعد صاحبِ
فلم تُرِني الأيامُ خِلّاً يسرُّني * * بادِيه إلا ساءني في العواقب
ولا قلت أرجوه لكشف مصيبة * * من الدهر إلا كان إحدى المصائب

وهذا الذي حَدَا بابن المرزبان المحولي لما رأى زمانَه خلا من هذا المحب الذي يحفظه في غيبته، ويكون وفيًّا لصحبته؛ هداه أن ألف كتاباً وسماه (تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) !!
وقد رأيت في ساحات الجهاد على طول عقد من الزمن تقصيراً عظيماً وجفوةً كبيرة، فرأيت أن أُذَكِّرَ بهذا الأمر المهم الذي هو من واجبات الجماعة -على الأقل- تجاه ابنِها الشهيد أو المصاب، ومن واجب الأمة الإسلامية تجاه عوائل هؤلاء الأبرار، فلزاماً عليهم الوفاء بحقهم وبحق تضحياتهم وجهادهم وأقل ذلك الواجب كفالة ُعوائل هؤلاء ومن كانوا يعيلون والسؤالُ عن أحوالهم.
ولو تأمَّلْت سيرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وسيرة الخلفاء الراشدين؛ لرأيت بِرَّهم وودهم واهتمامهم بأسر الشهداء، وقد أَمَرَنا رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- بالتمسك بسنته وبسنة الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-.
وسنورد آثاراً بين أيديكم نبيِّن خُلُقَ النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبِه الكرام مع أُسَر المجاهدين وذويهم.
وسنورد كذلك بعضَ أقوال أهل العلم في هذا الباب.
ونسأل الله الهداية والسداد، وأن يحصل من هذا المختصر مقصودُه من تذكرة المجاهدين والأمة عامة بحقِّ قلَّ مؤديه، وبابِ خير قلَّ القائم عليه.
وأما تفصيل مسائل هذا الأمر العظيم وتحريرها؛ فلم يكن من مقصودنا من هذه الكتابة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

حسن العهد من الإيمان:
كان -صلى الله عليه وسلم- حَسن العهد وفيّاً، جواداً مفضالاً؛ فاستحق أن يكونَ خُلقه القرآن، وإليك بعضاً من مواقف حُسن عهده وطيبِ معشره وصدق محبته للمسلمين ولمن يعملون لدين الله. وله ولأصحابه في ذلك مواقفُ مشهودة مسجلة.
روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنًّ امرأةً سوداءَ كانت تَقُمُّ المسجدَ -أو شابّاً- ففقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنها -أو عنه- فقالوا: مات، قال: (أفلا كنتم آذنتموني؟!) قال: فكأنهم صغَّرُوا أمرَها -أو أمرَه- فقال: (دُلُّوني على قبره) فدَلُّوه، فصلى عليها، ثم قال: (إن هذه القبور مملوءةٌ ظُلمةً على أهلِها، وإن الله -عز وجل- ينَوِّرُها لهم بصلاتي عليهم) .
فانظر -رحمك الله- لنبي الله -صلى الله عليه وسلم- وتثمينِه -بأبي هو وأمي- لذلك العمل؛ سؤاله عنها، وغضبه حينما أخبروه بوفاتها أو دفنها دون إعلامه، فقال لهم: دلوني على قبرها.
فذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه الشريفة، ومعه أصحابه الكرام البررة -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- إلى قبر تلك المرأة السوداء، وصلَّوا عليها، ودعَوا لها، تثميناً من النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا العمل، ولو كان الفاعل له امرأة سوداء!!
قلت: وانظر واعجب من تثمينه لهذا العمل – أعني قَمَّ المسجد- وهو ما قد يبدو في أعين الناس مستصغراً في مجتمع يملؤه أهل السابقة في الإيمان والهجرة، والجهاد والنصرة، والعطاء والصدقة، فلم يستصغره ولم يتأخر –صلى الله عليه وسلم- عن الوفاء لعامله وتقديره، فبوفائه فلنقتدِ.
وروى البخاري في صحيحه من حديث محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-قال في أسارى بدر، وكانوا سبعين من صناديد الكفر: (لو كان المطعِمُ بن عَدِيٍّ حيّاً ثُمَّ كلَّمَني في هؤلاء النَّتْنَى لتركتُهم له) ، فانظر كيف حفظت هذه النفس الشريفة الكريمة معروفاً مقدًّماً لها (1) ، لا أقول من مسلم بل من كافر.
وقد أخرج البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (ما غِرْتُ على امرأة ما غِرْتُ على خديجة، ولقد هَلَكَتْ قبل أن يتزوجني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بثلاث سنين، لِمَا كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة، ثم يهدي في خَلَّتها منها) يعني: في صُوَيْحِباتِها منها، وهن خلائلها وصديقاتها.
وورد في البخاري في الأدب المفرد: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أُتِيَ بالشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة) .
وأخرج الحاكم و البيهقي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (جاءت عجوز إلى النبي صلى الله وعليه وسلم، فارتاع لها وخرج، فقال: كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خَرَجَتْ، قلت: يا رسول الله! تُقْبِل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! فقال: يا عائشة! إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان).
وبعد هذه المواقف القصيرة من حسن عهده -صلى الله عليه وسلم- بشكل عام ووفائه؛ نمضي في حديثنا حتى نرى خُلُقَه وصحبٍه مع أسر المجاهدين والشهداء...
أولاً: نماذج وتطبيقات نبوية مع عوائل الشهداء وذويهم:
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يزور أسر الشهداء بل والجرحى والمرضى، ويواسيهم ويأمر بذلك، وهذا من رحمته ولطفه ووده-صلى الله عليه وسلم- وكيف وهو نبي الرحمة والملحمة.
فقد روى الشيخان عن زيد بن خالد الجهني قال: قال نبي الله –صلى الله عليه وسلم-: (من جهَّزَ غازياً فقد غزا، ومن خلفَ غازياً في أهله فقد غزا).
قال النووي في شرحه على مسلم (2): "أي حصل له أجر بسبب الغزو، وهذا الأجر يحصل بكل جهاد؛ وسواء قليله وكثيره، ولكل خالِفٍ له في أهلِه بخير؛ من قضاء حاجة لهم، وإنفاق عليهم، أو مساعدتهم في أمرهم. ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته.
وفي هذا الحديث: الحثُّ على الإحسان إلى من فعل مصلحة للمسلمين أو قام بأمر من مهماتهم" اهـ .
وقد جاء من الوعيد الشديد مؤكِّداً على حرمة التعدي على أهاليهم ومسِّهم بسوء، ما لم يأتِ في أهالي القاعدين.
ففي البخاري ومسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (حرمةُ نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتِهم، وما مِن رجلٍ من القاعدين يَخْلُفُ رجلاً من المجاهدين في أهلِه فيخونه فيهم، إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟) وفي رواية لمسلم: (إلا وقف يوم القيامة فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى).
قال النووي -رحمه الله- : "هذا في شيئين: أحدهما: تحريم التعرُّض لهن بريبة من نظر محرَّم، وخلوة، وحديث محرَّم، وغير ذلك. والثاني: في بِرِّهنَّ، والإحسان إليهن، وقضاء حوائجهن التي لا يترتب عليها مفسدة، ولا يُتوصَّل بها إلى ريبة ونحوها" اهـ .
قلت: هذا في حال حياته فكيف بعد قتله واستشهاده؟! .
وإليك نماذج أخرى وضيئة نيِّرة فيما يخص المجاهدين والمرابطين وأُسَرَهم...
الأول: روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يدخل بيتاً بالمدينة غير بيت أم سليم بنت ملحان، إلا على أزواجه، فقيل له فقال صلى الله عليه وسلم: (إني أرحمها؛ قُتِلَ أخوها معي)(3) .
وأخوها هو الصحابي الجليل حرام بن ملحان، الذي قال يوم بئر معونة: (فزتُ وربِّ الكعبة) لما طُعِن من ورائه، فطلعت الحربة من صدره رضي الله عنه.
ووجه الدلالة أن "النبي -صلى الله عليه سلم- كان يجبر قلب أم سليم بنت ملحان بزيارتها، ويعلل ذلك بأن أخاها قتل معه (4)، ففيه أنه -صلى الله عليه سلم- خلفه في أهله بخير بعد وفاته، وذلك من حسن عهده" ، قاله ابن المنير فيما نقله عنه ابن حجر في الفتح (5).
قال بدر الدين العيني الحنفي في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (6): "فيه أنه خلفه في أهله بخير بعد وفاة أخي أم سليم، وذلك من حسن عهده... وله وجه أقرب من هذا، وهو أن تجهيز الغازي ونظره في أهله من غاية الإكرام للغازي، وقد حث النبي على ذلك، حتى إنه أكرمه بعد موته حيث كان يدخل بيت أم سليم لأجل قتل أخيها وهو غازٍ، فكأنه ينبه بهذا على أن إكرام أهل الغازي الميت مرغوب فيه مع الأجر، فإذا كان في إكرام أهل الغازي الميت هكذا ففي إكرام الغازي الحي بطريق الأولى" اهـ بتصرف يسير.
وقال النووي في شرحه على مسلم (7): "فيه بيان ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من الرحمة والتواضع وملاطفة الضعفاء" اهـ .
وقال القاضي عياض في إكمال المعلم شرح صحيح مسلم (8):
"وقوله: (إني أرحمها؛ قتل أخوها معي) مما أكد عنده حقَّها، وأوجب تأسيها ورعايتها" اهـ.
الثاني: عندما قتل جعفر ـ رضي الله عنه شهيداً في معركة مؤتة قال النبي -صلى الله عليه سلم- لأصحابه: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فإنه قد أتاهم أمر شغلهم)(9) .
وروي عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: (فما زالت السُّنَّة فينا حتى تركها من تركها)، أي سنة إطعام الموتى والقتلى ومنهم أسر الشهداء؛ سُنَّةً متبعة حتى تركها من تركها.
وعن أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- زوج جعفر أنه لما قتل جعفر جاءها النبي صلى الله عليه سلم فقال: (ائتيني ببني جعفر، قالت: فأتيته بهم، فشمهم وذرفت عيناه)(10) .
ولا شك أن هذا كله من تعزية أسَر الشهداء والوقوف إلى جانبهم في كل ما يحتاجونه وهذا كله من الرحمة بهم وتسليتهم بمصابهم وإخلافهم خيراً، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من عزّى مصاباً فله مثل أجره) رواه الترمذي.
وروي أنه لما جاء جيش المسلمين من معركة مؤتة ودنَوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله -صلى الله عليه سلم- والمسلمون، فقال الرسول: (خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابنَ جعفر، فأُتِيَ بعبد الله، فأخذه فحمله بين يديه) (11).
وكان عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- يقول: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هنيئاً لك، أبوك يطير مع الملائكة في السماء)(12).

وجه الدلالة:
هذه الروايات السابقة كلها توضح كيف كان يتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبناء الشهيد وأهله، وكيف كان يكرمهم، ويسليهم، ويدفع عنهم ما يسوؤهم أو يحزنهم، بل ويأمر بصنع الطعام لهم، وقال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) .
ثانياً: نماذج وصور من حياة الصحابة الكرام مع عوائل الشهداء وأبنائهم:

ومن هذه النماذج:
1. أنَّ أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- دخل عليه رجل فوجد بنت سعد بن الربيع على بطنه وهو يشمها، فقال: (يا خليفة رسول الله، ابنتك هذه؟ قال: لا، بل ابنة رجل هو خير مني، قال الرجل: من هذا الرجل الذي هو خير منك بعد رسول الله؟! قال: سعد بن الربيع، كان من النقباء، وشهد بدراً، وقُتِلَ يوم أحد)(13) .
2. وما جاء عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: (أربع من أمر الإسلام لست مضيعهن ولا تاركهن لشيء أبداً) ... وذكر مِنهن: (المهاجرون الذين تحت ظلال السيوف ألا يحبسوا ولا يجمروا(14) ، وأن يوفر فيء الله عليهم، وعلى عيالاتهم، وأكون أنا للعيال حتى يقدموا)(15) .
3. وقد كان -رضي الله عنه- يكرم أبناء الشهداء ويفضلهم على غيرهم، فقد روي أنه لما فرض للناس، فرض لعبد الله بن حنظلة الغسيل ألفي درهم، فأتاه طلحة بابن أخ له ففرض له دون ذلك، فقال: (يا أمير المؤمنين فضلت هذا الأنصاري على ابن أخي! قال: نعم لأني رأيت أباه يستن يوم أحد بسيفه كما يستن الجمل)(16) .
وقوله يستن: قال ابن الأثير: "استن الفرس يستن استناناً: أي عدا لمرحه ونشاطه شوطاً أو شوطين ولا راكب عليه ومنه حديث عمر: (رأيت أباه يستن...) أي يمرح ويخطر به" اهـ(17) .
4. وروى البخاري في صحيحه وغيره عن زيد ابن أسلم عن أبيه قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب إلى السوق، فلحقت عمرَ امرأةٌ شابة، فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صبيةً صِغاراً، والله ما يُنضِجون كراعاً، ولا لهم ضرع ولا زرع، وخشيت أن يأكلهم الضبع، وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحبا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعيرٍ ظهيرٍ كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما، وحمل بينهما نفقة وثياباً، ثم ناولها بخطامه، ثم قال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أكثرْتَ لها، فقال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرَا حصناً زماناً فافتتحناه، ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه) .
الشاهد من هذا أن الفاروق عمر لم ينسَ فضل من قاتل معه، وبَرَّ بها وذكر فضل أبيها وأخيها رضي الله عنهم.
5. كما روي عنه أنه أعطى رجلاً عطاءه؛ أربعة آلاف درهم وزاده ألفاً، فقيل له: ألا تزيد ابنك كما زدت هذا؟ قال: (إن أبا هذا ثبت يوم أحد، ولم يثبت أبو هذا)(18) .
6. ذكر ابن الجوزي عن الشعبي قال: "سمع الناس قول عمر -رضي الله عنه- ورأوا عمله، وكان يمشي في الأسواق ويطوف في الطرقات، ويقضي بين الناس في قبائلهم، ويعلمهم في أماكنهم، ويخلف الغزاة في أهليهم، ذكروا أبا بكر والنبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلم بأبي بكر رضي الله عنه، وأبو بكر أعلم بعمر، فجرى أبو بكر وعمر مجرى واحداً... فكان أبو بكر مع لينه أقواهم فيما لانوا عنه، وألينهم فيما ينبغي، وكان عمر ألينهم فيما ينبغي، وأقواهم على أمرهم)"(19) .
7 ــ وفي الصحيح عن ثعلبة بن أبي مالك، أن عمر بن الخطاب قسم مروطاً(20) بين نساء من نساء أهل المدينة، فبقي منها مرطٌ جيدٌ، فقال له بعض من عنده: (يا أمير المؤمنين، أعط هذا بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي عندك، يريدون أم كلثوم بنت عليٍّ(21) )، فقال عمر: (أم سليط أحق به)، وأم سليط(22) من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عمر: (فإنها كانت تُزْفِرُ القِرَب يوم أحد)(23) .
8 ــ وعن عبد الله بن عبيد بن عمير(24) ، قال: (بينا الناس يأخذون أعطياتهم بين يدي عمر إذ رفع رأسه فنظر إلى رجل في وجهه ضربة فسأله، فأخبره: أنه أصابته في غزاة كان فيها، فقال: "عُدّوا له ألفاً"، فأعطي ألف درهم، ثم قال: "عدّوا له ألفاً"، فأعطي الرجل ألفاً أخرى، قال له ذلك أربع مرات كل ذلك يعطيه ألف درهم، فاستحيا الرجل من كثرة ما يعطيه فخرج، قال: فسأل عنه فقيل: له "رأينا أنه استحيا من كثرة ما أعطي فخرج"، فقال: "أما والله لو أنه مكث ما زلت أعطيه ما بقي منها درهم، رجل ضرب ضربة في سبيل الله حفرت في وجهه")(25) .
9. وقد كان عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- إذا حيَّا ابنَ جعفر بن أبي طالب قال: (السلام عليك يا ابن ذي الجناحين)(26) .
وهذه النماذج الطيبة وغيرها من حياة صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما تعكس التوجيهات النبوية لهذه الأمة حيال شهدائها ومصابيها، ومدى تكاتف الصحابة الكرام، وحبهم بعضهم بعضاً، وتكريمهم شهداءهم ومصابيهم، واستشعارهم لعظم أمانة ذوي الشهداء والجرحى من بعدهم.

ثالثا: واجبات الجماعة والمجتمع تجاه عوائل الشهداء وذويهم في كتب الفقه:
سأقتصر في هذا المطلب على ثلاثة مواضع في كتب التراث الفقهي، في كتاب المهذب لأبي إسحاق الشيرازي، والمغني لابن قدامة، وغيرها وذلك على النحو التالي:
1. ما جاء في كتاب المهذب:
قال أبو إسحاق في المهذب: "وينبغي للإمام أن يضع ديوانا يثبت فيه أسماء المقاتلة، وقدْرَ أرزاقهم، لما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قدمت على عمر من عند أبي موسى الأشعري بثمانمائة ألف درهم، فلما صلى الصبح اجتمع إليه نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لهم: قد جاء للناس مال لم يأتهم مثله منذ كان الإسلام أشيروا عليَّ بمن أبدأ منهم، فقالوا: بك يا أمير المؤمنين إنك وليُّ ذلك. قال: لا ولكن أبدأ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم الأقرب إليه. فوضع الديوان على ذلك.
ويستحب: أن يجعل على كل طائفة عريفاً؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل عام خيبر على كل عشرة عريفاً، ولأن في ذلك مصلحة، وهو أن يقوم على التعريف بأمورهم ويجمعهم في وقت العطاء، وفي وقت الغزو.
ويجعل العطاء في كل عام مرة أو مرتين ولا يجعل في كل شهر ولا في كل أسبوع؛ لأن ذلك يشغلهم عن الجهاد، وربما يقتل أو يؤسر الأخ الذي عَرَف العوائل.
ويقسم بينهم على قدر كفايتهم؛ لأنَّهم كفَوا المسلمين أمرَ الجهاد فوجب أن يُكْفَوا أمر النفقة.
ويتعاهد الإمام في وقت العطاء عدد عيالهم؛ لأنَّه قد يزيد وينقص، ويتعرف الأسعار وما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة؛ لأنَّه قد يغلو ويرخص لتكون عطيتهم على قدر حاجتهم.
ولا يفضل من سبق إلى الإسلام أو إلى الهجرة على غيره؛ لأن الاستحقاق بالجهاد، وقد تساووا في الجهاد، فلم يفضل بعضهم على بعض كالغانمين في الغنيمة.

وإن مات المجاهد وله ولد صغير أو زوجة ففيه قولان:
أحدهما: أنَّه لا يعطَى ولدُه ولا زوجته من الفيء شيئاً؛ لأنَّ ما كان يصل إليهما على سبيل التبع لمن يعولهما، وقد زال الأصل، وانقطع التبع.
والثاني: أنه يعطى الولد إلى أن يبلغ، وتعطى الزوجة إلى أن تتزوج؛ لأنَّ في ذلك مصلحةً، فإن المجاهد إذا علم أنه يعطى عياله بعد موته توفر على الجهاد، وإذا علم أنه لا يعطى اشتغل بالكسب لعياله، وتعطل الجهاد، فإذا قلنا بهذا فبلغ الولد فإن كان لا يصلح للقتال كالأعمى والزمن؛ أعطي الكفاية كما كان يعطى قبل البلوغ، وإن كان يصلح للقتال وأراد الجهاد فرض له، وإن لم يرد الجهاد لم يكن له في الفيء حق؛ لأنه صار من أهل الكسب، وإن تزوجت الزوجة سقط حقها من الفيء؛ لأنها استغنت بالزوج، وإن دخل وقت العطاء فمات المجاهد انتقل حقه إلى ورثته؛ لأنه مات بعد الاستحقاق فانتقل حقه إلى الوارث" اهـ بتصرف وزيادة يسيرة.
2. ما جاء في كتاب المغني: يقول ابن قدامة: "ومن مات من أجناد المسلمين دفع إلى زوجته وأولاده الصغار قدر كفايتهم؛ لأنه لو لم تعطَ ذريتُه بعده لم يجرد نفسه للقتال؛ لأنه يخاف على ذريته الضياع، فإذا علم أنهم يُكفَون بعد موته سهل عليه ذلك، وإذا بلغ ذكورُ أولادِهم واختاروا أن يكونوا في المقاتِلة: فُرِض لهم، وإن لم يختاروا تُركوا" اهـ .
3- هذا وقد ذكر غيرهما من فقهاء المسلمين أن من مات أو قتل من جنود المسلمين فإنه ينفق على امرأته حتى تتزوج، وعلى ابنته الصغيرة حتى تتزوج، وعلى ابنه الصغير حتى يبلغ، ثم يجعل من المقاتلة إن كان يصلح للقتال، لأنَّ في هذا تطييباً لقلوب المجاهدين، فإنهم متى علموا أن عيالهم يُكفَون المؤنة بعد موتهم تحمسوا للجهاد والقتال، وغيرها من المسائل التي تتعلق برعاية ذوي الشهداء من بعدهم، والقيام عليهم، وإصلاح شؤونهم، مما يدلل على عدم غفلة سلفنا الصالح عن هذا الباب العظيم من أبواب الجهاد(27).
كتبه وفاءً لأُسَر المجاهدين والشهداء
الشيخ المجاهد/ أبو مارية القحطاني –ثبته الله-
  
- - - - - -
(1) لما اشتد أذى كفار قريش للنبي -صلى الله عليه وسلم-بعد موت عمه أبي طالب، خرج إلى الطائف، فأغروا به سفهاءهم، وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، حتى أدموا قدميه، ثم قفل بعد ذلك إلى مكة، فقال له زيد بن حارثة -رضي الله عنه-: (كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ -يعني كفار قريش- فقال: يا زيد! إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً. وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه).
فأرسل رجلاً من خزاعة إلى المطعم بن عدي: (أدخل في جوارك؟) فقال: نعم! فدعا المطعم بنيه وقومه، فقال: البسوا السلاح، وكانوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمداً، فلا يَهجه منكم أحد، فانتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدي وولده محدقون به في السلاح. انظر: مختصر سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، تأليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 116-115. فحفظ النبي -صلى الله عليه وسلم-هذا الصنيع للمطعم.
(2) [13/41]
(3) البخاري (2689) ومسلم (2455) . قال العينيُّ في عمدة القاري 14/138 : "قوله (قتل أخوها معي) والمراد بقوله معي أي مع عسكري أو معي نصرة للدين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في غزوة بئر معونة" اهـ. وقال ابن حجر في فتح الباري 6/51 : "والمراد بقوله معي أي مع عسكري أو على أمري وفي طاعتي لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشهد بئر معونة وإنما أمرهم بالذهاب إليها، وغفل القرطبي فقال: قتل أخوها معه في بعض حروبه وأظنه يوم أحد ولم يصب في ظنه والله أعلم" اهـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كل من اتبع النبي -صلى الله عليه وسلم -وقاتل على دينه فقد قاتل معه، وكذلك كل من قتل على دينه فقد قتل معه" اهـ مجموع الفتاوى 1/60 .
(4) قال ابن حجر في الفتح 1/289 : "والمراد بالمعية الصحبة اللائقة لأنه إنما قتل ببئر معونة" اهـ .
(5) انظر: فتح الباري 6/60 .
(6) [21/ 294]
(7) [16/10]
(8) [7/243]
(9) رواه أبو داود، كتاب الجنائز، باب صنعة الطعام لأهل الميت، رقم (3132) ، وسكت عنه. والترمذي، أبواب الجنائز، باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت، رقم (998) . وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت، رقم (1610) .
(10) انظر: السيرة النبوية لابن هشام 4/380، وأخرجه أحمد في المسند، الفتح الرباني 22/215 -216. قال الهيثمي: رواه أحمد وفيه امرأتان لم أجد من وثقهما، ولا من جرحهما، وبقية رجاله ثقات. المجمع 6/161.
(11) السيرة النبوية لابن هشام 4/382، وانظر: تاريخ الطبري 3/42.
(12) قال الحافظ ابن حجر في الفتح 7/97: "أخرجه الطبراني بإسناد حسن" وكذلك قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب 2/315، ولم أجده في الكبير والأوسط.
(13) انظر سنن سعيد بن منصور 2/303 رقم (2842) ، بتصرف يسير.
(14) تجمير الجيش: جمعهم في الثغور وحبسهم عن العودة إلى أهلهم. انظر: النهاية: 1/292.
(15) رواه ابن جرير في تاريخه 4/227.
(16) الجهاد لابن المبارك ص103 -104، والحاكم في المستدرك 3/205.
(17) النهاية 2/410 -411.
(18) انظر: المناقب لابن الجوزي ص 79.
(19) المناقب لابن الجوزي ص 66-67 ، وهو منقطع.
(20) المرط، بالكسر: كساء من صوف أو خزّ. انظر: القاموس ص 887.
(21) الهاشمية، أمّها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: الإصابة 8/275.
(22) الأنصارية، بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- وحضرت معه يوم أحد، وهي والدة أبي سعيد الخدري. انظر: الإصابة 8/242 .
(23) صحيح البخاري، كتاب الجهاد 3/1056، رقم (2625) .
(24) عبد الله بن عبيد الليثي والمكي، ثقة من الثالثة، استشهد غازياً سنة ثلاث عشرة ومئة. انظر: التقريب ص 312.
(25) الأموال لابن زنجويه 2/570-571 ، وإسناده ضعيف؛ لانقطاعه. والمناقب لابن الجوزي ص 74 .
(26) صحيح البخاري 5/25 .
(27) انظر: الشرح الكبير لعبد الرحمن ابن قدامة 5/589، وفتاوى ابن تيمية 28/986، وكتاب (مختصر في فضل الجهاد) لابن جماعة الحموي ص142.

المصادر: