جيش الثورة السورية

الكاتب : مجاهد مأمون ديرانية
التاريخ : ٢٥ ٢٠١٣ م

المشاهدات : 5968


جيش الثورة السورية

تصف هذه الدراسةُ الواقعَ العسكري الثوري في سوريا، وقد كتبتها قبل أكثر من شهرين، قبل الإعلان عن توحيد عدد من الفصائل الكبرى في "الجبهة الإسلامية" الجديدة، وأرسلتها إلى "مركز الجزيرة للدراسات".
بعد إرسالها بقليل أُعلن عن تشكيل الجبهة، فطلب مني المسؤولون في المركز تعديلها لاستيعاب المتغيرات الجديدة. 

 

 

ثم أجرَوا عليها بعضَ التغييرات الطفيفة وحذفوا منها بعض العبارات، وأضافوا إليها مقدمة وخاتمة ليستا من كتابتي، ونشروها في الموقع الإلكتروني للمركز قبل يومين.
تجدون على هذا الرابط الدراسةَ بصورتها الأصلية قبل التعديلات، وهي تصف الواقع العسكري الميداني بتاريخ كتابتها في منتصف شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وقد أضفت إليها في آخرها ملحقاً عن "الجبهة الإسلامية"، وأضفت إليها في وسطها فقرة عن تجمع "الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام" الذي أُعلن عنه في غوطة دمشق قبل الإعلان عن الجبهة الجديدة ببضعة أيام.

مقدمة:
يتساءل كثيرون -من السوريين ومن غير السوريين- عن القُوى العسكرية الثورية التي تخوض الحرب مع جيش الاحتلال الأسدي الطائفي منذ سنتين: ما صفتها وكم مبلغ قوتها؟ وما هي أهم التكتلات العسكرية؟ وما الفرق بين ما يسمى "الجيش الحر" وما يسمى "الفصائل الإسلامية"؟

جواباً على تلك الأسئلة وغيرها كتبت هذه الدراسة. ومن المفيد أن أؤكد مقدماً أن الوصف الذي أقدمه فيها هو أدق وصف للوضع الميداني الحالي، أعني وقتَ كتابة هذه الكلمات، وهو وضع متغير، فمن المقرر أن أحداً لا يستطيع تقديم وصف ثابت للتشكيلات العسكرية الثورية في سوريا لأن خريطتها تتغير طول الوقت، فهي تشهد حالات مستمرة من الاندماج والانفصال والانتقال من هذا الطرف إلى ذاك، وقد تتغير أعدادُ المقاتلين ضمن المجموعة الواحدة تغيراً ملحوظاً بين أسبوع وأسبوع أو بين شهر وآخر.
مع العلم بأنني ملتزم فيما أكتبه الآن بما ألزمت به نفسي في كل مقالة كتبتها عن الثورة من قبل، وهو أن لا أكشف معلومة لا يجوز كشفها ولا أقدّم للعدو أسرار الثورة التي يمكن أن يستفيد منها، لأن المعلومات سلاح ذو حدّين، إذا استُعمل استعمالاً صحيحاً كان فيه نفع، وإلا فإنه يجلب الضرر، وما أكثرَ ما رأينا ذلك في الثورة السورية فيما مضى. فمن قرأ في هذه الدراسة معلومات جديدة فليعلم أنها ليست من الأسرار التي لا يجوز كشفها، وأنها مما تعرفه أجهزة المخابرات الغربية والعربية، بل إن كثيراً منها متداوَل في وسائل الإعلام العامة ومراكز الأبحاث والدراسات العالمية.

أولاً: التاريخ
بداية العمل الثوري المسلح:

بدأ العمل الثوري المسلح بالانتشار البطيء منذ شهر الثورة الثالث أو الرابع من طريقين:
انشقاق عناصر عسكرية عن جيش الاحتلال الأسدي شكلت مجموعات مقاتلة صغيرة، وانتقال جماعات من الثوار المدنيين إلى العمل العسكري.
أول انشقاق علني موثّق عن جيش الاحتلال الأسدي كان على رأس خمسة أسابيع من انطلاق الثورة، عندما ظهر المجند في الحرس الجمهوري، وليد القشعمي، في تسجيل مصور بتاريخ 23/4/2011 ليعلن أنه رفض إطلاق النار على المتظاهرين السلميين في حرستا بريف دمشق، وقد انشق واختفى عن الأنظار.
أما أول المنشقين من الضباط فقد كان الملازم أول عبد الرزاق طلاس (7/6/2011)، وبعده بيومين انشق المقدم حسين الهرموش (9/6/2011) وأنشأ "لواء الضباط الأحرار".
بعده بأقل من شهر انشق العقيد رياض الأسعد (4/7/2011)، وبعد انشقاقه بخمسة وعشرين يوماً أعلن عن تأسيس "الجيش السوري الحر" الذي اقتصرت مهمته -في بدايتها- على حماية المدنيين وحراسة المظاهرات السلمية.
خلال الشهر التالي، آب 2011، أعلن الجيش الحر عن تشكيل ثماني كتائب: كتيبة خالد بن الوليد في محافظة حمص، وكتيبة حمزة الخطيب في ريف إدلب، وكتيبة الهرموش في جبل الزاوية، وكتيبة القاشوش في مدينة حماة، وكتيبة أبي الفداء في ريف حماة الشمالي، وكتيبة العمري في محافظة درعا، وكتيبة معاذ الركاض في دير الزور، وكتيبة الله أكبر في البوكمال.
وفي أيلول أعلن عن تشكيل ثلاث كتائب أخرى:
كتيبة الأبابيل في حلب، وكتيبة معاوية بن أبي سفيان في دمشق، وكتيبة أبي عبيدة بن الجراح في ريف دمشق.
استمر التنازع بين لواء الضباط الأحرار والجيش الحر لبعض الوقت، ثم انتهى أخيراً بإعلان اندماج الحركة في الجيش بتاريخ 24/9/2011، وذلك بعد عدة أسابيع من اختفاء المقدم حسين الهرموش، الذي تبين لاحقاً أن المخابرات السورية اختطفته من تركيا بمعاونة بعض العناصر العلوية في المخابرات التركية، ولا يُعرَف مصيره على وجه الدقة حتى اليوم.

من حماية المدنيين إلى إسقاط النظام:
شهدت السنة الثانية (2012) تغيراً كبيراً في المشهد الثوري العسكري، فقد انتقلت القُوى الثورية الوليدة من الهدف الذي نشأت من أجله، وهو حماية المدنيين والحراك السلمي، إلى الهدف الجديد الكبير الذي حافظت عليه بعد ذلك: إسقاط النظام وتحرير سوريا من الاحتلال الأسدي الطائفي.
مع بداية تلك السنة بدأ العمل العسكري بالانتشار وتوالدت الكتائب بسرعة هائلة، حتى بلغت في أواخرها نصفَ ألف كتيبة أو أكثر.
ولم يكن لها كلها في البداية إلا عنوان واحد جامع هو "الجيش الحر"، ثم بدأ التمييز الاصطلاحي بين الفصائل والجماعات الإسلامية من جهة والجيش الحر من جهة أخرى، ولعل ذلك التمييز بدأ أولَ ما بدأ مع ولادة "جبهة ثوار سوريا" التي ضمت عدداً من الفصائل الإسلامية، أشهرها كتائب أحرار الشام في إدلب وكتائب أحفاد الأمويين في دمشق وريفها.
أُعلن عن انطلاق "جبهة ثوار سوريا" في مؤتمر صحفي في إسطنبول في الرابع من حزيران 2012، ولكنها لم تعش طويلاً، وسرعان ما تفككت ووُلد بدلاً منها تجمع جديد، هو "جبهة تحرير سوريا الإسلامية" التي أُعلن عن ولادتها بتاريخ 12/9/2012، وكان مخططاً لها أن تضم أهم المجموعات الجهادية الكبيرة: ألوية صقور الشام وكتائب أحرار الشام وتجمع أنصار الإسلام وغيرها، لكن بعض الخلافات التي نشأت في اللحظات الأخيرة تسببت في انسحاب كتائب أحرار الشام من الجبهة. وحينما أُعلن عن إنشائها رسمياً كانت "جبهة تحرير سوريا الإسلامية" تضم ألوية صقور الشام وكتائب الفاروق وتجمع أنصار الإسلام ولواء الفتح ولواء الإيمان ومجلس ثوار محافظة دير الزور، وعدداً آخر من الكتائب والألوية الأصغر حجماً.
وفي وقت لاحق (11/1/2013) أُعلن عن ضم لواء التوحيد إلى جبهة تحرير سوريا، ثم انسحب منها تجمع أنصار الإسلام. ويقدَّر عدد مقاتليها حالياً بما يتراوح بين ثلاثين ألف مقاتل وأربعين ألفاً، وتتحدث بعض مصادرها عن ستين ألفاً، ولكنني أجده تقديراً مبالَغاً فيه إلى حد ما.
قبل نهاية عام 2012 بعشرة أيام وُلدت الجبهة الإسلامية الثانية، وهي "الجبهة الإسلامية السورية"، وتضم كتائب أحرار الشام وحركة الفجر الإسلامية وجماعة الطليعة الإسلامية وكتائب الإيمان المقاتلة وكتائب أنصار الشام ولواء الحق وجيش التوحيد، وعدداً آخر من الألوية والكتائب، وبعد ولادتها بشهرين انسحب لواء الإيمان في حماة من جبهة تحرير سوريا وانضم إليها.
في وقت لاحق أُعلن عن اندماج الجماعات الأربع الأولى (كتائب أحرار الشام وحركة الفجر وجماعة الطليعة وكتائب الإيمان) في كيان واحد اسمه "حركة أحرار الشام"، فصارت الحركةُ هي العمودَ الفقري والمكوِّن الرئيسي للجبهة الإسلامية السورية التي يقدَّر عددُ مقاتليها حالياً بنحو ثلاثين ألفاً أو أقل قليلاً.
التجمعات المتوسطة وغرف العمليات:
بالإضافة إلى التجمعات الكبرى المتمثلة في الجبهتين السابقتين نشأت بعض التجمعات الأصغر حجماً، ومن أمثلتها "هيئة دروع الثورة" التي أُعلن عن تأسيسها بتاريخ 30/9/2012، ولم تلتحق بأي من الجبهتين الكبيرتين بل بقيت مستقلة، ويبدو أنها مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين السورية، وهي تضم كتائب في أكثر مناطق سوريا ويبلغ عدد مقاتليها قريباً من عشرة آلاف.
ومن التجمعات المتوسطة المشهورة "تجمع أنصار الإسلام" الذي أُعلن عن تشكيله في منطقة دمشق بتاريخ 8/8/2012، وكان يضم -وقتَ تأسيسه- أهم الكتائب والألوية في دمشق وريفها، ولا سيما في الغوطة الشرقية: لواء الإسلام ولواء الفرقان ولواء درع الشام وكتائب الصحابة وكتائب الحبيب المصطفى وغيرها من الألوية والكتائب، وكان يقدَّر عدد مقاتليه بنحو خمسة عشر ألفاً.
لكن لواء الإسلام انسحب في وقت لاحق من التجمع وبقي ضمن جبهة تحرير سوريا الإسلامية بعد انسحاب التجمع منها، ثم وسّع تشكيه مؤخراً وضم إليه عدداً من الكتائب والألوية العاملة في الغوطة الشرقية، وغيّر اسمه من "لواء الإسلام" إلى "جيش الإسلام".
أما "تجمع أنصار الإسلام" فقد انسحبت مكوّناتُه واحدةً بعد أخرى، حتى انفرط عقده بالكامل مع نهاية الربع الأول من العام الحالي.
وقد نشأ أخيراً في الريف الدمشقي تجمع جديد باسم "الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام"، أُعلن عنه قبل ولادة "الجبهة الإسلامية" بثلاثة أيام فقط، أي بتاريخ 19/11/2013، ويضم أكبر الفصائل المقاتلة في الغوطتين الشرقية والغربية وجنوب دمشق والقلمون، وهي: ألوية وكتائب الحبيب المصطفى وألوية وكتائب الصحابة وكتائب شباب الهدى وتجمع أمجاد الإسلام ولواء درع العاصمة، ويبلغ عدد مقاتلي هذا التجمع الجديد قريباً من ثمانية عشر ألفاً.

جبهة النصرة ودولة العراق والشام:
بدأ اسم جبهة النصرة بالانتشار أواخر عام 2011 ولكنها لم تعلن عن نفسها رسمياً إلا في أوائل 2012 (24/1/2012). كان جُلّ مقاتليها في أول الأمر من السوريين الذين سبقت لهم تجربة جهادية في أفغانستان والشيشان والعراق، غير أنها سرعان ما بدأت باستقطاب مجاهدين من خارج سوريا. ولم تُعرَف نسبة المجاهدين غير السوريين (المهاجرين) فيها بصورة دقيقة، لكن التقديرات التقريبية كانت تشير إلى أنهم ربما بلغوا نحو ربع أو ثلث عدد مقاتلي النصرة الإجمالي.
وبما أن جبهة النصرة أقرب إلى التنظيم المغلق (بسبب الارتباط بتنظيم القاعدة واشتراط البيعة على عناصرها) فقد نَمَت ببطء شديد حتى بلغ عدد مقاتليها ما بين سبعة آلاف مقاتل وعشرة آلاف.
ثم أصابها التصدع عقب إعلان البغدادي المشهور في نيسان الماضي، إعلان ضَمّ جبهة النصرة إلى دولة العراق، فانشقت عنها مجموعة كبيرة واستقلت باسم "دولة العراق والشام الإسلامية" (ويسميها البعض اختصاراً باسم "داعش") وأعلنت تبعيتها لتنظيم البغدادي في العراق.
كان الذين انشقوا عن النصرة في البداية قلّة، لكن دعاة "الدولة" نشطوا في الدعوة إليها في أوساط "النصرة" واستطاعوا استقطاب عدد أكبر من مقاتليها، وبالنتيجة صار عددهم هو الأكبر، إذ يقدَّر أنهم استحوذوا على ثلثَي مقاتلي النصرة الأصليين.
ثم وصل إلى تنظيم الدولة مدد من العراق يقدر بنحو ألف من الذين أُطلقوا من سجنَي التاجي وأبي غريب في عملية السجون المشهورة في رمضان، ومن ثَمّ فإننا نستطيع أن نقدر عدد مقاتلي "جبهة النصرة" حالياً بنحو ثلاثة آلاف، أما مقاتلو "الدولة" فربما يبلغون سبعة آلاف أو نحوها.

الروابط التنظيمية للكتائب المقاتلة:
بقي أن نعرف: هل تمثل الكيانات السابقة أجساماً صُلبة؟
هل ترتبط مكوِّناتها معاً بروابط قوية دائمة؟
الجواب على الإجمال: "لا"، أما على التفصيل فهو كما يأتي.
لو نظرنا إلى كتائب "الجيش الحر" التي ترتبط بالمجالس العسكرية وهيئة الأركان فسوف نجد أن أكثرها لا يرتبط بأي منها ارتباطاً دائماً، بل يكاد يقتصر على الرابطة الشكلية بهدف الحصول على التمويل.
فالكتائب تحتاج إلى المال لشراء السلاح والذخائر وللإنفاق على المقاتلين، بل إن بعضها يريد المال للكسب الدنيوي حتى وهو بعيد عن القتال الحقيقي؛ تلك الكتائب كلها تبحث عن التمويل، فحيثما وجدته فثَمّ الارتباط.
لذلك نجد أن كتائبَ كثيرة دائمةُ الانتقال من مظلة إلى مظلة ومن ارتباط إلى ارتباط، ولا يكاد يستقر لها قرار.
يُستثنى من تلك الرابطة الهشة بضعة آلاف من المقاتلين جُنّدوا باسم "الجيش الوطني" وسُلّحوا تسليحاً جيداً ودُرّبوا تدريباً خاصاً في الأردن على يد مدربين أردنيين وأميركيين.
ربما كانت تلك المجموعة هي الوحيدة التي ترتبط ارتباطاً عضوياً دائماً بمرجعية خارجية غير سورية، بخلاف سائر مجموعات الجيش الحر.
إذا انتقلنا إلى التجمعات الإسلامية فإننا نجد أن أكثرها قام على أساس التنسيق والتعاون أكثر من الوحدة الكاملة والاندماج الفعلي، حيث نجد أن جبهة تحرير سوريا تضم وحدات كبيرة مستقلة تربطها رابطة عامة رخوة، وقد لا تزيد قوة تلك الرابطة على المواقف السياسية المشتركة والتنسيق في العمليات العسكرية الكبرى.
بالمقابل نجد أن الرابطة التي تجمع مكونات الجبهة الإسلامية السورية أوثق وأقوى، ولكنها لا تصل أيضاً إلى الوحدة الكاملة، باستثناء الجماعات الأربع التي انصهرت في تجمع "حركة أحرار الشام"، المكون الرئيسي للجبهة الإسلامية.
ما يُقال عن التجمعات الكبيرة يقال عن التجمعات المتوسطة أيضاً، فإن الروابطَ بين مكوِّناتها المختلفة روابطُ رخوةٌ غير صارمة، كما كان الحال في "تجمع أنصار الإسلام" القديم وكما هو في تجمع "الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام" الجديد.
ثم تقلّ قوة تلك الروابط أكثرَ فأكثر عندما ننتقل إلى نوع آخر من التجمعات يسمى "غرف العمليات"، وهي تتسم بالمرونة الشديدة بحيث تقتصر على مجرد التنسيق ضمن جبهة من الجبهات.
تنتشر أمثالُ تلك الغرف في كل المناطق، وهي لا تمثل أي كيان دائم لأن الكتائب يمكن أن تدخل فيها وتخرج منها طول الوقت، ومن أمثلتها غرفة عمليات "جند الملاحم" التي تشكلت في الغوطة الشرقية في رمضان الماضي، وكانت تضم حركةَ أحرار الشام وكتائب شباب الهدى وألوية الحبيب المصطفى وجبهة النصرة ولواء عيسى بن مريم.
وأحياناً تنشأ في بعض الجبهات تحالفات لها نفس القدر من المرونة، كتحالف "الراية الواحدة" الذي نشأ في ريف دمشق، وهو أقرب إلى غرفة العمليات منه إلى التجمع الحقيقي، ويضم كتائب الصحابة ولواء توحيد العاصمة ولواء العز وبعض التجمعات الصغيرة الأخرى، وتشترك معه الكتائب التابعة لحركة أحرار الشام في غوطتَي دمشق الشرقية والغربية.

ثانياً: الهوية
تميل كثير من الكتابات العامة التي تتحدث عن الثورة السورية إلى اختزال الجماعات الثورية المقاتلة كلها في فئتين: "فصائل إسلامية" يغلب أن تصفها بالتشدد، وكتائب "جيش حر" يغلب أن تصفها بالعلمانية.
هذا الاختزال المُخِلّ يتلاعب بالحقائق ويقدم صورة سلبية من شأنها أن تثير التنافس وتؤجج النزاع بين المقاتلين، وهي مخالفة للحقيقة من بعض الوجوه وبعيدة عن الدقة من وجوه أخرى.

الجيش الحر:
الحقيقة أن تعبير "الجيش الحر" مصطلح فضفاض يشمل مئات الكتائب الصغيرة التي لا تنتمي إلى التكتلات الإسلامية الرئيسية، بعضها يعمل تحت مظلة المجالس العسكرية أو رئاسة الأركان والبعض الآخر يتحرك مستقلاً.
تلك الكتائب الكثيرة، الكثيرة جداً، تتباين تبايناً شديداً في طبيعتها، فمنها ما هو من الذهب الخالص، من أفضل الكتائب ديناً وخلقاً والتزاماً بهدف الجهاد وأخلاق المجاهدين والإخلاص في القتال والإثخان في العدو، ومنها ما هو دون ذلك: جماعات تقاتل إذا وصلها التمويل وينفرط عقدها إذا انقطع، وجماعات تقاتل حيناً وتكسل عن القتال أحياناً فتُرابط في المدن أطولَ ممّا ترابط على الجبهات، وجماعات لا تقاتل إلا من أجل الغنائم، وجماعات لا تتورع عن استباحة الأموال والممتلكات العامة والخاصة بحجة ضرورات المعركة، وهي ذريعة مطّاطة تضيق أو تتسع بحسب أمانة أصحابها... وصولاً إلى جماعات استظلت بمظلة الجيش الحر وحملت اسمه ولم تحمل من أهدافه وأخلاقه شيئاً البتة، بل هي جماعات من اللصوص والمهربين وقطاع الطرق التي تحترف السرقة والخطف (التشويل)، وهي جماعات "أمراء الحرب" التي وصفتُها في مقالة سابقة نشرتها قبل أربعة أشهر، وحذّرت منها وشجّعت على ضربها واستئصالها قبل أن يتفاقم شرها وتستعصي على العلاج.

الفصائل الإسلامية:
تلتقي الجماعات والفصائل الإسلامية كلها على الهوية الإسلامية الصريحة وعلى هدف إسقاط النظام والحكم بالإسلام، ولكن طرحها السياسي وبرامجها العملية تتفاوت بين المرونة والتشدد.
لا أقصد بكلمة "التشدد" ما تقصده الوسائل الإعلامية العامة، فإنه عندَها مرادفٌ للتدين والالتزام بأحكام الإسلام، إنما أقصد التشدد في التطبيق والتوقيت، بين من يقدم فقه المصالح والموازنات والأولويات ويَقبل بالمرحلية والتدرج، وبين من يرى تأخير الحكم الشرعي استسلاماً وتهاوناً غير جائزَين.
إذا اعتمدنا المعايير السابقة في الترتيب فسوف نجد أن الفصائل التي تتألّف منها جبهةُ تحرير سوريا هي الأكثر وسطيةً وقَبولاً للتدرج والاستعانة بآليّات النظام الديمقراطي، كالانتخابات العامة وفصل السلطات والتعددية السياسية وتداول السلطة؛ نستنتج ذلك من متابعة بياناتها وتصريحات مسؤوليها، وإنْ لم يصدر عنها أي برنامج سياسي متكامل يقدم تصوراتها لمرحلة ما بعد الأسد.
وقد تسبب الطرح الوسطي لتلك الفصائل في انتشار شائعات تشير إلى ارتباطها أو ارتباط بعضها بالإخوان المسلمين.
قرأت تلك الخرافة في كثير من التقارير الأجنبية والعربية (ولا أدري أيُّها نقل عن الآخر) التي تزعم ارتباط كتائب الفاروق ولواء التوحيد بالإخوان، وهو أمر بعيد جداً عن الصواب.
ربما دعمت جماعةُ الإخوان المسلمين كتائبَ مستقلةً كثيرة في أوقات مختلفة، ومن المؤكد أنها تدعم بانتظام الكتائبَ التي تنتمي إلى "هيئة دروع الثورة"، ولكن ليس أكثر من ذلك.
مع ملاحظة أن كتائب الدروع تحمل منهجاً إسلامياً وسطياً مشابهاً للمنهج الذي نجده في مكونات جبهة تحرير سوريا، ولعل تقارب المناهج هو سبب انتشار الوهم السابق.

حركة أحرار الشام وجبهة النصرة:
تأتي حركة أحرار الشام وبقية مكونات الجبهة الإسلامية السورية بعد مكوّنات "جبهة تحرير سوريا" من حيث درجة المرونة والتشدد في الطرح الإسلامي، وبعدها مباشرة وقريباً منها تأتي جبهة النصرة، وكلتاهما تتفقان على رفض الدولة المدنية وعلى نبذ "أدوات" الديمقراطية (ولا سيما الانتخابات الشعبية العامة) وتحرصان على إعلان دولة إسلامية معجّلة في سوريا.
ولئن كانت الجبهة الإسلامية أقلَّ مرونة من جبهة تحرير سوريا في الخطوات الموصلة إلى الدولة الإسلامية إلا أنها تملك صِمامَ أمان مهماً، هو إقرارها لمبدأ الشورى الموسَّعة ورفضُها لانفراد أي جماعة بتقرير مصير سوريا.
وهي تطرح مشروع "الدولة الإسلامية القطرية" على الأراضي السورية، بخلاف جبهة النصرة التي ترتبط بمشروع جهادي عالمي عابر للحدود، ومن ثَمّ فإننا نتوقع أن لا تعترف (أعني جبهة النصرة) بأي كيان سياسي مستقل في سوريا، رغم أنها تجنبت الإشارة إلى هذه المسألة المهمة في أدبياتها المعلَنة حتى الآن.
وقد لخصت حركة أحرار الشام رأيها في هذه المسألة المهمة في البيان الذي أصدرته عقب إعلان البغدادي المشهور، حيث رفضت الإعلانَ المذكور ورفضت نشر الصراع مع نظام الاحتلال الأسدي خارج سوريا وتحويله إلى قضية جهادية عالمية، وخاطبت الجولاني والبغدادي قائلة: "إننا نتوجه لكلٍّ من الطرفين أن يستشعروا عِظَم الحدث وخطورة أقلمة الصراع بهذه الطريقة وإشراك أطراف أخرى، وهذا ليس احتكاماً لحدود مصطنعة بين أبناء الأمة ولكنه قراءة موضوعية لمعطيات الواقع و تقديم لما نراه مصلحة المسلمين وجهادهم ضد طاغية الشام".

الدولة الإسلامية في العراق والشام:
وماذا عن تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"؟ لماذا لم أذكره في أي من التصنيفات السابقة؟
من الصعب جمع تنظيم "الدولة" مع باقي الفصائل الجهادية بسبب الخصائص الجوهرية التي ينفرد بها فتجعله كياناً مختلفاً تماماً عن الآخرين، وأهمها النزعة التكفيرية القوية التي تظهر في القيادات والمقاتلين على السواء، والإقصاء الواضح للآخرين -من الفصائل الإسلامية وغيرها- لدرجة اتهامهم بالبغي أو الفسق أو العمالة للنظام.
وأخطر من كل ما سبق: اعتمادُ منهج "التغلب"، وهو وسيلة شرعية تسوّغ استعمال السلاح لإخضاع الجماعات الأخرى ضمن قيادة الدولة، أي أنه تكييف شرعي للاقتتال الداخلي مع المخالفين.
وقد تعاظم هذا الخطر نتيجةً للوهم الشائع الذي يحمله أتباع التنظيم وأنصاره بسبب الاسم، فهم يعتقدون أنه "دولة" حقيقية، ويرون أميرهم "القرشي" أميراً عاماً للمؤمنين واجبَ البيعة والطاعة، ويتداولون في هذا الشأن رسالة عنوانها "مدّ الأيادي لبيعة البغدادي"، كما ينشرون بحثاً خطيراً عنوانه "مختصر البيعة ووجوبها وأحكامها".
وهو بحث فُصِّل على مقاس "الدولة الإسلامية في العراق والشام" كما يُفصّل أمهرُ الخياطين الثوبَ على مقاس لابسه؛ وفي آخره يسأل كاتبُه: "ما هو الحكم الشرعي لو فكرت كتائب في أي مكان أن تعلن مستقبلاً دولة إسلامية شرعية تحكم بكتاب الله وسنّة نبيه وولّت إماماً للمسلمين غير أمير الدولة الإسلامية في العراق والشام؟"، ثم يجيب: "الصحيح الذي عليه الفقهاء المحققون أن الإمامة لأسبقهما بيعة، فإذا تعيّن السابق منهما استقرّت له الإمامة، وعلى المسبوق تسليم الأمر إليه والدخول في بيعته".
ثم يسوق كاتب البحث في الختام خلاصة تلك المسألة الجسيمة العظيمة، مسألة الولاية العظمى للأمة، فيقول: "إن أول من أعلن دولة إسلامية بشروط إمامة صحيحة ومبايعة أهل الحل والعقد على دولة إسلامية معتبرَة هي الدولة الإسلامية في العراق والشام، أما الملا عمر نصره الله فمن مبادئ إمارته الاقتصارُ على أفغانستان، فلم يبايَع على إمامة عامة".
اعتماداً على كل ما سبق وعلى ما يجري من وقائع على الأرض فإن اصطدام الدولة بباقي الفصائل -الإسلامية والجيش الحر على السواء- هو احتمال كبير ومقلق جداً، ليس لقلّة دين في مجاهدي الدولة، فإن أكثرهم يتّسمون بالتديّن والإخلاص والشجاعة، ولكن لقلّة علم، فإنهم يعتقدون أن الطريق إلى الجنة يمر عبر تكريس "دولتهم" وقتال البغاة، ويرون أن البغاة هم الذين لا يوافقون على الدخول تحت راية "الدولة" والاعتراف لها بالسلطان، وهو أمر تأباه كل الجماعات المقاتلة على الأرض السورية بلا استثناء.
خلاصة:
يمكننا تخيّل الأطراف المختلفة في جيش الثورة السورية كالسيارات التي تمشي في طريق واسع متعدد المسارات؛ في المسار الأوسط تمشي "جبهة تحرير سوريا" بمكوناتها المختلفة ومعها مجموعة من كتائب الجيش الحر المستقلة المخلصة المتديّنة. إلى اليمين من تلك المجموعة نجد "الجبهة الإسلامية السورية" بمكوناتها المختلفة، وفي أقصى اليمين جبهة النصرة.
إلى اليسار من مجموعة الوسط نجد بعض كتائب الجيش الحر الأقل تديناً والأقل إخلاصاً وفاعليةً في القتال، وإلى يسارها وبالقرب من الخط الأصفر الذي يحدد طرف الطريق مجموعاتٌ لا تقاتل إلا مقابل التمويل أو الغنائم.
المجموعات السابقة كلها تمشي بين الخطين الأصفرين اللذين يحددان حدودَ الطريق عن يمين وشمال. خارجَ الخط الأصفر من الجهة اليمنى تمشي جماعة "دولة العراق والشام"، وخارج الخط الأصفر من الجهة اليسرى نجد مجموعات أمراء الحرب التي تمارس التهريب والسرقة باسم الثورة، والثورةُ منها براء.
كلتا الجماعتين (جماعة "الدولة" وجماعة "أمراء الحرب") تسعيان إلى تحقيق مشروعات مختلفة عن المشروع الجامع الذي توافقت عليه كافة الجماعات والفصائل الأخرى، وهو إسقاط النظام وتحرير سوريا من الاستعباد وإنشاء نظام حر جديد يختار فيه الشعبُ حكومتَه بحرية وكرامة.
ففيما ينصرف "جيش الثورة" الكبير -بكل مكوناته المفصَّلة آنفاً- إلى محاربة النظام وتحرير الأرض السورية ينشغل أمراء الحرب باستغلال القوة لفرض النفوذ وتحقيق المكاسب المادية، وتنشغل جماعة "دولة العراق والشام" بالسيطرة على المناطق المحررة وإقامة دولتها الموهومة عليها.

ملحق: الجبهة الإسلامية
بُذلت خلال النصف الثاني من العام الجديد (2013) جهودٌ كبيرة لتوحيد الجبهتين الكبيرتين (جبهة تحرير سوريا والجبهة الإسلامية السورية) في كيان واحد جامع، وقد تمخضت تلك الجهود أخيراً عن توحيد مكوّناتهما الرئيسية في جبهة جديدة تم الإعلان عنها يوم الجمعة 22/11/2013 باسم "الجبهة الإسلامية"، وتضم أكبر الجماعات العسكرية العاملة في الميدان، وهي: حركة أحرار الشام الإسلامية وجيش الإسلام وألوية صقور الشام ولواء التوحيد ولواء الحق وكتائب أنصار الشام والجبهة الإسلامية الكردية.
وتزامناً مع إطلاق الجبهة الجديدة تم الإعلان عن إلغاء وتفكيك الجبهتين القديمتين، جبهة تحرير سوريا والجبهة الإسلامية السورية.
نشرت "الجبهة الإسلامية" الجديدة ميثاقاً قدّمت فيه نفسَها على أنها "تكوين عسكري سياسي اجتماعي إسلامي شامل يهدف إلى إسقاط النظام في سوريا إسقاطاً كاملاً وبناء دولة إسلامية تكون السيادة فيها لشرع الله وحده".
وقد رفض الميثاق بشكل صريح أيَّ فكرة لتقسيم سوريا أو إنشاء كيان دخيل، وعبّر عن حرص الجبهة الإسلامية على توثيق العلاقات مع الدول التي لم تناصبها العداء، ورحّب بأي وسيلة أو دعم يساعد في إسقاط النظام "بشرط ألاّ يكون مسيَّساً أو يهدف لحرف مسار الثورة أو يحتوي أي إملاءات خارجية تصادر قرارها".
وأكد الميثاق على أن الجبهة ليست بديلاً عن الأمة ولا تحتكر المشروع الإسلامي لنفسها، بل تعتبر أنها جزء من الشعب السوري وتسعى للتنسيق مع جميع العاملين المخلصين في سوريا من أجل تحقيق أهداف الجبهة.
وقد عرّف الميثاقُ تلك الأهدافَ فقال إن الجبهة "تهدف إلى إسقاط النظام الحالي إسقاطاً كاملاً بجميع مخلّفاته ورواسبه ومحوها بشكل كامل من الواقع السوري، ويتضمن ذلك تفكيكَ وإنهاءَ سلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية وجيشه ومؤسساته الأمنية، ومحاكمةَ من تورط منهم ومن أنصارهم بسفك دماء الأبرياء محاكمة شرعية عادلة"، ومن ثم "إقامة دولة مستقلة تكون السيادة فيها لشرع الله الحنيف، ينعم أفرادها بالعدل والحياة الكريمة".
إلى غير ذلك من الأهداف التي فصّلتها المادة السابعة من الميثاق.
أما فيما يتعلق بالدولة السورية الجديدة فقد شدد الميثاق على أن "كل عملية سياسية لا تعترف بأن التشريع حق لله وحده لا شريك له هي مناقضة للدين ووسيلة غير مشروعة لا يمكن للجبهة المشاركة فيها أو الاعتراف بها"، ثم بيّن رفض الجبهة للدولة المدنية قائلاً إنها "اصطلاح غير محدد الدلالة يؤدي إلى التضليل وإضاعة الحقوق"، ورفَضَ الديمقراطية وبرلماناتها "لأنها تقوم على أساس أن التشريع حق للشعب بينما الحكم في الإسلام لله"، مع أنه يؤكد بعد ذلك قائلاً: "وهذا لا يعني أننا نريد نظاماً استبدادياً تسلطياً، بل لا يصلح أمرُ هذه الأمة إلا بالشورى مبدأ وتطبيقاً".
إنّ مَن يتمعن في ميثاق "الجبهة الإسلامية" يلاحظ أنه يقدم تصوراً واضحاً لأهدافها الكلية، ولكنه يعاني من غموض واضطراب عندما يعرض برنامجها السياسي وتصورها لشكل الدولة ونظامها، فهو يؤكد أولاً على أن الجبهة لا تحتكر المشروع الإسلامي ولا ترى نفسها بديلاً للأمة، وأنها تسعى إلى "النهوض بالجانب المدني عن طريق تفعيل طاقات المجتمع المختلفة"، ثم يرفض النموذجَ المدني للدولة ويتجاهل الإشارةَ إلى حق الشعب السوري في اختيار حكومته وحاكميه.
وباعتقادي فإن الميثاق المقتضَب الذي طُرح مع إعلان تأسيس الجبهة سوف يخضع لتعديلات وتفسيرات وشروح لاحقة تُمليها مصلحةُ الثورة ويقتضيها واقعُ الحال، لأن الجبهة أضحت رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه في الصراع، وهي نفسها لن تستطيع القيام بدورها المطلوب إلا باعتماد ميثاق أكثر شمولاً ومرونةً يتيح لها الانفتاح على كافة مكونات الثورة والمجتمع السوري وفتح المجال للشراكة الكاملة في تحرير وإدارة البلاد.


 

 

الزلزال السوري

المصادر: