في فقه الحسبة (7)

الكاتب : مجاهد مأمون ديرانية
التاريخ : ٢٦ ٢٠١٣ م

المشاهدات : 4841


في فقه الحسبة (7)

السلاح الأمضى في الحسبة والدعوة هو الرفق واللطف، والأسلوب الأمثل الذي يوصل إلى الغاية هو التيسير والتبشير، فمَن كان هدفُه هدايةَ الناس وإصلاحَهم اتّبع هذا الأسلوب واستعمل ذلك السلاح، ومن كان يحب أن يتعالم ويتعالى أو ينفّر الناسَ ويصدّ عن الدين فعليه بالغلظة والتشدد والتنفير.

 

بعض الناس يحسبون أنهم يحتسبون وأنهم يحسنون إلى الإسلام وهم في الحقيقة يصدّون عنه وينفّرون منه. ما أكثرَ ما أرى نماذجَ منهم، قُساة جُفاة، أحسّ أنهم لا يسرّهم شيء أكثر من إفراغ الجنة من الناس وقذفهم في النار.
لو كانت لهم سبيل إلى مَلَك الجبال لطلبوا منه أن يُطبِق على العصاة الأخشبين، ولو كانت مفاتيح أبواب الجنة في أيديهم لأوصدوها كلها ولم يتركوا إلا كوّة صغيرة يدخل العباد منها إلى الجنة أفراداً، ولو كانت مفاتيح أبواب النار في أيديهم لفتحوها كلها ودفعوا إليها الناس بالأكوام.

يا أيها المحتسبون والدعاة:
إن التشدّد في شروط التديّن ومطالبة الناس بما لا يطيقون يَصُدّ عن الدين.
أرأيتم إلى السد يُبنَى في مجرى النهر كيف يمنع الماء؟ إذا نقص البنّاؤون من ارتفاعه ذراعاً زاد الماء المتدفق عبر النهر ملايين الأمتار المكعبة في اليوم الواحد، وإذا زادوا ارتفاعه نقصت من الماء المتدفق ملايين.
كلما رفعتم السد -يا أيها الدعاة والمحتسبون- حجزتم الناس عن الإسلام، وكلما خفضتموه أقبل الناس على الإسلام أفواجاً بعد أفواج.

*   *   *

أمَرَ الله تبارك وتعالى موسى وهارون عليهما السلام أن يقولا لفرعون قَولاً ليّناً؛ قال الشنقيطي في "أضواء البيان": أي كلاماً لطيفاً سهلاً رقيقاً ليس فيه ما يُغضب وينفّر.
ثم بيّن -عزّ وجل- المرادَ بالقول اللين بقوله: {اذهبْ إلى فرعونَ إنه طغى، فقل: هل لك إلى أنْ تَزَكّى وأَهديَك إلى ربّك فتخشى؟}
وهذا غايةُ لِين الكلام ولَطافته ورقّته. وما أمر به ربُّنا تبارك وتعالى موسى وهارون في هذه الآية الكريمة أشار إليه في غير هذا الموضع، كقوله: {ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}.
ثم قال: "يؤخَذ من هذه الآية الكريمة أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالرفق واللِّين لا بالقسوة والشدة والعنف".
لذلك قال سفيان الثوري: لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كانت فيه خصال ثلاث، أولها: "رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى".
وكان أصحاب ابن مسعود إذا مَرّوا بقومٍ ورأوا منهم ما يكرهون يقولون: "مهلاً رحمكم الله، مهلاً رحمكم الله".
وقال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل: "الناس محتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة، إلا رجلاً معلناً بالفسق فلا حرمةَ له".
وسأله رجل كيف يأمر بالمعروف فقال: "تأمر بالرفق والخضوع".

وصلّى رجلٌ خلفَ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعطس أحد المصلين، فقال له بصوت مسموع: "يرحمكم الله". فنظر القوم إليه نظرات حادة مؤنِّبة حتى أحرجوه وأضجروه. قال: ما شأنكم؟ لماذا ترمقونني بأبصاركم؟ فصاروا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. قال: فلما رأيتهم يصمّتونني سكتّ.
كان الرجلُ حديثَ عهد بالإسلام لم يعرف آدابه وأحكامه بعد، وقد اشتدّ عليه الناس حتى أفزعوه، فماذا صنع رسول الله عليه صلاة الله وسلامه؟
قال صاحب القصة (معاوية بن الحكم السّلمي، والحديث أخرجه مسلم): فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسنَ تعليماً منه، فوالله ما كهرني (ما عبس في وجهي) ولا ضربني ولا شتمني.
قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس؛ إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".
قال الإمام النووي في تعليقه على الحديث: "فيه بيانُ ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عظيم الخلق، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمّته وشفقته عليهم، وفيه التخلّق بخلقه في الرفق بالجاهل وحسن تعليمه واللطف به وتقريب الصواب إلى فهمه".

*   *   *

مَن هو قدوتكم ومَثَلكم الأعلى يا أيها المحتسبون والدعاة؟ أليس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه نبي الرفق والرحمة، الذي شهد له ربنا تبارك وتعالى من عليائه فقال: {فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم}.
والذي أوصى عائشة رضي الله عنها فقال: "يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه".
وعنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزَع من شيء إلا شانه".

هل بعد هذا الهَدْي النبوي رأي لقائل أو متّسَع لمقال؟ أين يذهب المحتسبون القساة الجفاة بذلك كله؟ مَن لم يَقْتدِ برسول الله -عليه صلاة الله وسلامه- ولم يُحسن أن يدعو برفق فليَدَع الحسبة ويقعدْ في بيته، فلا حاجة للإسلام في حسبته ودعوته.


الزلزال السوري

المصادر: