شيخ الإسلام ابن تيمية حياته ومناقبه [1-3]

الكاتب : موسى بن سليمان السويداء
التاريخ : ٢ ٢٠١١ م

المشاهدات : 3844


شيخ الإسلام ابن تيمية حياته ومناقبه [1-3]

شيخ الإسلام ابن تيمية حياته ومناقبه [1-3]
 

هذه الترجمة لشيخ الإسلام ابن تيمية عبارة عن نبذه يسيرة مفيدة وممتعة وجديرة بالقراءة اختصرتها من كتاب " الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية " للحافظ المحدث عمر البزار أحد تلاميذه .


ذكر منشأه وعمره رضى الله عنه وأرضاه :
أما مولده فكان كما اخبرني به غير واحد من الحفاظ انه ولد في حران في عاشر ربيع الأول سنة ( 661 هـ ) وبقي بها إلى أن بلغ سبع سنين ثم انتقل به والده - رحمه الله - إلى دمشق المحروسة فنشأ بها أتم إنشاء وأزكاه وأنبته الله أحسن النبات وأوفاه وكانت النجابة عليه في صغره لائحة ودلائل العناية فيه واضحة . اخبرني من أثق به عن من حدثه أن الشيخ - رضي الله - عنه في حال صغره كان إذا أراد المضي إلى المكتب يعترضه يهودي كان منزله بطريقه بمسائل يسأله عنها لما كان يلوح عليه من الذكاء والفطنة وكان يجيبه عنها سريعاً حتى تعجب منه ثم انه صار كلما اجتاز به يخبره بأشياء مما يدل على بطلان ما هو عليه فلم يلبث أن اسلم وحسن إسلامه وكان ذلك ببركة الشيخ على صغر سنه .
ولم يزل منذ صغره مستغرق الأوقات في الجهد والاجتهاد وختم القران صغيراً ثم اشتغل بحفظ الحديث والفقه والعربية حتى برع في ذلك مع ملازمة مجالس الذكر وسماع الأحاديث والآثار ولقد سمع غير كتاب على غير شيخ من ذوي الروايات الصحيحة العالية أما دواوين الإسلام الكبار كمسند احمد وصحيح البخاري ومسلم وجامع الترمذي وسنن أبي داود السجستاني والنسائي وابن ماجة والدارقطني فإنه سمع كل واحد منها عدة مرات وأول كتاب حفظه في الحديث الجمع بين الصحيحين للإمام الحميدي وقل كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه وكان الله قد خصه بسرعة الحفظ وإبطاء النسيان لم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء غالباً إلا ويبقى على خاطره أما بلفظه أو معناه وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره فإنه لم يكن له مستعاراً بل كان له شعاراً ودثاراً لم يزل آباؤه أهل الدراية التامة والنقد والقدم الراسخة في الفضل لكن جمع الله له ما خرق بمثله العادة ووفقه في جميع أمره لإعلام السعادة وجعل مآثره لإمامته من اكبر شهادة حتى اتفق كل ذي عقل سليم انه ممن عني نبينا بقوله : ( أن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها ) فلقد أحيا الله به ما كان قد درس من شرائع الدين وجعله حجة على أهل عصره أجمعين والحمد لله رب العالمين .
غزارة علومه ومؤلفاته وسعة نقله :
أما غزارة علومه فمنها ذكر معرفته بعلوم القرآن المجيد واستنباطه لدقائقه ونقله لأقوال العلماء في تفسيره واستشهاده بدلائله وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه وفنون حكمه وغرائب نوادره وباهر فصاحته وظاهر ملاحته فإنه فيه من الغاية التي ينتهي إليها والنهاية التي يعول عليها.
ولقد كان إذا قرئ في مجلسه آيات من القرآن العظيم يشرع في تفسيرها فينقضي المجلس بجملته والدرس برمته وهو في تفسير بعض آية منها وكان مجلسه في وقت مقدر بقدر ربع النهار يفعل ذلك بديهة من غير أن يكون له قارئ معين يقرأ له شيئاً معيناً يبيته ليستعد لتفسيره بل كان من حضر يقرأ ما تيسر ويأخذ هو في القول على تفسيره وكان غالبا لا يقطع إلا ويفهم السامعون أنه لولا مضي الزمن المعتاد لأورد أشياء أخر في معنى ما هو فيه من التفسير لكن يقطع نظراً في مصالح الحاضرين ولقد أملى في تفسير { قل هو الله أحد } مجلداً كبيراً وقوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } نحو خمس وثلاثين كراسة ولقد بلغني انه شرع في جمع تفسير لو أتمه لبلغ خمسين مجلداً .
أما معرفته وبصره بسنة رسول الله وأقواله وأفعاله وقضاياه ووقائعه وغزواته وسراياه وبعوثه وما خصه الله تعالى من كراماته ومعجزاته ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه وبقية المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم في أقوالهم وأفعالهم وقضاياهم وفتاويهم وأحوالهم وأحوال مجاهداتهم في دين الله وما خصوا به من بين الأمة فإنه كان - رضي الله عنه - من أضبط الناس لذلك وأعرفهم فيه وأسرعهم استحضاراً لما يريده منه فإنه قل أن ذكر حديثاً في مصنف أو فتوى أو استشهد به أو استدل به إلا وعزاه في أي دواوين الإسلام هو ومن أي قسم من الصحيح أو الحسن أو غيرهما وذكر اسم رواية من الصحابة وقل أن يسأل عن اثر إلا وبين في الحال حاله وحال أمره وذاكره .
ومن أعجب الأشياء في ذلك أنه في محنته الأولى بمصر لما أخذ وسجن وحيل بينه وبين كتبه صنف عدة كتب صغاراً وكباراً وذكر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء وأسماء المحدثين والمؤلفين ومؤلفاتهم وعزا كل شئ من ذلك إلى ناقليه وقائليه بأسمائهم وذكر أسماء الكتب التي ذكر فيها وأي موضع هو منها كل ذلك بديهة من حفظه لأنه لم يكن عنده حينئذ كتاب يطالعه ! ونقبت واختبرت واعتبرت فلم يوجد فيها بحمد الله خلل ولا تغير ومن جملتها كتاب " الصارم المسلول على شاتم الرسول " وهذا من الفضل الذي خصه الله تعالى به .
ومنها ما منحه الله تعالى من معرفة اختلاف العلماء ونصوصهم وكثرة أقوالهم واجتهادهم في المسائل وما روي عن كل منهم من راجح ومرجوح ومقبول ومردود في كل زمان ومكان وبصره الصحيح الثاقب الصائب للحق مما قالوه ونقلوه وعزوه ذلك إلى الأماكن التي بها أودعوه حتى كان إذا سُئل عن شئ من ذلك كأن جميع المنقول عن الرسول وأصحابه والعلماء فيه من الأولين والآخرين متصور مسطور بإزائه يقول منه ما شاء الله ويذر ما يشاء وهذا قد اتفق عليه كل من رآه أو وقف على شئ من علمه ممن لا يغطي عقله الجهل والهوى .
وأما مؤلفاته ومصنفاته فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها أو يحضرني جملة أسمائها بل هذا لا يقدر عليه غالباً أحد لأنها كثيرة جداً كباراً وصغاراً وهي منشورة في البلدان فقل بلد نزلته إلا ورأيت فيه من تصانيفه .
فمنها ما يبلغ إثني عشر مجلدا كـ" تلخيص التلبيس على أساس التقديس " وغيره ومنها ما يبلغ سبع مجلدات كـ" الجمع بين العقل والنقل " ومنها ما يبلغ خمس مجلدات ومنها " منهاج الاستقامة والاعتدال " ونحوه ومنها ما يبلغ ثلاث مجلدات كـ" الرد على النصارى وشبهه " ومنها مجلدان كـ" نكاح المحلل وإبطال الحيل " و " شرح العقيدة الأصبهانية " ومنها مجلد ودون ذلك وهذان القسمان من مؤلفاته فهي كثيرة جدا لا يمكنني استقصاؤها لكن اذكر بعضها إستئناساً.
كتاب " تفسير سورة الإخلاص " مجلد كتاب " الكلام على قوله عز وجل الرحمن على العرش استوى " كتاب " الفرقان المبين بين الطلاق واليمين " كتاب " الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " كتاب " الفتاوي " كتاب " أحكام الطلاق " كتاب " اعتقاد الفرقة الناجية " كتاب " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " كتاب " تقرير مسائل التوحيد " كتاب " الاستغاثة والتوسل " كتاب " المسائل الحموية " كتاب " المسائل المفردة " ولا يليق هذا المختصر بأكثر من هذا القدر من مؤلفاته وإلا فيمكن تعداد ما ينيف على المأتين لكن لم نر الإطالة بذكره .
وأما فتاويه ونصوصه وأجوبته على المسائل فهي أكثر من أن اقدر على إحصائها لكن دون بمصر منها على أبواب الفقه سبعة عشر مجلدا وهذا ظاهر مشهور وجمع أصحابه أكثر من أربعين ألف مسألة وقل أن وقعت واقعة وسئل عنها إلا وأجاب فيها بديهة بما بهر واشتهر وصار ذلك الجواب كالمصنف الذي يحتاج فيه غيره إلى زمن طويل ومطالعة كتب وقد لا يقدر مع ذلك على إبراز مثله .
أخبرني الشيخ الصالح تاج الدين محمد المعروف بابن الدوري انه حضر مجلس الشيخ - رضي الله عنه - وقد سأله يهودي عن مسألة في القدر قد نظمها شعراً في ثمانية أبيات فلما وقف عليها فكر لحظة يسيرة وانشأ يكتب جوابها وجعل يكتب ونحن نظن انه يكتب نثراً فلما فرغ تأمله من حضر من أصحابه وإذا هو نظم في بحر أبيات السؤال وقافيتها تقرب من مائة وأربعة وثمانين بيتاً وقد ابرز فيها من العلوم ما لو شرح بشرح لجاء شرحه مجلدين كبيرين هذا من جملة بواهره وكم من جواب فتوى لم يسبق إلى مثله .
وأما ذكر دروسه فقد كنت في حال إقامتي بدمشق لا أفوتها وكان لا يهيئ شيئاً من العلم ليلقيه ويورده بل يجلس بعد أن يصلي ركعتين فيحمد الله ويثني عليه ويصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم على صفة مستحسنة مستعذبة لم اسمعها من غيره ثم يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم وغوامض ولطائف ودقائق وفنون ونقول واستدلالات بآيات وأحاديث وأقوال العلماء ونصر بعضها وتبين صحته أو تزييف بعضها وإيضاح حجته واستشهاد بأشعار العرب وربما ذكر اسم ناظمها وهو مع ذلك يجري كما يجري السيل ويفيض كما يفيض البحر ويصير منذ يتكلم إلى أن يفرغ كالغائب عن الحاضرين مغمضا عينيه وذلك كله مع عدم فكر فيه أو روية من غير تعجرف ولا توقف ولا لحن بل فيض الهي حتى يبهر كل سامع وناظر فلا يزال كذلك إلى أن يصمت وكنت أراه حينئذ كأنه قد صار بحضرة من يشغله عن غيره ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يرعد القلوب ويحير الأبصار والعقول وكان لا يذكر رسول الله قط إلا ويصلي ويسلم عليه ولا والله ما رأيت أحداً اشد تعظيماً لرسول الله ولا احرص على أتباعه ونصر ما جاء به منه حتى إذا كان ورد شيئاً من حديثه في مسألة ويرى انه لم ينسخه شيء غيره من حديثه يعمل به ويقضي ويفتي بمقتضاه ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائنا من كان وقال - رضي الله عنه - كل قائل إنما يحتج لقوله لا به ألا الله ورسوله .
وكان إذا فرغ من درسه يفتح عينيه ويقبل على الناس بوجه طلق بشيش وخلق دمث كأنه قد لقيهم حينئذ وربما اعتذر إلى بعضهم من التقصير في المقال مع ذلك الحال ولقد كان درسه الذي يورده حينئذ قدر عدة كراريس وهذا الذي ذكرته من أحوال درسه أمر مشهور يوافقني عليه كل حاضر بها وهم بحمد الله خلق كثير لم يحصر عددهم علماء ورؤساء وفضلاء من القراء والمحدثين والفقهاء والأدباء وغيرهم من عوام المسلمين .
في ذكر معرفته للشريعة الإسلامية :
أما معرفته بصحيح المنقول وسقيمه فإنه في ذلك من الجبال التي لا ترتقي ذروتها ولا ينال سنامها قل أن ذكر له قول إلا وقد أحاط علمه بمبتكره وذاكره وناقله وآثره أو راو إلا وقد عرف حاله من جرح وتعديل بإجمال وتفصيل .
حكى من يوثق بنقله انه كان يوماً بمجلس ومحدث يقرأ عليه بعض الكتب الحديثية وكان سريع القراءة فعارضه الشيخ في اسم رجل في سند الحديث قد ذكره القاريء بسرعة فذكر الشيخ أن اسمه فلان بخلاف ما قرأ فاعتبروه فوجدوه كما قال الشيخ فانظر إلى هذا الإدراك السريع والتنبيه الدقيق العجيب ولا يقدر على مثله إلا من اشتدت معرفته وقوي ضبطه .
وأما ما وهبه الله تعالى ومنحه به من استنباط المعاني من الألفاظ النبوية والأخبار المروية وإبراز الدلائل منها على المسائل وتبين مفهوم اللفظ ومنطوقه وإيضاح المخصص للعام والمقيد للمطلق والناسخ للمنسوخ وتبيين ضوابطها ولوازمها وملزوماتها وما يترتب عليها وما يحتاج فيه إليها حتى كان إذا ذكر آية أو حديثا وبين معانيه وما أريد به أعجب العالم الفطن من حسن استنباطه ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه منه .
ولقد سئل يوماً عن الحديث : ( لعن الله المحلل والمحلل له ) فلم يزل يورد فيه وعليه حتى بلغ كلامه فيه مجلداً كبيراً .
وقل إن كان يذكر له حديث أو حكم فيشاء أن يتكلم عليه يومه اجمع إلا فعل أو يقرأ بحضرته آية من كتاب الله تعالى ويشرع في تفسيرها إلا وقطع المجلس كله فيها .
وأما ما خصه الله تعالى به من معارضة أهل البدع في بدعتهم أهل الأهواء في أهوائهم وما ألفه في ذلك من دحض أقوالهم وتزييف أمثالهم وإشكالهم وإظهار عوارهم وانتحالهم وتبديد شملهم وقطع أوصالهم وأجوبته عن شبههم الشيطانية ومعارضتهم النفسانية للشريعة الحنيفية المحمدية بما منحه الله تعالى به من البصائر الرحمانية والدلائل النقلية والتوضيحات العقلية حتى ينكشف قناع الحق وبان بما جمعه في ذلك ألفه الكذب من الصدق حتى لو أن أصحابها أحياء ووفقوا لغير الشقاء لأذعنوا له بالتصديق ودخلوا في الدين العتيق .
ولقد وجب على كل من وقف عليها وفهم ما لديها أن يحمد الله تعالى على حسن توفيقه هذا الإمام لنصر الحق بالبراهين الواضحة العظام .
حدثني غير واحد من العلماء الفضلاء النبلاء الممعنين بالخوض في أقاويل المتكلمين لإصابة الثواب وتمييز القشر من اللباب أن كلا منهم لم يزل حائراً في تجاذب أقوال الأصوليين ومعقولاتهم وانه لم يستقر في قلبه منها قول ولم يبن له من مضمونها حق بل رآها كلها موقعة في الحيرة والتضليل وجلها ممعن بتكلف الأدلة والتعليل وانه كان خائفا على نفسه من الوقوع بسببها في التشكيك والتعطيل حتى من الله تعالى عليه بمطالعته مؤلفات هذا الإمام احمد ابن تيمية شيخ الإسلام وما أورده من النقليات والعقليات في هذا النظام فما هو إلا أن وقف عليها وفهمها فرآها موافقة للعقل السليم وعلمها حتى انجلى ما كان قد غشيه من أقوال المتكلمين من الظلام وزال عنه ما خاف أن يقع فيه من الشك وظفر بالمرام .
ومن أراد اختبار صحة ما قلته فليقف بعين الإنصاف العرية عن الحسد والانحراف إن شاء على مختصراته في هذا الشأن كـ" شرح الأصبهانية " ونحوها وان شاء على مطولاته كـ" تخليص التلبيس من تأسيس التقديس " و " الموافقة بين العقل والنقل " و " منهاج الاستقامة والاعتدال " فإنه والله يظفر بالحق والبيان ويستمسك بأوضح برهان ويزن حينئذ في ذلك بأصح ميزان .
ولقد أكثر - رضي الله عنه - التصنيف في الأصول فضلا عن غيره من بقية العلوم فسألته عن سبب ذلك والتمست منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء فقال لي ما معناه : " الفروع أمرها قريب ومن قلد المسلم فيها أحد العلماء المقلدين جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة والباطنية والملاحدة والقائلين بوحدة الوجود والدهرية والقدرية والنصيرية والجهمية والحلولية والمعطلة والمجسمة والمشبهة والراوندية والكلابية والسليمية وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال وبان لي أن كثيراً منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية الظاهرة العلية على كل دين وان جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم ولهذا قل أن سمعت أو رأيت معرضا عن الكتاب والسنة مقبلا على مقالاتهم إلا وقد تزندق أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده .
فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي انه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم وقطع حجتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم ويزيف دلائلهم ذباً عن الملة الحنيفية والسنة الصحيحة الجلية .
ولا والله ما رأيت فيهم أحداً ممن صنف في هذا الشأن وادعى علوم المقام إلا وقد ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام وسبب ذلك إعراضه عن الحق الواضح المبين وعن ما جاءت به الرسل الكرام عن رب العالمين وأتباعه طرق الفلسفة في الاصطلاحات التي سموها بزعمهم حكميات وعقليات وإنما هي جهالات وضلالات وكونه التزمها معرضاً عن غيرها أصلاً ورأساً فغلبت عليه حتى غطت على عقله السليم فتخبط حتى خبط فيها عشوا ولم يفرق بين الحق والباطل وإلا فالله أعظم لطفاً بعباده أن لا يجعل لهم عقلا يقبل الحق ويثبته ويبطل الباطل وينفيه لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزانا يزن به العبد الواردات فيفرق به بين ما هو من قبيل الحق .
وما هو من قبيل الباطل ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل ولم يقع التكليف إلا مع وجوده فكيف يقال انه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى هذا باطل قطعاً يشهد له كل عقل سليم لكن ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور " .
قال الشيخ الإمام - قدس الله روحه - : " فهذا ونحوه هو الذي أوجب أنى صرفت جل همي إلى الأصول والزمني إن أوردت مقالاتهم وأجبت عنها بما انعم الله تعالى به من الأجوبة النقلية والعقلية " .
قلت : وقد أبان بحمد الله تعالى فيما ألف فيها لكل بصير الحق من الباطل وإعانة بتوفيقه حتى رد عليهم بدعهم وآراءهم وخدعهم وأهواءهم مع الدلائل النقلية بالطريقة العقلية حتى يجيب عن كل شبهة من شبههم بعدة أجوبة جلية واضحة يعقلها كل ذي عقل صحيح ويشهد لصحتها كل عاقل رجيح .
فالحمد لله الذي من عليناً برؤيته وصحبته فلقد جعله الله حجة على أهل هذا العصر المعرض غالب أهله عن قليله وكثيره لاشتغالهم بفاني الدنيا عما يحصل به باقي الآخرة فلا حول ولا قوة إلا بالله .
لكن الله ذو القوة المتين ضمن حفظ هذا الدين إلى يوم الدين وأظهره على كل دين فالحمد لله رب العالمين .
في ذكـر تعبـده :
أما تعبده - رضي الله عنه - فإنه قل إن سمع بمثله لأنه كان قد قطع جل وقته وزمانه فيه حتى انه لم يجعل لنفسه شاغلت تشغله عن الله تعالى ما يراد له لا من أهل ولا من مال .
وكان في ليله متفرداً عن الناس كلهم خالياً بربه عز وجل ضارعاً مواظباً على تلاوة القرآن العظيم مكرراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية وكان إذا ذهب الليل وحضر مع الناس بدأ بصلاة الفجر يأتي بسنتها قبل إتيانه إليهم وكان إذا احرم بالصلاة تكاد تتخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميله يمنة ويسرة وكان إذا قرأ يمد قراءته مداً كما صح في قراءة رسول الله وكان ركوعه وسجوده وانتصابه عنهما من أكمل ما ورد في صلاة الفرض وكان يخفف جلوسه للتشهد الأول خفة شديدة ويجهر بالتسليمة الأولى حتى يسمع كل من حضر فإذا فرغ من الصلاة أثنى على الله عز وجل هو ومن حضر بما ورد من قوله : " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " ثم يقبل على الجماعة ثم يأتي بالتهليلات الواردات حينئذ ثم يسبح الله ويحمده ويكبره ثلاثاً وثلاثين ويختم المائة بالتهليل كما ورد وكذا الجماعة ثم يدعو الله تعالى له ولهم وللمسلمين أجناس ما ورد .
وكان غالب دعائه: " اللهم انصرنا ولا تنصر علينا وامكر لنا ولا تمكر علينا وأهدنا ويسر الهدى لنا اللهم اجعلنا لك شاكرين لك ذاكرين لك أواهين لك مخبتين إليك راغبين إليك راهبين لك مطاويع ربنا تقبل توباتنا واغسل حوباتنا وثبت حججنا وأهد قلوبنا اسلل سخيمة صدورنا " يفتتحه ويختمه بالصلاة على النبي ثم يشرع في الذكر.
وكان قد عرفت عادته لا يكلمه أحد بغير ضرورة بعد صلاة الفجر فلا يزال في الذكر يسمع نفسه وربما يسمع ذكره من إلى جانبه مع كونه في خلال ذلك يكثر من تقليب بصره نحو السماء هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس ويزول وقت النهي عن الصلاة .
وكنت مدة إقامتي بدمشق ملازمه جل النهار وكثيراً من الليل وكان يدنيني منه حتى يجلسني إلى جانبه وكنت اسمع ما يتلو وما يذكر حينئذ فرأيته يقرأ الفاتحة ويكررها ويقطع ذلك الوقت كله اعني من الفجر إلى ارتفاع الشمس في تكرير تلاوتها .
ففكرت في ذلك لم قد لزم هذه السورة دون غيرها فبان لي والله اعلم أن قصده بذلك أن يجمع بتلاوتها حينئذ بين ما ورد في الأحاديث وما ذكره العلماء هل يستحب حينئذ تقديم الأذكار الواردة على تلاوة القرآن أو العكس فرأى - رضي الله عنه - أن في الفاتحة وتكرارها حينئذ جمعاً بين القولين وتحصيلاً للفضيلتين وهذا من قوة فطنته وثاقب بصيرته .
ثم انه كان يركع فإذا أراد سماع حديث في مكان آخر سارع إليه من فوره مع من يصحبه فقل أن يراه أحد ممن له بصيرة إلا وانكب على يديه يقبلهما حتى انه كان إذا رأه أرباب المعايش يتخطون من حوانيتهم للسلام عليه والتبرك به وهو مع هذا يعطي كلا منهم نصيباً وافراً من السلام وغيره .
وإذا رأى منكراً في طريقه أزاله أو سمع بجنازة سارع إلى الصلاة عليها أو تأسف على فواتها وربما ذهب إلى قبر صاحبها بعد فراغه من سماع الحديث فصلي عليه ثم يعود إلى مسجده فلا يزال تارة في إفتاء الناس وتارة في قضاء حوائجهم حتى يصلي الظهر مع الجماعة ثم كذلك بقية يومه .
وكان مجلسه عاماً للكبير والصغير والجليل والحقير والحر والعبد والذكر والأنثى قد وسع على كل من يرد عليه من الناس يرى كل منهم في نفسه أن لم يكرم أحدا بقدره ثم يصلي المغرب ثم يتطوع بما يسره الله ثم اقرأ عليه من مؤلفاته أو غيري فيفيدنا بالطرائف ويمدنا باللطائف حتى يصلي العشاء ثم بعدها كما كنا وكان من الإقبال على العلوم إلى أن يذهب هوي من الليل طويل وهو في خلال ذلك كله في النهار والليل لا يزال يذكر الله تعالى ويوحده ويستغفره .
وكان - رضي الله عنه - كثيراً ما يرفع طرفه إلى السماء لا يكاد يفتر من ذلك كأنه يرى شيئا يثبته بنظره فكان هذا دابة مدة إقامتي بحضرته .
فسبحان الله ما اقصر ما كانت يا ليتها كانت طالت ولا والله ما مر على عمري إلى الآن زمان كان أحب إلى من ذلك الحين ولا رأيتني في وقت أحسن حالا مني حينئذ .
وكان في كل أسبوع يعود المرضى خصوصاً الذين بالمارستان .
واخبرني غير واحد ممن لا يشك في عدالته أن جميع زمن الشيخ ينقضي على ما رأيته فأي عبادة وجهاد أفضل من ذلك فسبحان الموفق من يشاء لما يشاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: رابطة أدباء الشام

المصادر: