بين ثورتي الثمانينات وثورة 2011

الكاتب : مهدي الحموي
التاريخ : ١٩ ٢٠١٢ م

المشاهدات : 3723


بين ثورتي الثمانينات وثورة 2011

كان القيد نفسه, وكان الشعب نفسه, وكان اليأس نفسه من تغيير سياسات النظام القمعية, وكان السكوت والخنوع أكثر سيعني بالضرورة خسائر أكثر وصعوبة أكبر في تغيير النظام مستقبلاً, وكان يعني كذالك تخلفاً أكثر ونهباً أعظم وسجوناً أكبر, وتسلطاً طائفياً أشد, ولم يعد الوضع ليحتمل, وكان هناك أباة عرفوا دورهم التاريخي, لذا كان لابد من الثورة.

 


لم يكن من الممكن التحضير المسبق على الورقة والقلم لكل الاحتمالات  الممكنة, كما في كل ثورات بالعالم (والتي انتصرت بالجهد الأقل بكثير مما بذل في الثورتين) لأن أجهزة الأمن كانت بالمرصاد فقد بنت دولة استخباراتية تحبط أي تنظيم يريد التوسع بالاستعداد.
ولم تكن يد الأجنبي في الغرب أوالشرق هي الدافع أوالمعوّل عليه في ذهن الثوار لأنهما ثورتان وطنيتان. ولم ولن تقدم الثورتان أي معلومات أو تنازلات ضد وطنها للأجنبي, فهي ثورات وطنية بامتياز.
وقد اختارت الثورتان الطريق السلمي في البداية.

ففي الأولى وضح ذالك في بيانات النقابات وبعض المظاهرات, وفي الثانية وضحت في المظاهرات وبيانات الأحزاب والشخصيات الوطنية المستقلة, وكان النظام نفسه هو الذي أجبر عناصر الثورة على اتخاذ طريق العنف
فالأولى ظلت تدعوا سلمياً للتغيير منذ الستينات, أي منذ فض الاعتصامات السلمية في ( مسجد السلطان في حماه بتدميره وقتل 72 شهيد, ومسجد خالد بن الوليد باقتحامه وتدمير مدخله بالدبابات في حمص واعتقال المعتصمين, والمسجد الأموي في دمشق وتحطيم أبوابه بالدبابات كذالك واعتقال واتهام المعتصمين..) وآلاف النضالات الجزئية للشيوخ/ حسن حبنكة ومروان حديد ومحمد علي مشعل وغيرهم من كل شرفاء المجتمع السوري.
نعم لقد سبق معركة الثمانينات نضالات سلمية مستمرة من الخطابات والمنشورات والنشاطات السياسية كذالك كإضراب المدارس الشامل في مدينة حماه والذي شاركت به حينها (عام 1964) واستمر النضال السياسي حتى 1976 دون أي جدوى بل وعلى العكس.
وفي الثانية ظل النضال السياسي منذ مذبحة 1982  في حماه حتى 2011 كذالك بدون جدوى, وكانت كل مرحلة وكل جريمة بمثابة تغذية تزيد عدد المعارضين, أي أن الأولى قد بدأت بالمظاهرات ثم تحولت إلى استعمال السلاح تماماً كما حصل بالأولى.
ولم تكن الرؤية الإستراتيجية في طريق الخلاص سهلة, فالانقلاب أصبح مستحيلاً والتظاهرات مهددة بالإبادة المباشرة, والخوف مع الكره هو المزيج المضني المتصارع في قلوب السوريين, وهذا ما كان يدفع البعض ليحرقوا أنفسهم, ويتهمهم بعض الناس بالجنون, وبأنهم يرمون أنفسهم للتهلكة عندما رفعوا الراية في جو من التصحر السياسي, وعلى رأسهم الشيخ القائد الشهيد مروان حديد, لكنهم صمّموا ووضعوا دماءهم في سبيل الخلاص مهما أظلمت الطريق ومهما كانت النتائج.
وفي الثورتين لم تقوم الدول الأجنبية بالدعم بل ساعد دولة العراق (في حكم صدام حسين) ببنادق, وتدريب وإيواء النازحين, وكان الإيواء في الأردن كذالك, وفي الثانية حصل بعض الدعم بالمال من دولة عربية وشعوب عربية. مع تأييد سياسي من معظم الدول العربية والشعوب العربية.
وكان الروس يرسلون الخبراء المتخصصين في قمع حرب العصابات للنظام في كلا الثورتين.
كما كان المحتوى الطائفي هو العمود الفقري للنظام, بينما تجنبت الثورتان الطائفية , لذا لم تشنّان حرباً إنتقامية مدنية على العلويين.
وكانت تهم العمالة تنهال في الثورتين اللتين قيل أنهما حروب على نظام الممانعة, مع أن من أهم روافد الثورتين كانت النقمة على تسليم الجولان.
أما القيادة ففي ثورة الثمانينات (وما قبلها) فقد قادها نخبة من الإخوان المسلمين(بإلحاح الواقع المر الذي لا يطاق) مع تأييد خفي من مختلف التيارات الإسلامية, أما الجهات اليسارية فقد كان التأييد السياسي من الحزب الشيوعي جناح المناضل رياض الترك (المحدود العدد) للثورة المسلحة بقيادة الإخوان فنال 15عاماً من السجن, ولم يكن للقوميين دور يذكر ولا لبقية اليساريين فقد كانوا مصابين بمنغولية النظام لأنهم يحملون نفس الفكر اليساري القومجي, ويلتهمون الامتيازات المفتوحة  وبالملاعق التي يختارونها مقابل الشهادة بشرعية النظام وعدائه للأعداء بما يسمى بالجبهة الوطنية التقدمية, بينما قضى الألوف من الإسلاميين على الأرض أو بالمشانق .
بينما قامت ثورة 2011 بعفوية ومن القواعد الشعبية، وليس من الأحزاب والجماعات. ولم يكن الإخوان هم القيادة بل من القيادة, كما وليس لهم تنظيم رسمي منفصل سابقاً هناك في سورية (بسبب قانون الإعدام رقم 49) كباقي الأحزاب المعارضة المنعدمة في سورية, لكنهم وبلا شك يملكون مؤيدين ومتعاونين وأنصار على شكل تيار أو تجمعات, وقد تشكلوا قبل وخلال الثورة, وهم جزء من الثورة مثل غيرهم, ولم يلعبوا أي دور إعلامي لخطف الأضواء والدعاية لأنفسهم, ولا خوف منهم.
وقد قامت ثورة 2011  من القواعد الشعبية بكل بساطة وعفوية, ومن الأسفل للأعلى وتطور تنظيمها إلى لجان وتنسيقيات وجيش حر.. فلقد ألهمتنا ثورات تونس وليبيا ومصر واليمن أن الشعب إذا نهض بأكمله فسوف يسقط النظام مهما كان هذا النظام, وعلى هذه النظرية قامت الثورة السورية.


أما عن هدف الثورتين وما قبلهما وما بينهما فهو:
الحرية والكرامة والديمقراطية والوصول إلى صناديق الاقتراع, وفصل السلطات والمساواة بين جميع المواطنين وقد وردت المطالب في الأولى من خلال البرنامج السياسي المعروف للإخوان آنذاك, ولم تكن ثورة إيديولوجية (وإن كانت عناصرها من القوى الإخوانية الانتماء أو إسلامية المنشأ عموماً), ولنثبت إمكانية ذلك فنقول إن إخوان مصر شاركوا في الثورة ونجحوا بالأغلبية اليوم وبلغت مقاعد الإسلاميين 70 بالمئة ولم يعلنوها دولة دينية, وكذالك الأمر في تونس)
  لم تكن الثورة الأولى من صنع الخارج (عرض على القائد الشيخ مروان حديد المساعدة المالية من العراق عند تشكيل تنظيمه فلم يقبل مع إننا كنا في ضائقة حتى في مصروف البيت, كما عرض عليه انقلاب يفصل المنطقة الشرقية وحلب فرفض بسبب إدخال إذاعة متنقلة عبر الحدود , ورأى فيها شبهة العمالة.
كما أننا اليوم نرفض تدخل أي جندي أجنبي على الأرض السورية.
أما في التسليح ففي الأولى كان التسليح بتبرعات كان يجمعها أنصار الشيخ مروان حديد (وكان الشيخ مروان يقول إن السلاح الحقيقي هو الذي سنأخذه من يد العدو) إلا أن تنظيم الإخوان حصل عليها بعد ذاك من العراق(خلال حكم صدام حسين المستقل عن إرادة الغرب, والذي قضى على أيديهم) وقد أعطى الإخوان السلاح بدورهم لتنظيم الطليعة كذالك( وبمعرفتي وبعد استشهاد الشيخ مروان حديد فقط) لكن الكميات ظلتا محدودتان بسيارات بيك آب عبر الصحراء من العراق,أما النوعية فلم تكن موجودة. وقد نفذت الذخيرة خلال المعارك في حماه عام 1982لقلتها.
وفي الثانية كان السلاح من تبرعات السوريين والشعب العربي لشراء السلاح ولم يصل بعد أي سلاح أجنبي للمعركة.
أما عن الخسائر في الثورتان فأقول:
إن عدد الشهداء وكذا كمية الهدم قد تقاربتا اليوم, لكن الفرق هو أن القتل في مجازر حماة كان خلال 24 يوماً وفي مينة حماه معقل الثورة, فقد قتل 5إلى10 بالمئة من عدد سكان المدينة, وكذا كان هناك الشهداء من كل المدن السورية, في السجون أو في مجازر تدمر والجسر وسرمدا والمشارقة.. أما اليوم فهي الخسائر نفسها تقريباً, ولكن على مستوى سورية كلها....
أما هدم المساجد فقد هدم 55 مسجداً وكنيستان تدميراً كاملاً بوحدات التفجير دون أي سبب قتالي, بعد أن اصطاد اللواء 47 المقيم جانب المدينة (دائماً) كل المآذن تقريباً منذ الساعة الثامنة والنصف صباحاً, أما اليوم فالقصف يستهدف المساجد بتوسع بالقصف, لكنه لا يوجد إحصاءات.
أما السجون فقد كانت هي النهاية للكثير من الشرفاء, وكان النظام في الأولى ينفذ مجموعات الإعدام مرتان في الاسبوع ولفترة طويلة من الزمن. وكانت مجزرة تدمر ضد الإخوان, والتي قتل فيها بين 800 إلى 1200 شهيد,
أما اليوم فإن النظام ينفذ الإعدام الجماعي كذالك لكنه ينكره.
إن شدة القتل تبين لنا أن النظام كان وما يزال يرى أن المواطنين أعداء له, كما أن الشعب أصبح يرى أن النظام عدوّ له, وهذا ما كان في الثورتين كذالك, وهذا ما يفسر القتل الجماعي الكبير للشعب من قبل النظام في الثورتين.
لكننا يجب ألاّ ننسى أن نضال أبناء وأقرباء ضحايا الثمانينات في كل مدن سورية  كانوا وقوداً لثورة 2011 في كل مكان من سورية,
ففي حماة مثلاً:

خرجت المظاهرة المليونية الكبرى في تاريخ سورية (وأشكر المناضل الساروت ومن شارك في جمعة يا حماه سامحينا) ولذا وضع النظام لها 126 حاجزاً مع لوائين عسكريين وعدة أفواج لشلها وهي لا تزال حتى اليوم) وكذا قام أقرباء الضحايا في حمص تدمر وحلب والجسر وسرمدا وكل الشرفاء اللذين أغضبتهم هذه المجازر الهائلة في الثمانينات.
لكن الفرق الوحيد هو أن الشعب كله (وليس الإخوان وأنصارهم) في هذه المرّة أسقطوا جدار الخوف, وصمّموا على الخلاص, وهذه هي الجولة الأخيرة للصراع وكسر العظم بيننا وبينه خلال 50 عاماً, وقد قام الشعب كله فيها قومة رجل واحد وبوحي من ثورات الربيع العربي.
لقد كانت الثورتان من كل المدن والمناطق لكن النظام قام في الأولى بتصفيتها منطقة منطقة (ويشهد الوجود الواسع لأبناء المهاجرين في الأردن على ذالك حتى اليوم منذ الثمانينات) إلى أن استفردوا بحماة في المذبحة الكبرى.
لكن الثورة الأولى كانت معظمها في الطائفة السنية فقط لأن الطوائف عادتها بتأثير من النظام ودعايته (عدى أفراد فقط من أعضاء التحالف الوطني لتحرير سورية في العراق) 
إن التضحيات الهائلة من أجل الخلاص في الثورتين تبيّنان مقدار الضيم الكبير الذي وقع على الشعب السوري, ففي الأولى قتل في حماة وحدها عام 1982 ما هو 84 بالمئة من التنظيم القتالي الموحد للطليعة والإخوان (في إحصاء أجريته بنفسي), ورجعت بعض المجموعات للقتال مرة ثانية عبر حدود العراق ومنها مجموعة البطل أبو مصعب الطباع, ومجموعة خط البترول وغيرها و75 مناضل من كل مدن سورية تدربوا ثم نزلوا للقتال عبر تركيا (وبدون علم حكومتها) بعد مجزرة حماه فاعتقلوا جميعاً بعد دخول سورية بخديعة من شخص معروف, نعم لقد غادر البعض في الأولى وهم ممن مارسوا السياسة, لكنهم لم يكونوا من التنظيم المسلح.
واليوم يساهم مقاتلوا الجيش الحر وتوابعه في القتال الشجاع ولا يوجد إحصاءات بعد لعدد المقاتلين الشهداء, ونرجو من الله السلامة لهم.
كما أن القتل من عامة الشعب في الثورتين لم يكن له مبرر, فهو انتقام وردع الشعب عن التأييد, وكان الرصاص الذي اخترق الأجساد هو رصاص السلطة, ولم يكن رد الفعل مساوياً للفعل, كما كانت مطالب الشعب محقة بالحرية والكرامة كما هي اليوم, ولم تكن ثورة تستهدف طائفة العلويين, بل تستهدف من كان منهم بالسلطة ويمارس الإجرام, وكانت معظم عمليات الاغتيال والاعتقال تتم ضد المسؤولين العلويين لأنهم كانوا هم معظم المتحكمين بالأمن وعملياته الإجرامية, لذا كانت نسبتهم في الاستهداف مترافقة مع نسبتهم بالسلطة وكما هو اليوم كذلك (راجع المقالات الثلاث بعنوان الطائفيون السلطويون لنفس الكاتب)
لقد خاضت الثورتان حرب المدن, لعدم توفر المعاصي كالجبال والغابات وكان هناك مقاتلون يكمنون في جبل الزاوية في الأولى... لكن حرب الأرياف اليوم هي أوسع من ذي قبل. وبسبب الثورات المتعددة (وفتح الشوارع السياسي) في مدينة حماة لم يعد في المدينة أحياء قديمة تصلح عملياً للقتال فيها.
أما التمويل فقد كان من التبرعات من الإخوان السوريين في الخارج (حيث كان كل شخص يدفع على الأقل مرتب شهر في السنة)  كما هو الآن, وقد وصلت تبرعات من أهالي وجمعيات بعد مجزرة حماه الكبرى.
الإعلام والاتصالات:
لقد كانت الاتصالات أكبر مشكلة في الثورة الأولى وخاصة عام 1982 وكان الإعلام كارثي التأثير, وشوّه سمعة الثورة, وكانت الأقمار الصناعية الأمريكية تصور ما يحدث, لكنها تركت حماة تباد بدون أضواء لأن عناصرها هم أعداء إسلاميون.  
كما إنه لمن الإنصاف والاعتراف بالحق أن نعتبر أن كل نضالات الشعب السوري هي أجزاء من ثورة تاريخية واحدة طويلة خبت ثم قامت.., ونتجاوز بذالك الزمن والمناطقية والحزبية والأنانية,  فتحية لكل الأحرار الذي قتلوا على يد هذا النظام, ولكل من قاتل هذا النظام بالسلاح أو الكلمة او القلم, ولكل من اكتوى بسياطه, أو أقام في سجونه ردحاً من الزمن,وما أكثرهم! فلاتبخسوا الناس أشياءهم.
بعيني رأيتكم وسنيناً عشتها معكم أيها الصابرون المحتسبون في سجن المزة العسكري أواخر السبعينات, ولن ترى عينيّ معظمكم بعد ذالك, فإلى جنان الخلد أيها الأبطال الشجعان,واليوم أرى عبر الشاشات عذابات أكثر لهذا الشعب الأبي الكريم , كما أرى نضالاته وتضحياته وتدمع عيني مرات باليوم على ضحاياه وعذاباتهم, فإليكم جميعاً حبي واحترامي وتقديري أيها المجاهدون العظماء.
لقد كان إجرام النظام الهائل من آل الأسد في الثورتين, لكن الفرق أن المجرم في الثورة الأولى هو حافظ، وفي الثانية إبن نطفته الّنتة بشار.
كثير هم الذين ضحّوا واستشهدوا في التاريخ ولم يروْا الانتصار (كالبطل عمر المختار).
لكننا في هذه المعركة النهائية سننتصر بقوة الله المقتدر وسنرى الانتصار بعون الله.    

المصادر: