الكلام على حكم المظاهرات

الكاتب : رابطة العلماء السوريين
التاريخ : ١٧ ٢٠١٢ م

المشاهدات : 3353


الكلام على حكم المظاهرات

محاورات بين تائه وطالب علم يحتاج إليها كل الساكتين (2)
تتضمن الكلام على حكم المظاهرات

 

سألني أحد الإخوة قائلاً: إن أشراف الناس منقسمون إلى أقسام، فترى منهم الواقف مع النظام، وترى منهم الساكت، وترى منهم المعارض للنظام، وترى منهم الثائر عليه. فكيف أعرف الحق، وهؤلاء كلهم أهل ديانة وشرف؟


قلت: أشراف الناس؟!
فقال: نعم. لأننا نرى أناسًا لا يتركون الصلاة مع الجماعة، وهم مستقيمون في عملهم وتعاملهم، حتى إن كثيرًا من الناس يشهد لهم بالصدق والأمانة والدين. ومع ذلك نرى بعضًا منهم مع كل قسم من تلك الأقسام.
فأجبته: العاقل يا أخي من يعرف الرجال بالحق، لا من يعرف الحق بالرجال. فالعاقل يعرف الحق، ثم يضع الرجال في ميزانه.
فقال: وكيف أعرف الحق؟
فقلت: هناك أمور يتفق عليها كل الناس. فمن الحق الذي لا يختلف عليه اثنان قوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. وترى الحق ظاهرًا أبلج في قوله - تعالى -: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 36 – 43].
وأما الباطل الذي لا يختلف عليه اثنان فمنه ما بيَّنه قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر..} [النور: 21]، ومنه قوله - تعالى -: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 151 – 152].
وهناك آيات أخرى كثيرة في بيان الحق من الباطل يراها من يتدبر القرآن الكريم.
فقال لي: سؤالي المباشر هو: ما هو حكم التظاهر؟
فقلت: سؤالك فيه غلط لعله غير مقصود. وحتى يتبين لك ذلك الغلط أضرب لك مثالاً قريبًا: إذا وضع إنسان إناءً من الحليب على النار، وأجج النار تحت الإناء حتى فار الحليب، وانسكب خارج الإناء، فهل يصح أن يقول: ما هو حكم انسكاب الحليب خارج الإناء؟! إن السؤال الصحيح هو: ما هو حكم من يضع الحليب على النار ويؤجج النار تحته حتى يفور خارج الإناء؟ هكذا ينبغي أن يكون السؤال. وإذا فهمنا هذا المثال فينبغي أن نصحح سؤالنا على الشكل الآتي: ما هو حكم من يتمادى في الظلم والتجبر والطغيان حتى يدفع الناس إلى المطالبة بحقوقهم المشروعة؟
فقال لي: فإنني أرى أن بعض الناس يخرجون يطالبون بالحرية والكرامة، وهم ليسوا من الذين تظهر عليهم صبغة الإيمان. ولعلهم يطالبون بالانفلات والعيش على هواهم.
فقلت له: نعم. وأنا كذلك أرى أن بعض الذين يتظاهرون ليسوا من الذين تظهر عليهم صبغة الإيمان. ولكن من قال لك إن الظلم وقع حصرًا على أهل الإيمان؟ ومن قال لك إن أهل الإيمان قد احتكروا المظاهرات لأنفسهم، وأنهم مختصون بها لا يجيزون لغيرهم أن يقوم بها؟! إن المظاهرات هي وسيلة للتعبير عن الغضب المتراكم في النفوس والقلوب ضد الظلم والطغيان، وهذه الوسيلة يمكن أن يستعملها أي إنسان يشعر بالظلم ويريد رفعه. ثم ينبغي أن ننتبه إلى أن الحكم إنما يكون على الغالب. وإنني أرى أن أكثر المطالبين بالحرية والكرامة هم من أهل الديانة والعفة. كما أن أكثر الذين يطالبون بترك المظاهرات ويعادونها هم من الظالمين أو المنتفعين من الظالمين. وأرى أيضًا أن كثيرًا من الساكتين هم من أهل الديانة الذين لم تتضح الصورة في عقولهم. فهم يتورعون عن عمل أي شيء، مع معرفتهم أن الفئة الحاكمة هي فئة ظالمة مستبدة. ولكن خوفهم من تداعيات هذه المحنة على البلاد والعباد يمنعهم من المشاركة بالمظاهرات. وهؤلاء لا بدّ أن ينحازوا في النهاية إلى إحدى الفئتين.
فقال لي: نحن نعلم أن الفساد قد ضرب أطنابه في كيان الدولة، ولكن لماذا تقوم المظاهرات في كل البلاد في هذا الوقت بالذات؟! إن الناظر المتبصر ليرى أن الدول الكبرى قد تآمرت على البلاد العربية لتستفيد من خيراتها، وكلنا يعلم أنهم يسعون إلى تأجيج هذه الأحداث التي تحصل في بلادنا، فلماذا نعطيهم الذريعة للتدخل في شؤوننا، واحتلال بلادنا؟
فأجبته قائلاً: مخطئ من ظن أن أعداء الأمة هم الواقفون وراء هذه المظاهرات في البلاد الإسلامية؛ لأن مصلحتهم هي مع بقاء الأنظمة ما دامت تحافظ على مصالحهم. كما أن مصلحتهم هي في جعل المجتمعات مجتمعات مستهلكة لما يصدرونه لها من إفساد ممنهج، وهذا ما حققته لهم الأنظمة العربية عبر عقود من الزمن. ومخطئ أيضًا من يظن أنهم لن يحاولوا استثمار هذه الأحداث لصالحهم، وذلك لأن مصلحتهم هي في محاولة إحكام القبضة على العرب والمسلمين، من خلال الضغط عليهم، بحيث يحصلون على مكاسب جديدة، لذلك ترى اضطرابًا في مواقفهم، يمكن أن نفسره بأمرين، الأول: أنهم يحسبون حسابًا لمستقبل يتوقع فيه سقوط النظام، مما يعرض مصالحهم للخطر، لذلك تراهم تارة يدعمون النظام أو يتعامون عن أخطائه، وتارة يدعمون المعارضة دعمًا مشروطًا بشروط تملى من تحت الطاولة. الثاني: أنهم يحسبون حسابًا لأن تؤول السلطة إلى أصحاب التوجهات الإسلامية كما حدث مؤخرًا في عدد من الدول العربية، وفي ظل ذلك الاحتمال فإن خيار ما يسمى بالفوضى الخلاقة في المنطقة هو الأفضل.
وفي الواقع فإن المتسببين على الحقيقة بهذه الأحداث هم أولئك الطغاة المفسدون الظالمون، فلو أن الظلم والإذلال لم ينتشر بين الناس لما تحركوا، ولا طالبوا، ولا تظاهروا. وإن الأحداث التي جرت تظهر بوضوح أن شرارة الثورة ليست من صنع أمريكا ولا إسرائيل، وإنما هي شعور ذلك الرجل المدعو (البوعزيزي) بالخزي والذل والمهانة، وهذا الشعور دفعه إلى إحراق نفسه. ولا يصدق أحد أن أمريكا والدول الغربية هي وراء إحراق البوعزيزي نفسه. وإنما ذلك الظلم والإذلال المتواصل على العامة والخاصة هو سبب تفجر المظاهرات في البلاد العربية، وجاء ضعف البوعزيزي عن تحمله فكان كالشعرة التي قصمت ظهر البعير. فالذي صنع الثورة هم هؤلاء الظالمون الطغاة، القائمون على الحكم في البلاد العربية. ومثلهم كمثل من جمع الحطب والهشيم الكثير، ثم رش عليه البنزين، ثم جاء البوعزيزي فأشعل نفسه، فكان كالشرارة التي رميت على تلك الكومة الكبيرة من الحطب المهيَّأ للاشتعال، والممتد بكثافة على طول البلاد وعرضها. والوضع الطبيعي هو أن تنتشر النار في ذلك الهشيم كله، ويحاول جنود الإطفاء أن يسيطروا عليها فلا يستطيعون. تسكن من ناحية لتنفجر من ناحية أخرى. وليت شعري! هل ما يحصل الآن هو تحقيق ما أخبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه نعيم بن حماد في الفتن بسند حسن لغيره عن أبي هريرة –رضي الله عنه- مرفوعًا: ((أربعُ فِتنٍ تَكونُ بَعدي: الأُولى تُسفَكُ فيها الدِّماءُ، وَالثانيةُ يُستحلُ فيها الدِّماءُ وَالأموالُ، وَالثالثةُ يُستحلُّ فيها الدِّماءُ وَالأموالُ وَالفروجُ، وَالرابعةُ صَمَّاءُ عَمياءُ مُطبقةٌ، تَمورُ مَورَ الموجِ في البحرِ، حَتى لاَ يَجدَ أحدٌ مِنَ الناسِ مِنها مَلجأً، تَطيفُ بِالشامِ، وَتغشى العِراقَ، وَتخبِطُ الجزيرةَ بِيدها وَرِجلها، تُعركُ الأُمَّةُ فيها بِالبلاءِ عَركَ الأديمِ، ثُمَّ لاَ يَستطيعُ أحدٌ مِنَ الناسِ يَقولُ: مَه مَه، لاَ يرفعونها مِنْ نَاحيةٍ إلاَّ انْفتقتْ مِنْ ناحيةٍ أُخرى)).
وهل هذا هو ما أخبر عنه سعيد بن المسيب، فيما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن رجل عن ابن المسيب قال: ((تكون فتنة بالشام كان أولها لعب الصبيان تطفو من جانب، وتسكن من جانب، فلا تتناهى حتى ينادي مناد: إن الأمير فلان، ذاكم الأمير حقاً، ذاكم الأمير حقاً)). وهذا من الأحاديث التي يقويها الواقع، وإن كان هناك ضعف في إسناده.
فقال لي: أنا متفق معك أن الفساد منتشر في البلاد الإسلامية والعربية، ولكن يمكن أن نصلح الفساد بالحوار، والإصلاح السلمي الجاد من الشرفاء، والوقت الآن ليس هو وقت الثورة ضده، خصوصًا والدول الغربية تتربص بنا، وتريد أن تستثمر الفرصة لتكسب أكبر قدر ممكن من خيرات بلادنا. كما أننا الآن غير مهيئين للتغيير لا دينيًّا ولا سياسيًّا ولا اجتماعيًّا ولا اقتصاديًّا ولا من أي اعتبار آخر.
فقلت له: وهل ينتظر المظلوم أن تعلن الدول الغربية كف يدها عن التربص حتى يطالب بحقه؟! وهل تستطيع أن تقول لأولياء الدماء التي سالت، والأرواح التي ارتقت، انتظروا قليلاً حتى نتهيأ للتغيير، ثم ثوروا على ظلم الطغاة بعد ذلك؟
ثم كان يمكن أن نناقش هذا الأمر قبل اندلاع الثورة، ونبين ما له وما عليه، ونعمل بمقتضى ما نتوصل إليه من قناعات مبنية على أسس سليمة محكمة، إذا كنا من أهل الحل والعقد الذين يحركون الشعوب. وأما الآن فالتيار جارف، ولا يمكن إلا أن تضع نفسك في الخانة التي تنجيك أمام الله - تعالى -. ومثال حالنا اليوم هو مثال سد يحوي خلفه الكثير من الماء، وهذا السد قد تصدع، وبدأت علامات انهياره تظهر. ولا نستطيع أنت ولا أنا أن نوقف انهياره، وإنما كل ما نستطيعه هو أن نجتنب المجرى الذي نهايته الخزي والعار بين يدي الله - تعالى -، وأن نضع أنفسنا في المجرى الذي نهايته هي النجاة في الآخرة، ونظن أن الماء حين ينفجر السد سيوصلنا إليه. 

المصادر: