بين طلب مراقبين دوليين وطلب الحظر الجوي

الكاتب : مجاهد مأمون ديرانية
التاريخ : ١٢ ٢٠١١ م

المشاهدات : 2788


بين طلب مراقبين دوليين وطلب الحظر الجوي

رسائل الثورة السورية المباركة (38)
الثورة السورية: المرحلة الثانية (4)

بين طلب مراقبين دوليين وطلب الحظر الجوي

لقد اقتنعنا الآن بأن استمرار الثورة في سوريا يزعج ويُقلق أطرافاً كثيرة، وأن خروج الأمور عن السيطرة وسقوط سوريا في الفوضى هو آخر ما تتمناه القوى الإقليمية والدولية، وما دام الحال كذلك فلا راحةَ ولا اطمئنان لتلك القوى إلا بتوقف الثورة وعودة الحياة الطبيعية إلى سوريا.
الخيار الأصلي الذي اختاروه كلهم هو توقف الثورة مع بقاء النظام، وبما أنهم أدركوا أن الشعب لن يسكت بلا مقابل فقد حاولوا أن يقدموا له نصراً مُرْضياً عبر إقناع النظام بإجراء إصلاحات محدودة، لكن النظام أبى، فضغطوا عليه ضغطاً حقيقياً لأنهم علموا أنه لا مخرج من الأزمة إلا بإصلاح، لكن النظام استمر في الإباء والعناد. ثم نظروا إلى الجهة الأخرى فوجدوا أن الشعب مارد خرج من قمقم وأنه لا سبيل له إلى العودة إلى حيث كان، فثَمّ علموا أن النظام ساقطٌ لا محالة، إن لم يكن في شهر ففي سنة، والطريق إلى سقوطه محفوف بالمخاطر وباحتمال انحدار سوريا إلى الفوضى أو إلى الحرب الأهلية، فما هو الحل الأفضل برأيكم؟ نعم، هو ما خطر ببالكم ولا حل غيره، سوف يساعدون الشعب على إسقاط النظام.
هذا العرض المبسط يبدو أقرب إلى حكايات المكتبة الخضراء التي كنا نقرؤها ونحن أطفال، ولكنه حقيقي في جوهره، إلا أن التفصيلات أكثر تعقيداً وتداخلاً مما عرضته هنا، وإنما أردت الإيجاز، فمن أحب التوسع فليقرأ التفاسير والشروح في المقالات السابقة التي نشرتها في سلسلة رسائل الثورة خلال الشهور الماضية.
الحقيقة البسيطة التي يمكن استخراجها مما سبق هي أن القوى الدولية -الغربية والإقليمية بالتحديد- صارت حريصة على إسقاط النظام السوري، وهذا يعني أنها سوف "تتدخل" بطريقة أو بأخرى لتحقيق ذلك الهدف. نحن أيضاً بحاجة إلى تدخل خارجي من نوع ما لأننا نواجه حرباً شرسة من نظام مجرم لا حدود لإجرامه، وهكذا اجتمعت رغبة الطرفين بما يكفي لفتح الطريق أمام تدخل غربي لإسقاط النظام. ولكن ما هو شكل التدخل المناسب؟ وما هو موقفنا من هذا التدخل؟ هنا مربط الفرس كما يقولون.
لن أتوقف عند شرعية الاستعانة بالقوى الدولية لإسقاط النظام السوري المجرم، فقد كُتب الكثير في هذا الباب، وليس عسيراً تأصيل الاستعانة المطلوبة اعتماداً على النصوص الشرعية والممارسة النبوية. أنا أقتصر هنا على بحث المسألة من الناحية المصلحية البحتة، وهو رأي ارتأيته لا أدّعي له الصواب المطلق، ففكروا فيه ثم قرروا الأصلح.
حتى الآن حصلت الثورة على أشكال من الدعم الدولي غير العسكري، تشمل:
(أ) التوقف عن دعم النظام. سميت هذا العمل دعماً مع أنه "عدم دعم"، أي أنه مجرد التوقف عن دعم الطرف المعتدي الذي هو النظام، وهذا بحد ذاته مكسب للثورة لأن النظام السوري حصل على جزء كبير من قوته في الماضي من خلال سكوت بعض القوى الدولية وتعاطف بعضها الآخر، فإذا انفضّت عنه وتوقفت عن دعمه فإنه يفقد جزءاً من قوته بالضرورة.
(ب) رفع الغطاء القانوني عن النظام واعتباره نظاماً غير شرعي، وبالتالي تصبح الثورة ضده مشروعة دولياً وتستحق مساندة المجتمع الدولي.
(ج) المطالبة بتحويل مجرمي النظام الكبار إلى المحكمة الجنائية الدولية.
(د) المقاطعة الاقتصادية لشركات وأفراد النظام الكبار.
(هـ) حظر استيراد النفط السوري.
بقي دعم سياسي مطلوب ومتوقع، وهو تكملة للفقرة (ب)، فبعد إسقاط شرعية النظام لا بدّ من الاعتراف بممثل جديد للشعب السوري، وهو ما سيأتي من خلال الاعتراف بالمجلس الوطني الممثل للشعب السوري -الذي ما يزال تحت التشكيل ولم يُعلَن حتى الآن للأسف الشديد، وأرجو أن يكون قد ظهر إلى الوجود حينما تُنشر هذه المقالة ويقرؤها الناس-، والمقاطعة السياسية للنظام وطرد سفرائه. ولكننا لن نتوقع أن تبادر دول العالم كلها إلى الاعتراف بالمجلس على الفور، بل الأغلب أن تعترف به أولاً دولٌ قليلة قد لا تتجاوز الخمس، ولكنها كافية لتشكيل رأس جسر للتواصل وتنفيذ أي مخطط دولي.
لكن الدعم السياسي والضغط الاقتصادي لا يكفي لإسقاط النظام. النظام العراقي البائد عاش عشر سنين مع العقوبات الاقتصادية والمقاطعة السياسية، وكان يمكن أن يعيش عشراً وعشرين أخرى تحت هاتيك الظروف. الأنظمة تضعف وتعاني من الضغط السياسي والاقتصادي، ولكنها تجيّر -غالباً- معاناتها إلى شعوبها. التحالف الذي حارب القذافي مؤخراً حرم ليبيا من النفط ومشتقات النفط، فهل تتوقعون أن العقيد المخبول صار يتنقل بالدراجة الهوائية أو أن أفراد عصابته الكبار استعملوا حافلات النقل العام؟ بالطبع استولى هو وعصابته على كل النفط المتوفر أو أكثره وترك لأهل طرابلس قطرات يحصلون عليها من محطات الوقود بعد ساعات من الانتظار في الطوابير!
لا أقصد أن الضغط السياسي والاقتصادي غير مفيد، بل لا بدّ أن يُضعف النظام بالضرورة، فحتى عندما يجيّر النظامُ المعاناةَ إلى الشعب فإنه يدفع شرائحَ موالية منه إلى الخروج عن ولائها لأنها ستربط معاناتها ببقاء النظام، ولا يُستبعَد أن تنحاز إلى الثورة على أمل التخلص العاجل من الضغط والمعاناة. الذي أقصده أن الضغط السياسي والاقتصادي لا يُسقط نظاماً حاكماً مهما اشتدّ في الدرجة وامتدّ في الزمن. التأثير الحقيقي على النظام يأتي من خلال دعم الثورة بوسائل مادية حقيقية، وهذا يقودنا إلى ما يسمّى تدخلاً خارجياً.
حالياً نسمع ثلاثة أنواع من الأصوات المطالبة بالتدخل الخارجي: النوع الأول: يطالب بدخول مراقبين دوليين وإعلام حر إلى سوريا، النوع الثاني: يقتصر على طلب الغطاء الجوي، أما النوع الثالث: فيطالب صراحة بالتدخل العسكري المباشر. سأناقش المطالب الثلاثة بالتفصيل.
(1) الذين يطالبون بدخول مراقبين دوليين إلى سوريا وبإعلام خارجي حرّ ونزيه هم الأصوب رأياً، فإن هذا الطلب البسيط لن يصطدم بعقبة الفيتو التي ستعطل أي قرار لتدخل عسكري مباشر، ولن يحمّل الشعب السوري أي التزامات مادية أو سياسية، ولأنه لا يمكن أن يتطور إلى شكل أسوأ من أشكال المواجهة، ولأنه سيُلجم النظام المجرم ويقيد حريته في القتل والعدوان واستباحة المدن. إذن فأنا أعتبره توجهاً حكيماً وأشد على كل يد تطالب به، وأقترح أن يجتمع على المطالبة به طرفا الثورة في الداخل والخارج، فيحمل المتظاهرون في مظاهراتهم اللافتات التي تؤكد هذا الطلب بعشر لغات أو عشرين، وينشط أنصار الثورة في الخارج في نشر الفكرة وترويج المقاطع المصوّرة للمظاهرات المطالبة بها في الإعلام العالمي، وفي توصيل الرسالة إلى الحكومات الغربية والمنظمات الدولية.
(2) النوع الثاني من الأصوات المطالبة بالتدخل يقتصر على طلب الغطاء الجوي، وهذا المطلب أقل ضرراً من طلب التدخل العسكري بالتأكيد، ولكن أوانه لم يَئِنْ بعد لأن النظام لم يستعمل الطيران الحربي ضد المدن، وغالباً لن يستعمله في المدى المنظور.
حاولت أن أتتبع الكتابات التي تطالب بفرض حظر طيران لأفهم الهدف من مثل هذا الحظر، لكني فشلت، وأيضاً لم أنجح في معرفة الجواب على سؤال: هل يعرفون ما معنى حظر جوي فوق سوريا؟ لقد كتبت ذات مرة عن الجيش السوري ووصفته بأنه غير مهيأ للحرب رغم حجمه الضخم، لكن يجب عليّ أن أعترف بأن سلاح الصواريخ السوري تحديداً يُعتبر سلاحاً قوياً لا يمكن التهاون بشأنه. حينما قامت الحرب الأخيرة بين سوريا وإسرائيل (عام 1973م) كنت في أول المرحلة الثانوية، شاباً ممتلئاً بالحماسة والأمل، وتابعت أحداث الحرب باهتمام شديد، ثم قرأت بعدها كل ما نُشر عنها بالعربية وبعض ما نُشر بالإنكليزية، واشتريت بعض منشورات المعهد العالمي للدراسات الإستراتيجية، اضطررت إلى طلبها بالبريد لأنها لم تكن متوفرة في الأسواق المحلية، ومن ذلك كله تكونت عندي صورة واضحة عن الجيش السوري، أو بالأحرى عن القوات المسلحة السورية -التي تضم الجيش والطيران والبحرية وسلاح الصواريخ-. لقد كان سلاح المدرعات -في تلك الحرب- متوسط القدرات على ضخامته، وكان سلاح الطيران دون المستوى مقارنة بالطائرات الأميركية التي امتلكها اليهود، أما سلاح الصواريخ فكان متفوقاً بامتياز.
أعترف بأني ابتعدت عن ذلك العالم وفقدت الاهتمام بالثقافة العسكرية منذ سنوات طويلة، لكني وجدت ببحث سريع أن سلاح الصواريخ السوري ما يزال قوياً جداً ويملك نحو ألف منصة صواريخ أرض جو. صحيح أن نصفها من طراز سام 2 وسام 3 التي اختفت من أكثر جيوش العالم -عمرها نحو نصف قرن-، إلا أنها هي والمنصّات الأحدث سواءٌ في أنها يجب أن تدمَّر قبل تطبيق أي حظر جوي فاعل. إذا عرفنا هذا العدد الكبير من المنصات وعرفنا أن عدد الصواريخ التي يملكها سلاح الدفاع الجوي السوري هو 4707 صورايخ، بالإضافة إلى أن الجيش البري يملك نحو أربعة آلاف قاذفة صواريخ محمولة من نوع سام 7، إذا عرفنا ذلك كله فسوف ندرك أن تطبيق أي حظر للطيران لا بدّ أن تسبقه عدة أشهر من الغارات المكثفة على الدفاعات الجوية ومواقع الرادارات والتحكم والسيطرة، أي أن تطبيق الحظر الجوي ليس نزهة صغيرة كما يظن البعض، وهو عملية باهظة التكاليف ولا بدّ أن يدفع الشعب السوري ثمنها جزءاً من حريته واستقلاله لصالح الدول التي ستنفذ العملية، وهي الولايات المتحدة وحلف الأطلسي بالضرورة.
ويبقى بعد ذلك كله الأمر الأهم الذي يجب أن نفكر على ضوئه في خيار الحظر الجوي: هل يمكن أن ينجح هذا الحظر في حماية الشعب من بطش النظام المجرم؟ لو تأملتم فسوف ترون أن الأذى الأكبر تتسبب به القطع البرية -من دبابات وعربات عسكرية ومدفعية- حينما تحاصر وتقتحم المدن أو تقصفها أحياناً، أما الطيران فلم يشكل إلى الآن أي تهديد يذكر في الحرب على المدن، وكما قلت قبل قليل: لم يُستخدَم الطيران ضد المدن ولا يبدو محتمَلاً أن يُستخدَم في المدى المنظور.
إنكم تلاحظون أن الضرر الأكبر والأذى الشديد يصيب المدن بسبب الحصار والاقتحام، أي بسبب القطع العسكرية التي تتحرك على الأرض، فإذا كان ولا بدّ من طلب حظر فلماذا تطلبون الحظر الجوي (no-fly-zone) ولا تطلبون الحظر البري (no-drive-zone) الذي يحرّم على القطع البرية المقاتلة التحرك على الأرض؟ الحظر البري هو الذي يمكن أن يحمي المدن من الاعتداء العسكري الذي تعاني منه حالياً. وعلى أية حال فإن التفكير في الحظر البري ينقلنا على الفور إلى التدخل العسكري الشامل لأنه لا يمكن تطبيقه إلا بضرب القطع العسكرية ضرباً واسعاً يشل قدرتها على الحركة، وهو ما سيتطور إلى حرب كاملة بالضرورة وسيستغرق شهوراً طويلة نظراً للحجم الهائل للجيش السوري.
(3) والآن نصل إلى الفريق الثالث الذي يطالب بالتدخل العسكري الغربي الكامل. لحسن الحظ هؤلاء ما يزالون قلّة -وأدعو الله أن يبقوا قلّة-، لأن خسائر التدخل الغربي العسكري أكبر من المكاسب بكثير، بشرياً ومادياً وسياسياً، وسوف أناقشها في المقالة الآتية -بإذن الله-.

المصدر: الزلزال السوري

المصادر: