سلمية الثورة السورية.. وعسكرتها

الكاتب : وائل مرزا
التاريخ : ١٢ ٢٠١٢ م

المشاهدات : 3408


سلمية الثورة السورية.. وعسكرتها

يعرف العالم بأسره أن الثورة السورية بدأت سلميةً خالصة. لم يكن ثمّة أسلحة لدى الثوار سوى الحناجر والصدور العارية يستخدمونها ليطالبوا بحريتهم وكرامتهم.


بدأ البطش منذ اللحظة الأولى من قبل النظام السوري بالرصاص الحي، ورافقه الاعتقال والتعذيب والقمع بكل أنواعه وأشكاله. لكن الشعب بقي مصراً على سلمية ثورته بكل المعاني. وعلى مدى شهور طويلة، لم يُرتكب أي عملٍ يتسم بالعنف، ولم تُطلق رصاصة واحدة في أي منطقة من قبل الثوار.
لكن وحشية النظام تصاعدت بشكلٍ رأى العالم ملامحه التي لا تحتاج لوصف أو تفصيل. وفي مواجهة هذا الوضع لم يكن ثمة بدٌ من أن يلجأ الشعب إلى الدفاع عن نفسه بعد أن وجد العالم يتفرج على ما يجري دون أن يفعل شيئاً عملياً في نهاية المطاف.
بحث السوريون ابتداءً عن حدٍ أدنى من الإنسانية يدعم حقوقهم المشروعة التي يرفع العالم شعارات تأييدها في كل مكان: حقوق الشعوب في تقرير مصيرها وفي العيش بحرية وكرامة في ظل نظامٍ سياسي ديمقراطي عادل. لكن هذا البحث ذهب هباءً منثوراً. تصاعد القمع وتزايد حتى دخل في خانة الجرائم ضدّ الإنسانية، وبقي العالم يكتفي بالبيانات والتصريحات، وبعض القرارات التي لا تُساعد فعلياً في وقف آلة القتل والتدمير على أرض الواقع.
لهذا، لم يكن بدٌ من أن ينبري الشعب للدفاع عن نفسه ويمارس حقاً تكفلهُ له كل الشرائع والقوانين. فكان طبيعياً أن تخرج إلى الواقع ظاهرة الجيش السوري الحر الذي يدافع، بكل تشكيلاته وفصائله على اختلاف تكوينها، عن شعبٍ أعزل يستحق أولاً أن يبقى حياً وألا يُقتل دون ذنب اقترفه، ويستحق ثانياً أن يُطالب بحقه في إقامة سورية الديمقراطية التعددية التي دفع من أجلها حتى الآن عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمعتقلين والمفقودين.
وفي مواجهة هذه القضية يمكن للسياسي أن يتخذ واحداً من موقفين تجاه موضوع (السلمية) و(العسكرة). فإما أن يعيش في برجه العاجي ويتجاهل أصل المشكلة، دافناً رأسه في الرمل ومصراً على التخندق وراء شعار (السلمية)، بحيث يُدخل بالضرورة كل عملية دفاع عن النفس والشعب في خانة (العسكرة). ويستخدم هذا المنطق سيفاً معنوياً وإعلامياً وسياسياً للتخويف والاتهام يُشهره في وجه الثورة والثوار ومن يؤيدونهم. أو يلجأ إلى الخيار الآخر: خيار الواقعية السياسية التي ترفض النظر إلى الموضوع بشكلٍ يضع الدفاع عن النفس في خانة عسكرة الثورة ويحشر تلك العملية حشراً على أنها نقيضٌ للسلمية.
يمكن للسياسي من النمط الأول أن يمارس موقفه دون أي عناء، فيقف نظرياً ضدّ موقف كل الأعراف والشرائع في هذا المجال، ويفتح الباب عملياً لمزيد من المذابح ضد شعبه وأهله بدعوى مثاليةٍ تفتقر إلى أي صدقيةٍ أو مضمون في مثل هذه الأحوال. بل يمكن له أن يعطي شرعيةً ويُوفّر غطاءً لمن يرتكب تلك المذابح.
أما السياسي من النمط الثاني فإنه يشعر بمسؤوليته وينظر إلى المسألة كلها بشكلٍ أكثر شمولاً. فهو يُدرك أولاً أن المرحلة الجديدة التي تمرّ بها الثورة السورية تُمثّل واقعاً لا يمكن إنكاره والتهرب منه بأي دعوى وتحت أي شعار. لأن هذا التهرّب هو أسهل ما يمكن أن يقوم به في هذه المرحلة. لكنه يُدرك فوق ذلك أن الاهتمام بالظاهرة الجديدة ومحاولة التعامل معها واستيعابها بحكمةٍ ودراية في الإطار السياسي الواسع يُمثّل في الحقيقة محاولةً للحفاظ على أهداف الثورة الأصلية. والتي تتمحور حول تجنّب الفوضى التي يحاول النظام أن يخلقها قبل سقوطه وبعد سقوطه، والأهم من هذا في أن يكون ضبط أي احتمال لحصول تلك الفوضى هو المدخل لاستعادة زمام المبادرة سياسياً، واتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بإعادة توجيه البوصلة باتجاه تحقيق الأهداف الأصلية المذكورة.
هكذا، يستوعب السياسي المحترف المهموم بهمّ المستقبل كل معطيات المرحلة الجديدة من الثورة.. ويتعامل معها دون مداورةٍ أو تردد. فيرسم مع جميع الأطراف الفاعلة طبيعة هذه المرحلة، ويحدد أهداف أدواتها الجديدة، ويضبط سياقها المكاني والزماني وملامح مرحليّتها الراهنة، بأقصى ما يستطيع من دقّة وإتقان..
لم يقصد السوريون حين باشروا ثورتهم أن يكون السلاح عنصراً فيها بأي درجةٍ من الدرجات. كان هذا آخر ما يفكرون فيه، هذا لو أنهم فكروا فيه أصلاً. بل إن صبرهم لشهور طويلة، رغم كل تضحياتهم الكبيرة في مواجهة آلة التدمير الشامل، يؤكد صدقية الحقيقة السابقة. ولو أن النظام السياسي الدولي قام بما يجب أن يقوم به وفق قوانينه وسوابقه المعروفة في هذا المجال لما وصلنا جميعاً إلى هذه الحال.
لكن ما يبعث على الطمأنينة هو طبيعة الشعب السوري العظيم. فهذا شعبٌ يُحبّ الحياة الطيبة، ولم يكن في يومٍ من أيام تاريخه من النمط الذي يؤمن بثقافة الموت. والشعب الذي يُحبّ الحياة الطيبة يُضحّي بالكثير حتى يصل إلى ذلك النوع من الحياة. وهو يدافع عن شرفه ونفسه بجرأة وبسالة نادرة، وبكل ما يُتاح له من وسائل، حين يقتضي الأمر، لتحقيق نفس الهدف: أن يعيش حياة طيبة. لكنه يعرف عندما يفعل هذا أنه يقوم به استجابةً لظروف مرحلةٍ قاهرة لها خصوصيتها التي يجب أن يتعامل معها.. دون أن تُغير بالضرورة طبيعته المسالمة الأصيلة، ودون أن تُطفئ بأي درجةٍ من الدرجات جذوةً تشتعل في أعماق شخصيته وثقافته، تدفعه على مرّ القرون لإعمار الأرض وإقامة الحضارات وبنائها في جميع المجالات.

المصدر: أخبار الثورة السورية

المصادر: