الثورة السورية وكسر الإرادة الإسرائيلية

الكاتب : مهنا الحبيل
التاريخ : ٢٦ ٢٠١١ م

المشاهدات : 3209


الثورة السورية وكسر الإرادة الإسرائيلية

دخلت الثورة السورية منعطفاً كبيراً لكنه كان متوقعاً رغم زحفها المتعمق بدماء الفداء والشهداء كحركة تحرر تعبر الربيع العربي بأقوى مواجهات مركزية اتحدت عليها محاور رئيسية، ومع ذلك كانت تحقق النجاح القوي في أدائه وتأثيره وثباته، لكنّه مروع للوجدان العربي والإنساني يختطف بلا قياس ولا تردد صدارة الحركة الفدائية للثورات العربية وقدرات انتزاع تثبيت الانتصار الشعبي التراكمي الأعزل من أي سلاح سوى الفداء، وثلة من جنود الشرف العربي للجيش الحُر يمارسون حماية محدودة لقدراتهم البسيطة، وغالباً ما تكون هذه الحماية باستشهاد المجند المنشق فداءً لشعبه وكرامته.
لكننا هنا سنسلط الضوء مباشرة في تحليل نتوخى فيه الدقة عن دوافع تراجع التعاطي الدولي -وخاصةً العربي- المفاجئ للرأي العام والمتوقع من المراقبين كون تل أبيب هي المركز الرئيس لهذا التطور الجديد.
العمق السوري الفلسطيني:
منذ قرابة الشهر انتقل الموقف الإسرائيلي إلى ممارسة ضغط مباشر على واشنطن، حيث انتقل الموقف من الدراسات المحذرة من سقوط نظام الأسد والتصريحات التي صدرت عن مسؤولين إسرائيليين عديدين من خشية تل أبيب من عودة سوريا إلى السيادة العربية بقيم ديمقراطية شعبية تعتمد على روح الضمير التاريخي للشعب السوري.
وبالتالي فقد كان الإسرائيليون يدركون -وفي نهاية المطاف- بأن طبيعة التشكل التاريخي للضمير الشعبي العربي الإسلامي في سوريا مندمج مع القضية المركزية الفلسطينية كشريك وليس فقط داعماً.
فإذن هذه القوة الانتمائية الصلبة ستضطر تل أبيب لمواجهتها مع حدود الجولان المحتل بقيام حكم مستقبلي قائم على الإرادة الشعبية لا القمع والاستبداد الوحشي، وبالتالي فإن القرار الجمعي للشعب السوري كان يصب لا محالة في هذا البناء الفكري العقائدي ولكن بروح ديمقراطية وقرار مستقل، وكان من الطبيعي أن لا تُطرح هذه القضية كمسار للثورة السورية، فقرارها الأولي هو تحقيق الاستقلال لسوريا من الاستبداد القمعي، لكننا كنّا ندرك بأن تل أبيب تأخذ هذه القضية على محمل الجد ولن تتخلى عنها، وذكرنا ذلك في أول مقال نشرناه في الجزيرة نت عن الثورة السورية.
ممانعة لردع المقاومة؟
وحتى تتضح الصورة بدقة للقارئ العربي الكريم نوضح الصورة من زواياها الأخرى. إن طبيعة إنشاء وتشكل المحور الإيراني المختلط بحكم نظام أسرة الأسد والتوافق على العقد الطائفي، كان يقوم -ولا يزال- على إدارة مواجهات مع إسرائيل ضمن هذه القواعد التي تحكم التوازنات لتوسع نفوذ المحور في الأرض العربية عبر مشروعية قتال تواجهه إسرائيل فعلياً، لكن في إطار قواعد هذه اللعبة التي أصلاً أسقطت القنيطرة طوعاً بيد إسرائيل في نكسة حزيران 67، وحرّمت أي عمل عسكري ضدها عبر الجولان، واجتاحت المخيمات الفلسطينية في لبنان، وصفّت دموياً المقاومة العربية لمصلحة الهيمنة الشاملة لحزب الله.
وبالتالي استبدلت الحالة المعادية لإسرائيل بإدارة بطاقة إقليمية مع تشكيل المقاومة الطائفية في لبنان لتحقيق غطاء شرعي لهذا التوسع عبر المقاومة المرفوعة، ولذلك اضطرت للتعاطي مع حماس كأرض إعلامية وسياسية لها لإبعاد أو تشتيت المنظور الطائفي والإقليمي للتحالف السوري الإيراني، للاستفادة من زخم وجود الحركة المقاوم فعلياً والمنتمي مبدئياً والتي اضطرت للتقاطع الجغرافي فقط ولم تخضع لنظام الأسد، والتي نتمنى أن تعجل في نقل مكاتبها للقاهرة لمصلحة القضية الفلسطينية والثورة السورية معاً.
محور مناورة مقابل ثورة حاسمة:
ولقد كان حزب الله هو البرنامج الوجودي لهذا المربع للمحور الإيراني القائم في دمشق وطهران، والذي أفاد من نظم الهيمنة الأميركية ومحاصرتها للمقاومة العربية للعب بطاقات المناورة في مواجهات فعلية مع تل أبيب، لكن ضمن حسابات لا تسمح بقناعة لكل منهما بمرحلة تهديد -كش ملك في قاعدة الشطرنج- بل تسمح بمناورة واسعة وتبادل مواقع بين محوري طهران وتل أبيب.
وتوسّع هذا الأمر مع نهاية عدوان 2006م لتضخيم هذه المعادلة التي تحولت لتعزيز إعلان الجنرال عون تحالف الأقليات لبدء مرحلة القوة الحربية للطائفة الشريكة له في لبنان، لاقتسام وانتزاع سلطات طائفية تؤمّن برنامج محاصة طائفية للداخل اللبناني، وإن استمر العزف على منظومة المقاومة وحروب إسرائيل المتوقعة كجزء من الغطاء الضروري لحزب الله.
من هنا نفهم الاندفاع المحموم لحزب الله في التأييد الشرس والشراكة التنفيذية مع نظام أسرة الأسد ومهاجمة ثوار سوريا وشهدائها، لكونه -أي الحزب وأمينه- لم يترك له فرصة ليستقل عن فكرة الذراع الذاتي للمحور، وخاصة عبر البعد الطائفي الذي أفتى فيه مبكراً علي خامنئي بإدانة ثوار سوريا وتزكية الأسد.
هنا كانت تل أبيب تدرك بقوة هذا البرنامج الذي يحقق لها توازناًَ مهماً في مواجهة الثورة السورية، فكيف ذلك؟
إن طبيعة هذا الصراع يحمل مساحة حراك كبيرة لتل أبيب وأمنها الإستراتيجي مع النظام في مد وجزر وحدود مطمئنة مع الجولان، فيما يدرك الإسرائيليون أنهم أمام ثورة شعبية لها عقيدة حاسمة لا تقبل أنصاف الحلول أو المناورة بالنسبة لفلسطين وإن لم يُطرح على الإعلام، وعليه فقد تحول هذا الموقف إلى مبادرة ضغط مباشرة مع واشنطن لإسناد نظام أسرة الأسد أو تعطيل الإطاحة به بحكم أن تل أبيب تدرك أن ثورة وصلت مستوياتها لهذا الحد من الفداء والتمرد، لن يستطيع أي نظام إخمادها مهما بلغت التضحيات.
لماذا تجمدت المبادرة العربية؟
لقد حوّلت إسرائيل مخاوفها وقناعتها الإستراتيجية بتفضيل محور إيران لردع ثورة سوريا الديمقراطية إلى برنامج ضغط على واشنطن بدأ بالتأثير المباشر وإن استمرت التصريحات ضد نظام الأسد، إلاّ أنّ الأميركيين بالفعل مارسوا ضغطاً بحسب المحيط الدبلوماسي للخليج على مجلس التعاون لتعطيل نقل الملف إلى الأمم المتحدة لإصدار قرار المنطقة العازلة.
وهنا يجدر التأكيد بأن القرار المزمع اتخاذه لم يَطرح بالأصل أي شكل من أشكال التدخل العسكري، وإنما كان يعتمد مركزياً على تغطية دولية لقرار تركيا تحقيق المنطقة العازلة والذي استعدت له أنقرة بالفعل، ولكون أن تل أبيب تدرك هشاشة النظام وحركة الاستعداد الضخمة لانشقاقات مركزية عن الجيش إلى الجيش الحر المتصاعدة قوته، فقد شعرت تل أبيب بخطورة الوضع وطلبت ممارسة الضغط لمنع هذه الخطوة أو تأجيلها على الأقل للاستعداد للعهد السوري الجديد.
تطابق الإرادتين لن يهزم الثورة:
من هنا يبرز لنا بوضوح تطابق إرادة تل أبيب وإيران، بغض النظر عن العصف الإعلامي المعهود لأسباب لوجستية لكل منهما، إلا أنّ مصلحة بقاء نظام أسرة الأسد حسمت التطابق الذي شجع إيران مؤخراً على إرسال وفد أمني عالي المستوى لدول الخليج وتقديم عرض مفاجئ للتهدئة في الخليج العربي مقابل دعم التوافق الإسرائيلي الإيراني في سوريا، غير أنّ ما رشح عن اللقاءات أوضح فشل المهمة بسبب انهيار الثقة بين الخليج وإيران، فضلاً عن ما تعتقده هذه الأنظمة من واقع مُرّ سيواجهها لو استعاد الأسد السيطرة.
ورغم تردد الموقف الخليجي المحرك للمبادرة إلا أن مسؤوليه يعلمون أن هذه الثورة لن تقف على أعتابهم، وأنّ قوة عودها يقوم على بناء فدائي أسطوري لم تعرفه أرض عربية منذ حروب الاستقلال، وعليه فإنّ المؤشرات الموضوعية أمامنا كمراقبين بأنّ الموقف العربي مضطر أن يتعامل مع هذه الحقيقة لحتمية السقوط التي بلّغَها أردوغان لساسة الخليج، كرؤية إستراتيجية استشرفتها تركيا عبر دراسة عميقة للوضع السوري.
وأنّ حركة التجاوب مع إرادة الثورة مع قوة تكامل بنائها الداخلي هو لمصلحة العرب وتركيا بأن يدعموا حرية الشعب السوري وقراره بتصفية النظام، فيما التأخر قد يُكلف كثيراً هذه الدول، ويستنزف الشعب في مذابح أسطورية لكنها لن توقف انتصاره.
مثقفو إيران وأفراح الأحزان السورية:
وبلا شك فإن هذه الثورة وشهداءها تعرضوا لحملة تشكيك صبّت في موقف الحليفين، شارك فيها عدد من متطرفي العلمانية العربية ذوي العلاقة الخاصة مع إيران في لبنان والمهجر، ومنهم شخصيات من هيئة التنسيق كتبت نصاً تطعن في الثورة وتردد ذات الموقف الإيراني والإسرائيلي.. الخشية من الأسلمة واتهام قيادتها بالشعوبية والتطرف، وتعلن رفضها للمنطقة العازلة الإنسانية وتهاجم بشراسة الجيش الحر وتحمله المسؤولية، ليتحول نقدها للنظام بعد هذه الإدانات للثورة دغدغة تلاطفه يرحب بها لتسويق هذه المزاعم، ولذلك فإن انتصار الثورة الزاحف بأحزانها يحطم هذه الإرادات ويكسر الإرادة الإسرائيلية.
لكنّ تلك الروح التي كأنها تخرج من غمامات السماء فتحط على حمص لتُسمع العالم عشية مجازر النظام بقوة زئيرها، وكأنما خُلقت عاصمة الشهداء من جديد بعد كل مذبحة، لتجزم بأن إرادة الشعب الذي توحدت فيه فدوى العلوية وبطل الثورة ساروت لاعب الرياضة وسهير الأتاسي اليسارية وثلة من الإسلاميين التقدميين في الهيئة العامة للثورة وحلفائها، وصلوات مساجد وكنائس ضجّت إلى الله وضج بها الشعب والتاريخ لتعلن أن الله العدل الأمين منتصرٌ للشعب الذبيح.

المصدر: الجزيرة نت

المصادر: