الرقة.. امتحان العلاقة بين "قسد" ونظام الأسد

الكاتب : حسين عبد العزيز
التاريخ : ٣ ٢٠١٧ م

المشاهدات : 2527


الرقة.. امتحان العلاقة بين

مع الانحسار التدريجي لتنظيم الدولة الإسلامية، ودخول الهُدَنِ العسكرية حيز التنفيذ؛ بدأ الواقع السوري يخطو خطواته نحو مرحلة جديدة من الصراع. ولا تنفصل عن هذا المشهد -الذي هو قيد التبلور- العلاقةُ بين نظام بشار الأسد و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، التي تشكل الوحدات الكردية عمودها الرئيس.
وتشكل محافظة الرقة المختبر الحقيقي للعلاقة المتداخلة/المتخارجة بين النظام و"قسد"، وهي علاقة مقبلة على تحولات بحكم المتغيرات الجديدة في المشهد السوري، وأهمها أن الولايات المتحدة أعدت نفسها لوجود طويل الأمد في الشمال السوري. وهذا يتطلب استمرار التحالف الإستراتيجي مع الوحدات الكردية، وإبقاء الهيمنة على محافظة الرقة أو على الأقل قسمها الشمالي.


تحالف الضرورة
العلاقة بين النظام السوري وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي علاقة مفارقة، وربما تكون التعبيرَ الأفضل عن مفارقات الأزمة السورية.
فالحزب يرتبط بعلاقات أمنية/عسكرية واضحة مع النظام منذ 2012 في حين يرفض أن يكون جزءا من سياسته، ويرتبط بتحالف واضح مع الولايات المتحدة بينما يمد جسور التواصل والتنسيق مع الروس والإيرانيين، ويرفض محاربة النظام في حين يقدم نفسه على أنه جزء من المعارضة. هذا الوضع المعقد سمح للحزب وأذرعه العسكرية بالبحث عن مساراتهم الخاصة، دون الوقوع في مصيدة النظام/المعارضة.
فهمت دمشق الهدف الكردي هذا، ففتحت الباب مبكرا أمام الوحدات لبسط نفوذها في الشمال، وهو نفوذ خدم في المدى القريب والمتوسط النظام السوري، فتحولت المعادلة الجغرافية إلى ما يلي: الوحدات الكردية تستحوذ على أراض واسعة، لتشكل حاجزا جغرافياً أمام أية محاولة تمدد لفصائل المعارضة.
وهكذا نشأت معادلة تقوم على مبدأ "تفادي الضرر القريب بالضرر البعيد"، وهي مقولة ربما تكون صالحة لفهم تحالف الضرورة، أو ما يمكن تسميته بالعلاقة الوظيفية بين الجانبين، وهو ما تبين منذ 2014 حين تفرغت الوحدات الكردية لمحاربة "تنظيم الدولة"، وتفرغ النظام لمحاربة فصائل المعارضة.
لكن تحت هذا التحالف يكمن الخلاف العميق بين الجانبين، وظل كل طرف ينظر إلى الآخر على أنه عدو، لكنه عداء مؤجل حكمته ضرورات الحرب: بالنسبة للنظام فإن الأولوية هي لمحاربة فصائل المعارضة الوطنية التي تمتلك وحدها الشرعية في تغيير الحكم، وبالنسبة للوحدات الكردية فالعدو الرئيسي هو الذي يمنعها من بسط هيمنتها في مناطقها.
ورغم أن الوحدات الكردية ألبست نفسها بلباس عابر للإثنيات بتشكيل "قوات سوريا الديمقراطية" في أكتوبر/تشرين الثاني 2015، فإن جوهر هذه القوات ظل كردياً، سواء على صعيد الممارسة العسكرية أو على صعيد اتخاذ القرار. وهذا يعني أن الفرقاء المحليين -بمن فيهم النظام- ينظرون إلى "قسد" من منظار إثني، وأن أي تفاهم مستقبلي معها سيكون -إن جرى- مبنيا على هذا الأساس.


تنافس الحلفاء

استغل النظام حالة الجمود (الستاتيكو) العسكري في محافظة حلب ليشن هجوما في ريفها الشرقي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ولم يمض وقت طويل حتى اقتحم الحدود الإدارية لمحافظ الرقة من جهتها الجنوبية الغربية.
وضمن وتيرة عسكرية متسارعة؛ استطاع النظام السيطرة تقريبا على كامل الجزء الجنوبي من محافظة الرقة، ليقترب من محافظة دير الزورمن جهتها الشمالية الغربية. وللنظام ثلاثة أهداف من دخوله محافظة الرقة:
1- السيطرة على بادية الرقة جنوب نهر الفرات تسمح للنظام بامتلاك مساحة جغرافية واسعة جدا، تمتد من ريف حلب الشرقي إلى حدود محافظة دير الزور، وبعمق نحو الجنوب يمتد من إثريا داخل محافظة حماة إلى أقصى الريف الشمالي الشرقي لمحافظة حمص.
وهذه المساحة الواسعة تسمح أيضا للنظام باستكمال المسير العسكري نحو السخنة شرق مدينة تدمر، وتطويق ما تبقى من تنظيم الدولة في شرق السلمية داخل محافظة حماة.
2- انفتاح بادية الرقة على محافظة دير الزور التي ستكون عنوان المعركة المقبلة، ودخول النظام من الرقة إلى دير الزور أفضل بكثير من الدخول إليها من محافظة حمص، ذلك أن المحور الشمالي (الرقة/دير الزور) خالٍ من فصائل المعارضة على عكس المحور الجنوبي (حمص/دير الزور).
3- السيطرة على جنوبي محافظة الرقة ستحول دون استفراد "قسد" بالمحافظة، وستمنح النظام إقامة سد جغرافي أمام أية محاولة تقوم بها "قسد" للتمدد جنوبا إذا ما قررت ذلك مستقبلا.


يشكل دخول النظام محافظة الرقة تحولا مهما في العلاقة مع الوحدات الكردية وإن لم تظهر آثاره كاملة بعدُ، لكن إرهاصاته الأولية بدأت في الظهور، وأولها "اتفاق العكيرشي" الذي تسمح بموجبه "قسد" لقوات "مقاتلي العشائر" -التابعة للنظام بقيادة تركي البوحمد- بالدخول إلى بلدة العكيرشي، إضافة إلى مناطق الدلحة والمقلة وزور شمر والصبخة وقرية البوحمد شرقي الرقة.
الاتفاق كشف حجم التنسيق بين الجانبين لكنه كشف -في المقابل- حجم الحذر بينهما؛ فبالنسبة لـ"قسد" فهي ليست في وارد منع النظام من التقدم نحو الرقة، خشيةً من فتح جبهة عسكرية تحاول ما استطاعت منعها، وجاء اتفاق العكيرشي ليطمئن النظام ويؤكد التفاهمات بين الجانبين.
أما النظام، فهو وإن كان حريصا على استمرار التفاهم مع الوحدات الكردية، إلا أنه كان حريصا -في المقابل- على تأكيد أن ما يجري في الشمال السوري (وتحديدا مناطق "الإدارة الذاتية الكردية") هو برضا دمشق، التي تستطيع منعه متى قررت تغيير الوقائع على الأرض، طبقا لتصريح مصدر عسكري واضح قال فيها إن "القوات النظامية تستطيع تحرير الرقة خلال خمس ساعات فقط".
غير أن هذا التصريح قوبل بتصريح من الجنرال روبرت جونز نائب القائد العام لقوات التحالف الدولي، أكد فيه أن "التحالف وضع حدودا للنظام في الرقة وأخبروه بضرورة الالتزام بها"، وسرعان ما نشر "المجلس المدني" للرقة التابع لـ"مجلس سوريا الديمقراطي" هذا الموقف، في رسالة مضادة لا تخلو من التحذير.


آفاق العلاقة
من الواضح أن العلاقة بين النظام و"الإدارة الذاتية الكردية" تتجه نحو مزيد من التعقيد، وسيكون اليوم التالي لإسقاط تنظيم الدولة في الرقة عنوانا جديدا لهذه العلاقة.
لم تعد دمشق في وضع يسمح لها بإملاء شروطها على "الإدارة الذاتية الكردية"، لكنها تسعى إلى تخفيف حدة اندفاعتها؛ فبعد رفضٍ دام نحو عام للفدرالية، تتجه دمشق شيئا فشيئا -بضغط روسي- للقبول بنوع ما من اللا مركزية، ومنع الوحدات الكردية من الاستفراد بمناطق نفوذها في النواحي العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولذلك يتخذ الصراع المضمَر بين الجانبين أشكالا غير عسكرية؛ فبينما يحاول النظام اختراق البنى الاجتماعية في مناطق "الإدارة الذاتية" ومحافظة الرقة عبر تحالفات عشائرية، تحاول "قسد" و"الإدارة الذاتية" خلق وقائع سياسية على الأرض تشرعن وجودها العسكري.
ولا تخرج عن ذلك مصادقة المجلس التأسيسي "للنظام الفدرالي" التابع "للإدارة الذاتية" على تقسيم مناطق نفوذ "الإدارة الذاتية" إلى ثلاث فدراليات (الفرات: الحسكة/القامشلي، الجزيرة: تل أبيض/كوباني، عفرين).
ولا يخرج عن ذلك أيضا قرار الجمعية التأسيسية لـ"اتحاد شمال سوريا" تحديد موعد إجراء أول انتخابات على مختلف المستويات للإدارات المحلية والمناطقية التي تديرها، كما لا تخرج عنه محاولات "قسد" تشكيل مجلس محلي لحكم مدينة الرقة، على خلاف ما جرى في منبج حيث يخضع المجلس المحلي هناك للوحدات الكردية.


للرقة أهمية خاصة لدى الطرفين (قسد والنظام) بحكم موقعها الجغرافي الوسيط بين الحسكة وحلب، وبحكم كونها الخزان العربي السُّني، ويمكن ضمن ظروف معينة أن تشكل العشائر العربية السُّنية في الرقة ميزان القبّان الذي يحدد طبيعة العلاقة ليس بين العرب والأكراد فحسب، وإنما أيضا بين دمشق والأكراد ذوي النزعة الانفصالية.
وعليه فإن "قسد" لا تضع نصب أعينها ضم المدينة "للإدارة الذاتية" لأن هذا أمر غير ممكن، لكنها تستطيع -وهذا ما تقوم به بدعم أميركي- تحييد المدينة بشكل خاص والمحافظة بشكل عام، فتكون خاضعة لقوى حليفة أو على الأقل غير معادية، ولا تمتلك القدرة العسكرية على تغيير الوقائع، ومن هنا يمكن فهم حرص الوحدات الكردية على إبعاد النظام عن مدينة الرقة.
وأغلب الظن أن مصير المدينة والمحافظة قد حُسم، فأعطي جنوبي الرقة للنظام بدعم روسي، وهذا ما فسر انتقال القصف الجوي الروسي من غرب سوريا إلى الشرق، وسيبقى شمال المحافظة بأيدي سكانها ممن ليسوا خاضعين لأجندات الفرقاء المتنافسين، باستثناء منطقة تل أبيض التي ستكون تحت حكم الوحدات الكردية.
ومع أن دمشق يمكن أن تلعب على الوقت وتغض الطرف عن التطورات الحاصلة في الرقة وعموم مناطق "الإدارة الذاتية الكردية"، إلا أنها تدرك نوايا الوحدات الكردية، وما جرى مؤخرا في الحسكة دليل على ذلك، عندما حذرت "الإدارة الذاتية" المدنيين من شراء أراض وعقارات سكنية من "مجلس مدينة الحسكة" التابع لدمشق.
وبناءً على هذه الوقائع والتطورات؛يصعب تحديد مسار العلاقة بين النظام والوحدات الكردية، ويرتبط الأمر بطبيعة التحالف الأميركي/الكردي، ومدى وحدود السياسة الأميركية في الشمال السوري. كما يرتبط الأمر بتفاهمات واشنطن مع أنقرة وموسكو أيضا، غير أن الثابت الأكيد أن مرحلة التحالف بين النظام والوحدات الكردية تشارف على نهايتها، دون أن يعني ذلك حصول صدامات عسكرية بين الطرفين.

الجزيرة نت

المصادر: