دروس من الثورة الجزائرية .. إلى الثورة السورية

الكاتب : أحمد أرسلان
التاريخ : ١٧ ٢٠١٧ م

المشاهدات : 4098


دروس من الثورة الجزائرية .. إلى الثورة السورية

ولد الشيخ محمد البشير الإبراهيمي عام 1889م شمال الجزائر في بلدية (أولاد إبراهيم)، وكانت الجزائر حينها ترزح تحت الاحتلال الفرنسي، ويرجع نسب الشيخ لعلي بن أبي طالب من جهة الحسن – رضي الله عنهما -، ونشأ الشيخ الإبراهيمي على يدي عمه طالب العلم، فما أتم الشيخ تسع سنين حتى حفظ القرآن الكريم والعديد من دواوين الشعر والمتون العلمية وكتب العلم، ثم لحق الشيخ محمد البشير بوالده في المدينة المنورة وعمره 22 سنة، حيث وصل للمدينة سنة 1911م ، واعتكف فيها خمس سنوات على إلقاء الدروس وطلب العلم والانكباب على المكتبات العامة والخاصة حفظاً وقراءة.

بعد استقرار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في المدينة المنورة بسنة وبضعة أشهر التقى بالشيخ المجاهد عبد الحميد بن باديس، حيث يروي الشيخ البشير خبر اجتماعاتهما الليلية لدراسة الواقع الجزائري وسبل النهضة وبرامجها المقترحة:
"كنا نؤدي فريضة العشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي، ونخرج إلى منزلي، فنسمر مع الشيخ ابن باديس، منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح، ثم نفترق إلى الليلة الثانية، إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها بالمدينة المنورة، كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدبيراً للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صوراً ذهنية تتراءى في مخيلتينا، وصحبها من حسن النية وتوفيق الله ماحققها في الخارج بعد بضع عشرة سنة، وأشهد الله على أن تلك الليالي من سنة 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا في سنة 1931م".
ثم عاد الشيخ عبد الحميد بن باديس بعد ذلك للجزائر سنة 1913 ليؤسس للعمل الدعوي التربوي، ولم يلحق به صاحبه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلا بعد سبع سنين، سنة 1920م، وتركزت جهودهما على العمل الإسلامي في الجزائر من خلال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على المسارات التالية:

مؤسسة عمل العلماء وتنسيق جهودهم، وتصحيح العقائد ومحاربة الطرقية الصوفية التي عززها الاحتلال الفرنسي ورفع من شأن مشايخها لما كانت تشيعه من روح الاستسلام للأمر الواقع والرضوخ للمحتل، إضافة للاعتناء بتربية الأجيال في المساجد والمدراس، والاهتمام بالتعليم ورفد البلاد بالكوادر، والتركيز على تعليم اللغة العربية وتعزيز مكانتها في المجتمع.
وسنقف مع جهود الشيخين خلال تلك المسيرة الطويلة من الجهاد والدعوة والعلم عدة وقفات هامة، هي:

دور العلماء جهاد، بل هو أفضل الجهاد:
للعلماء دور عظيم في دعم نهضة المجتمعات الإسلامية، وعملهم في الجهاد والتعليم ونشر العلم والمعرفة وتوجيه المجاهدين والعاملين في مجال الإصلاح يعد أساسياً.
قال ابن القيم الجوزية في كتابه "مفتاح دار السعادة":( وإنما جُعل طلب العلم من سبيل الله لأنّ به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير، والثاني الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه).
لذلك فقد اهتم الشيخان أيما اهتمام بتعليم الناس العلم الشرعي، وعرفا أن سبيل النهضة يكمن في الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فنشط ابن باديس في ذلك وعزم على بعث نهضة علمية جديدة، فألقى دروسه في الجامع الكبير بقسطنطينة، وعاد بالناس إلى رياض القرآن وتفسيره.
فيما نشط الإبراهيمي في تلمسان وبثه فيها روحاً جديدة، حيث كان يلقي عشرة دروس في اليوم الواحد، يبتدئها بدرس الحديث بعد صلاة الصبح، ويختمها بدرس التفسير بين المغرب والعشاء، ثم ينصرف بعد الصلاة إلى بعض النوادي الجامعة، ليلقي محاضرات في التاريخ الإسلامي، إضافة لجولات على القرى، وأثمرت جهودهما مع من معهما من أهل العلم في بناء أكثر من مائتي مسجد للصلوات والمحاضرات.
كما كان للشيخ الإبراهيمي جهود دعوية واسعة في فرنسا نفسها، استهدف من خلالها الطلاب الجزائريين في الجامعات والمدارس الفرنسية.

الاهتمام بالتربية والتعليم لإصلاح المجتمع ورفده:
آمن ابن باديس بأن العمل الأول لمقاومة الاحتلال الفرنسي هو التعليم لذلك ظهرت عنايته الأكيدة بتربية الجيل على القرآن وتعليم أصول الدين وعقائده من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، إذ كان همّه تكوين رجال قرآنيين يوجّهون التاريخ ويُغيّرون الأمّة، وقد تجلّى ذلك في بعض مقالاته حيث يقول رحمه الله: "فإنّنا والحمد لله نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم، ونوجّه نفوسهم إلى القرآن في كلّ يوم…".
و قد أنشأ الشيخ عبد الحميد بمساعي الجمعيات وأهالي الخير مئات المدارس التي انتظم فيها آلاف الطلاب بالإضافة إلى الكتاتيب التي انتشرت في كل مكان واخذ الفرنسيون بمحاربتها، وكانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ترسل النابغين من طلابها الذين واصلوا التعليم لاستكمال دراستهم في بعض جامعات الدول الإسلامية، كما كانت الجمعية تُعفي البنات من مصروفات التعليم، ويتعلَّمن بالمجَّان، تشجيعاً لهن على التعليم.
ووجهت الجمعية عنايتها إلى التعليم في المساجد، فكما لا مسجد دون صلاة، فكذلك لا مسجد دون تعليم؛ ولذا وضعت الجمعية برامج واسعةً لنشر التعليم الديني والثقافة العربية للصغار والمبتدئين، واستكمال ثقافة من درسوا باللسان الفرنسي، كما عنيت بإرسال الوعاظ إلى القرى لنشر الوعي الإسلامي بينهم.
أما الشيخ البشير الإبراهيمي فقد سافر إلى كل من مصر والسعودية والعراق وسوريا والأردن والكويت وباكستان للسعي لدى الحكومات العربية لقبول بعثات طلابية جزائرية، وللتعريف بالقضية الجزائرية، وكان من بين طلاب هذه المدارس والمعاهد دعاة الحركة التحريرية بالجزائر.
وكان "الإبراهيمي" يعلق آمالاً واسعة على الطلبة المبعوثين، فلم يألُ جهدًا في تصحيحهم وإرشادهم وتذكيرهم بالوطن المحتل، وبواجبهم نحو إحياء ثقافتهم العربية الإسلامية التي تحاربها فرنسا وتحاول النيل منها، وقد أثمرت جهوده التي بذلها تجاه هؤلاء المبعوثين عن نجاح ما يقرب من معظمهم في دراستهم الثانوية والجامعية، وساهموا في تحقيق الفكرة العربية الإسلامية التي كان يؤمن بها العلماء، ويحكي د. خالد النجار في كتابه : (عبد الحميد بن باديس رائد النهضة العلمية والإصلاحية في الجزائر ) حيث يقول فيه :
( عودة الطلبة الذين درسوا في الخارج: وأقصد بهم الطلبة الذين درسوا في جامع الزيتونة، وجامعة القرويين، والأزهر، وفي الحجاز والشام. ساهم هؤلاء المثقفون بعد عودتهم إلى الوطن بجهود عظيمة في النهوض بالحياة الفكرية والدينية، بما أثاروا من همم وأحيوا من حمية، وبنوا من مدارس في مختلف أنحاء الوطن، وبما أصدروا من صحف، معتمدين في ذلك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأصلحوا العقائد، وصححوا المفاهيم، ونقّوا الأفكار من رواسب البدع والخرافات التي علقت بها، وأحيوا الشعلة التي أخمدها الاستعمار في نفوس الأمة.. ويوم اسوداد المآزم وتلاحم الخطوب، أعادوا ذكرى أسلافهم في الصبر والصمود.. ومن هؤلاء الرواد الذين ساهموا في إثراء هذه النهضة الفكرية الإسلامية بالجزائر ... ).

الجهود السياسية داخلياً وخارجياً والعلاقة مع الدول العربية وأخذ الدعم منها:
كان للشيخين جهود سياسية وإعلامية واسعة، حيث أصدرا أكثر من جريدة محلية، كجريدة المنتقد والشهاب ومجلة البصائر، وكل ما أغلق المحتل الفرنسي مشروعاً منها افتتحوا آخر.
كما دعا ابن باديس إلى عقد مؤتمر إسلامي سنة 1936م للحيلولة دون تنفيذ مؤامرة إدماج الشعب الجزائري المسلم في الأمة الفرنسية المسيحية، واتبعه بمنشور طالب فيه الأهالي بمقاطعة احتفال بمناسبة مرور قرن على احتلال الفرنسيين للجزائر، حيث سعى الفرنسيون إلى حضور الأهالي، إلا أن الأهالي استجابوا لدعوة بن باديس ودعاته الذين انتشروا وسط الشعب يثيرون نخوته ويوعونه.
أما الشيخ البشير الإبراهيمي فكانت له جهود سياسية وتعليمية متنوعة في عدد من العواصم، حيث غادر الجزائر سنة 1952م متجهاً إلى المشرق العربي في رحلته الثانية التي دامت عشر سنوات حتى استقلال الجزائر سنة (1381هـ= 1962م)، وكانت جمعية العلماء قد كلفته القيام بهذه الرحلة لتحقيق ثلاثة أهداف:
-بذل المساعي لدى الحكومات العربية لقبول عدد من الطلاب الجزائريين الذين تخرجوا من معاهد جمعية العلماء في جامعاتها.
-طلب معونة مادية لجمعية العلماء لمساعدتها في النهوض برسالتها التعليمية.
-الدعاية لقضية الجزائر التي نجحت فرنسا في تضليل الرأي العام في المشرق بأوضاع المغرب عامةً والجزائر خاصةً.
واستقر الشيخ "الإبراهيمي" في القاهرة، وشرع في الاتصال بمختلف الهيئات والمنظمات والشخصيات العربية الإسلامية في القاهرة وبغداد ودمشق والكويت، ونشط في التعريف بالجزائر من خلال المؤتمرات الصحفية، والمحاضرات العامة، وكان بيته في القاهرة ملتقى العلماء والأدباء وطلبة العلم.حيث لم يكنْ يترُكُ مؤتمراً أدبياً أو مُنتدىً فِكرياً أو لقاءً عِلمياً إلاّ مثّلَ فيه الجزائرَ أحسنَ تمثيلٍ.

وفي المقابل لم يترك الإبراهيمي الجزائريين في الداخل، بل اتجه في خطابه إلى الثوار في الجبال يشد من أزرهم وينفخ في أرواحهم ويلهب مشاعر العزة فيهم، وينادي في أبناء الشعب الجزائري أن يلتفوا حول هذه الثورة المباركة، ويمدوها بكل مايمكنهم من الدعم، ولقد كانت الثورة في أيامها الأولى أحوج ما تكون إلى هذا الصوت الصادق.

لب السياسة بناء الأمة:
يرى الشيخ البشير الإبراهيمي بأن: "لباب السياسة هو "بناء الأمة"، وبناء الأمة يكون ببناء أركانها من العقيدة والأخلاق والعلم والوعي والعمل والإنتاج، وقشور السياسة هو هذا الجدل السياسي بين التيارات الحزبية والنيابية".
كما ركز الشيخ البشير من خلال أطروحاته على إعادة تعريف السياسة، وأن الإصلاح السياسي لايقتصر على الاشتغال المباشر بالجدل حولها،بل إن بث العلم وبناء الأخلاق في المجتمع أهم عوامل الإصلاح السياسي، وهذا يعني طبقاً لرؤية الشيخ البشير أن المشتغلين بالتعليم وتصحيح العقيدة وبث التفسير والفقه والتزكية والوعظ والتربية ونشر الثقافة الجادة.. إلخ ،ليسوا أجانب عن الإصلاح السياسي، بل هؤلاء – حسب رأي البشير-  في قلب عملية الإصلاح، لأنهم يبنون الأمة، وكثير من الأغيار يلوك الجدل الهامشي في الأحداث، ويظن نفسه في كابينة التأثير وهو مجرد مراقب متفرج، تعيد الضغوط العولمية صياغة مجتمعه معرفياً وقيمياً وهو مجرد معلّق لايساهم في البناء والترميم.

ختاماً: وبعد ما استعرضناه من سيرة الشيخين، ممن نمت النهضة التعليمية والدينية في الجزائر على أكتافهم ومن معهم من العلماء والدعاة والعاملين بكل مجال، تبين لنا كيف أن الجهاد أنواع، وأن الشيخين لم يقتصرا على نوع من أنواع الجهاد، بل عملا على دعم وتقوية جميع أنواع الجهاد في المجتمع، وركزا جهودهما على تعزيز القيم الإسلامية في المجتمع، ونشر العلم الشرعي، وتمتين مكانة اللغة العربية بين أبناء الجزائر، والاهتمام بالتعليم والتربية، ومحاربة العقائد الفاسدة.


وكيف أن هذين العالمين العلمين اهتما بطلب العلم والتحصيل الثقافي لعدة سنوات، حتى استطاعا إطلاق برامجهما العلمية والدعوية والتربوية، والتي أثمرت عشرات المدارس وعدة صحف ومجلات، والكثير من الجهود العلمية التربوية، التي زاحمت جهود الاحتلال في إخضاع المجتمع حتى قلبت الطاولة عليه، بل وصفت هذه الجهود بأنها ربت الأجيال التي كانت وقود معركة تحرير الجزائر.
فمقاومة المحتل أو الظالم لاتحتاج فقط للجهد العسكري – على أهميته - ، بل تحتاج جهود تعليمية تحافظ على هوية المجتمع وتعزز من قيمه، وجهود علمية تؤصل للجهاد والسياسية ومسيرتهما، وجهود دعوية تحافظ على شرائح المجتمع داخل المعركة وخارجها، من يسكن في البلد ومن اضطرته الحرب ليخرج منها، والبصير من عرف أن بناء الدولة يحتاج تضافر جهود المجتمع بكل شرائحه ومكوناته.

المصادر: