العقول العمياء

الكاتب : مجاهد مأمون ديرانية
التاريخ : ٥ ٢٠١٦ م

المشاهدات : 3066


العقول العمياء

-1-

قبل عدة سنوات أرسل إليّ أحد الأصدقاء مقالة زعم كاتبُها أن أبا الجن اسمه “سومبا”، ولكي يقنع الكاتبُ قرّاءَه بهذه المعلومة “الخطيرة” قال إنها مدوّنة في تاريخ ابن كثير!

قلت لصديقي: هذا تخريف. فاستكبر ردّي وقال مستهجناً: هل تقول إن ابن كثير مخرّف؟ قلت: لا، أنا استسخفتُ المعلومةَ وأبَيتُ قَبولها (سواء أكان قائلها ابن كثير أم سواه) ولم أتعرض له هو نفسه بأي قدح أو هجاء. لقد كان ابن كثير عالماً كبيراً، ولكنْ مَن قال إنه معصوم؟ لا بد أن له زلاّت كأي واحد من الناس، فإذا قال إن أبا الجن كان اسمه “سومبا” فقوله مردود عليه. هل اطّلع على سجل الأحوال المدنيّة (النفوس) للمذكور؟ هل رأى صورة من شهادة ميلاده؟ هل جاء اسمه في آية أو حديث صحيح؟ لو أردنا أن نحدد لأبي الجن اسماً (وهو عمل لا فائدة منه أصلاً) لكان الأَولى أن نأخذ بما ذهبت إليه طائفة من المفسرين من أنه “الجانّ” المذكور في الآية: {والجانّ خلقناه من قبل من نار السَّموم}، فقالوا إنه أبو الجن قاطبة، وبعضهم قال إنه اسم إبليس خاصة، والخوض في هذا كله لا منفعة منه على أية حال.

هذه الحادثة لفتت انتباهي إلى خلل كبير في طريقة تفكير كثير من الناس، ونبّهتني إلى علّة عقلية تعوق التفكيرَ الجيد، يمكن أن نسميها “مشكلة العقل الأعمى”، وصِفَتُها أن يسلّم المرءُ عقلَه لغيره أو يستسلم فيترك التفكير جملة واحدة ويعتمد على تفكير الآخرين. ولهذه العلّة سببان: أولهما أن يكون المصدر مشهوراً من المشاهير، والثاني أن يكون قديماً في القدماء.

-2-

إننا نرى غالباً أن أصحاب العقول الضعيفة يقعون ضحيةً لسحر المشاهير وسطوة القدماء، فينبهرون بكل ما يصدر عنهم ويتلقّونه بلا تمحيص ولا وزن ولا تفكير، فإذا حلّق الواحد منهم في جوّ السماء صفّقوا وأُعجبوا، وإذا هوى في حضيض الأرض صفّقوا وأُعجبوا، فلا تدري: أصفّقوا وأعجبوا لقوة أفكاره وسموّ أسلوبه، أم لعُلوّ اسمه وقِدَم عهده؟

إذا كان الرجل مشهوراً قُبِل ما يقوله وما يكتبه بلا مناقشة وذاع وشاع ولو كان عبارات عامة لا جِدّةَ فيها ولا إبداع، وإذا كان مغموراً لم يأبَه به أحد ولو نثرَ دُرَر الكَلِم وجواهر المعاني. كثيراً ما ينسخ أحد المشاهير في صفحته دعاء مألوفاً من أذكار اليوم والليلة التي يحفظها تلاميذ المدارس، فيُعاد نشره وتدويره ألف مرة! أمّا مَن كان من المجاهيل الذين لا يُعرَفون فإنه يجتهد ويكدّ ذهنه ويأتي بالروائع، فلا يكاد يلتفت إليها غيرُ قليل من الناس.

إن الشهرة تضفي على صاحبها هالة من القداسة والتعظيم تسحر العقول.

أما القِدَم فإن له في نفوس العامة رهبة وخضوعاً يكتسبهما من قِدَمه وبُعْد عهده، وكلما زاد قِدَمه وبَعُدَ عهدُه زادت الرهبة وزاد الخضوع والتسليم! إننا نلاحظ أن كثيرين يشعرون بالرهبة ويستسلمون عندما يقرؤون نصاً منقولاً عن مؤلف قديم، وهو أمر يستغله كثير من الكتّاب، فإذا أراد أحدهم أن يثبت صحة أفكاره فما عليه إلا أن يعزوها إلى مؤلفين ماتوا منذ مئات السنين.

إن الزمن يمنح الناس قدسية وجلالاً لا يحصل عليهما كثير من الأحياء.

-3-

أتمنى أن يطوّر الناس حاسة نقدية تجاه الأسماء الكبيرة، أو تجاه مَن كان الشيخ الغزالي -رحمه الله- يسمّيهم “أصحاب الهالات المُشَهَّرة”. إن مجرد كون الكلام صادراً عن رجل مشهور أو قديم لا يعني أنه صحيح، وإن الاسم الكبير لا يعني بالضرورة أن يكون صاحبُه معصوماً من الوهم والخطأ.

أتمنى أن تصبح “العقلية النقدية” طبعاً وأصلاً عندنا لا تطبّعاً وتكلفاً، فنستقبل الكلام مفصولاً عن قائله، فما كان خيراً فهو خير كائناً صاحبُه من يكون، وما كان ذا قيمة في نفسه فهو يستحق التقدير ولو صدر عن مجهول، وما كان غيرَ ذلك فاطرحوه ولو جاء به أشهر المشاهير، فإن من حق القراء على الكاتب أن يقدم لهم ما ينفعهم، وكلما زادت شهرته زادت مسؤوليته، أما القَصّ واللصق فإنه استخفاف بعقول القرّاء والمتابعين لا يستحق صانعُه الإعجاب والهتاف والتصفيق.

أتمنى أن يملك كل واحد منا “مكافح فيروسات عقلية” يشتغل على الفور كلما قرأنا أو سمعنا ما يخالف المنطق والفطرة والفهم السليم، تماماً كما ينشط مضاد الفيروسات في الحاسوب عندما يشتبه بفيروس من الفيروسات الحاسوبية. لنتسلح بمضادّين مهمين من مضادات الفيروسات العقلية على الأقل: مضادّ يحصّننا من تصديق الكلام لأنه (وفقط لأنه) قديم أو لأنه مدوَّن في مراجع قديمة، ومضاد يحصّننا من تصديق الكلام لأن قائله (وفقط لأن قائله) رجل مشهور.

إن آخر ما يرجوه العاقل لنفسه هو أن يبيع عقله أو يؤجّر دماغَه للناس المشهورين أو للعلماء القدماء، لمجرد أن أولئك قدماء وهؤلاء مشهورون!

 

 

 

الزلزال السوري

المصادر: