إذا وسِّد الأمرُ لغير أهله

الكاتب : رابطة خطباء الشام
التاريخ : ٢٠ ٢٠١٦ م

المشاهدات : 4109


إذا وسِّد الأمرُ لغير أهله

مقدمة:
إذا رَأَسَ النّاسَ مَنْ كانَ فقيرًا عائلًا، فصار ملكًا على النّاس، فإنَّه لا يكادُ يعطي النّاسَ حقوقَهم، بل يستأثر عليهم بما استولى عليه من المال، وإذا كان مع هذا جاهلًا جافيًا، فَسَدَ بذلك الدّين؛ لأنَّه لا يكون له همّة في إصلاح دين النّاس ولا تعليمهم، بل هِمّته في جباية المال واكتنازه، ولا يُبالي بما فسد من دينِ النّاسِ، ولا بمن ضاعَ من أهل حاجاتهم.
وقال الشَّعبيّ: "لا تقومُ السَّاعة حتى يصيرَ العلمُ جهلًا، والجهلُ علمًا".

1- خيانة من ولَّى غيرَ كفءٍ مع وجود الكفء
إنّ إسناد الأمور إلى أهلها أمانةٌ في عنق وليّ الأمر، فإذا ما أسندها إلى غير أهلها، مع وجود أهلها، فقد خان تلك الأمانة.
وقد أمر الله سبحانه بأداء الأمانات، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النّساء 58].
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "أمّا أداء الأمانات ففيه نوعان: أحدهما الولايات، وهو كان سبب نزول الآية، فإنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لمّا فتح مكّة، وتسلّم مفاتيح الكعبة من بنى شيبة، طلبها منه العبّاس، ليجمع له بين سقاية الحاجّ وسدانة البيت.. فأنزل الله هذه الآية، فدفع مفاتيح الكعبة إلى بنى شيبة.. فيجب على وليّ الأمر أن يولّي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل" [ 1 ]
وكما أمر الله سبحانه بأداء الأمانة إلى أهلها، فإنّه نهى عن الخيانة الّتي تتضمّن إسناد الأمر إلى غير أهله.. كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال 27].
ومن أعظم الخيانات إسناد الأمور إلى غير أهلها، لما في ذلك من الظّلم للأكفأ بعدم وضعه في موضعه وإسناد الأمر إليه، ولغير الأكفأ الّذي أُسندت إليه الأمور وهو غير قادرٍ على القيام بها، وللأمّة الّتي تصطلي بنار التّدابير السّيّئة الصّادرة من غير الأكفاء، ولوليّ الأمر نفسه الّذي أَسند الأمر إلى غير أهله.. فهو يتحمّل إثم إسنادها إلى غير أهلها.. وإثم حرمان الكفء ممّا يجب أن يُسند إليه.. وإثم ضرر الأمّة من تدبير غير الكفء السّيّء.
2- النّاس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة
وتزداد خيانة وليّ الأمر الّذي يسند الأمور إلى غير أهلها، إذا علم أنّ الأكفاء نادرون بين البشر، فإذا وُجد هذا النّادر واختير غيره من الجهلة أو الخونة أو الضّعفاء، كان ذلك دليلاً على أنّ الخيانة في تارك الكفء إلى غيره متأصِّلة فيه، وأنّه لا يريد للأمّة خيراً، وإنّما يريد لها الشّرّ، وإنزال الفساد بساحها، إشباعاً لرغباتٍ شرّيرةٍ فيه وأهواءٍ فاسدةٍ وجلباً لمصالح شخصيّة.
وقد شبّه الرّسول صلّى الله عليه وسلمّ، الرّجل الكفء بنجيب الإبل [وهو قليل بين الإبل الكثيرة] الّذي إذا وجده المسافر أمن في سفره على نفسه وعلى متاعه؛ لأنّه قويّ صبور متمرّس على الحمل والسّفر وتحمّل المشاقّ.
وهكذا الرجل الكفء يأمنه ولي الأمر الذي اختاره، وتأمنه الأمة على ضروراتها ومصالحها، أما غير الكفء فهو شبيه بالإبل الكثيرة التي يلتمس الراكبُ منها واحدةً صالحة فلا يجدها.. وهكذا البشر الذين ليسوا أكفاء كثيرون.. روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس كإبل مائة لا يوجد فيها راحلة)[2]

3- أسباب اختيار غير الكفء مع وجود الكفء
إن السبب الرئيس في كل ما يخالف أمر الله تعالى هو اتباع الهوى الذي يُرجِّح عند فاقد الإيمان أو ضعيفه، ما يهواه هو على ما يحبه الله ورسوله، كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص 50].
وإذا غلب على المرء اتباع هواه أرداه في مهاوي الهلاك وهو يظن أنه يبني لنفسه المجد الشامخ.. ومظاهر اتباع الهوى تتجلى في اختيار قريبه، وإن كان جاهلاً ضعيفاً خائناً، كابنه وأخيه ونحوهما، أو صديقه مجاملة له، وتعاوناً معه على محاباة كل منهما الآخر. أو لاتفاق في الهوى والصفات، كأن يكون أحدهما يميل إلى اللين أكثر، فيختار من يوافقه في هذه الصفة؛ لأنه بلينه الزائد قد ألف نمطاً معيناً من معاملة الناس، والشديد قد يغير من ذلك النمط.. أو يكون شديداً عنيفاً، ألف البطش بالناس، وعدم الرحمة واللين وطلاقة الوجه مع رعيته، فيختار من يوافقه على ذلك، حتى تصبح رعيته ذليلة لا تعصي له أمراً وإن كان فيه هلاكها.
مع أن الذي ينبغي عمله هو العكس، فيختار اللينُ من الأكفاء من يميل إلى الشدة ليعتدل أمر الناس باعتدال ولي الأمر ونائبه، حيث يخفف هذا من شدة هذا ويعدل هذا من لين ذاك.. وإذا كان ولي الأمر شديداً اختار بجانبه من يميل إلى اللين، ليخفف من شدته، وبذلك تعتدل الأمور.
قال ابن تيمية رحمه الله: "لأنّ المتولّي الكبير إذا كان خلقه يميل إلى اللين، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشّدة، وإذا كان خلقه يميل إلى الشّدة، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين ليعتدل الأمر".
ولهذا كان أبو بكر الصّديق يؤثر استنابة خالد، وكان عمر يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن الجرّاح، لأنّ خالداً كان شديداً، كعمر ابن الخطاب، وأبا عبيدة كان ليّناً، كأبي بكر، وكان الأصلح لكلّ منهما أن يولّي من ولّاه ليكون أمره معتدلاً.
فظهر بهذا أن ولي الأمر الذي يريد للأمة الخير يولي من يخالفه في بعض صفاته، لما يرى في مخالفته له من المصالح العامة وأن صاحب الهوى لا يولي إلا الذي يوافقه في صفاته التي تحقق له مصالحه الخاصة، وإن كان فيها ضرر على عامة الناس..
وقد يكون اختياره لغير الكفء؛ لأنه من بلده أو من جنسه، أو يتكلم بلغته، أو يوافقه في مذهبه أو طريقه، وقد يترك الكفء حسداً له، أو لما بينهما من عدم الانسجام أو غير ذلك.
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: "فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما أو ولاء أو عتاقة أو صداقة أو موافقة في بلد أو مذهب، أو طريقة، أو جنس، كالعربية والفارسية، والتركية، والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينها، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.. ودخل فيما نهى عنه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[الأنفال 27-28].
فإن الرجل لحبه لولده، أو لعتيقه، قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه، فيكون قد خان أمانته، وكذلك قد يؤثره في ماله أو حفظه بأخذ ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته" [ 3 ]
وقد يختار غير الكفء لموافقته له في الفسق، من أجل أن يعينه على فسقه، أو لأنهما ظالمان، ويريده أن يعينه على ظلمه، أو غير ذلك من الأسباب، وكلها أسباب لا تخوله أن يختار غير الكفء ويترك الكفء، لما في ذلك من الخيانة..
4- أيّ رفعةٍ ينشدها المسلمون في ظلّ غياب الأمانة؟!
الإسلام دين النّزاهة والأمانة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}، فأمانة المسؤول أمانة عظيمة، لاختيار الأصلح لكلّ عمل، دون مراعاة لأحد، ولا محاباة لفرد من الأفراد، ودون تقدير لشعور قريب أو صديق، فلن يجادل عن المفرّط أحد يوم القيامة، بل سيقاسي ألوان العذاب بسبب تفريطه في الأمانة وتضييعه لها، وسيكون جلساؤه خصماؤه، وشهداء عليه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (وَيْلٌ لِلْأُمَرَاءِ، وَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ، وَيْلٌ لِلْأُمَنَاءِ، لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ ذَوَائِبَهُمْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِالثُّرَيَّا، يَتَذَبْذَبُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَلَى شَيْءٍ) [ 4 ]
وفي الحديث: (أَيُّمَا رَجُلٍ اسْتَعْملَ رَجُلًا عَلَى عَشَرَةِ أَنْفُسٍ، عَلِمَ أَنَّ فِي الْعَشَرَةِ أَفْضَلَ مِمَّنِ اسْتَعْمَلَهُ، فَقَدْ غَشَّ اللَّهَ، وَغَشَّ رَسُولَهُ، وَغَشَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ...)، والمتأمّل في هذا الزّمن، والنّاظر في واقع المسلمين اليوم، يجد أنّ كثيراً من الأعمال يتولّاها أناسٌ ليسوا أهلاً لهذا المكان، لا يخافون الله ولا يهابونه، فكيف تسير سفينة الحياة مع تلك الفئة من النّاس؟!
روى الإمام أحمد في مسنده، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ بَعَثَنِي إِلَى الشَّامِ: يَا يَزِيدُ، إِنَّ لَكَ قَرَابَةً عَسَيْتَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِالْإِمَارَةِ، وَذَلِكَ أَكْبَرُ مَا أَخَافُ عَلَيْكَ، فَإِنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ...)، فتفكروا رحمكم الله في حال المسلمين اليوم ، والواقع الأليم الذي تعيشه الأمة في هذا الزّمن، من توسيد الأمر لغير أهله، الّذين يستغلّون مناصبهم لاستغلال المسلمين، والّذين لا يأبهون بأكل الرّشوة بالباطل، وتأخير معاملات المسلمين، والّذين لا يتورّعون عن الظّلم والعدوان، ومع ذلك تجدهم قد تسنمّوا قمم المراتب، وأعالي المناصب، فأين العزّة والفلاح؟ وأين الرّفعة والصّلاح الّتي ينشدها المسلمون في كلّ مكانٍ مع هذا التّفريط في الأمانة؟!
5- رسالةٌ إلى كلّ مؤتمَن:
أيّها المسلمون:
على الموظّف والمرؤوس، وعلى العامل والخادم، أن يؤدّي كلّ منهم العمل المناط به على أكمل وجه وأحسنه، فذلك من الأمانة، ولا بدّ أن يستنفد جلّ وقته، وكلّ جهده في إكمال عمله وتحسينه، أمّا من فرّط في أداء عمله المنوط به، كمن يأخذ الباقي دون علم صاحب العمل، أو من يقوم باستخدام آلات العمل وأجهزته ومعداته من أجل مصالحه الشّخصيّة، أو من يأخذ شيئاً من عمله لبيته أو لغيره دون إذن مسبق، أو يسرق آلات الحرب ومعدّاته من عمله، أو يؤخر معاملات المسلمين من أجل حفنةٍ قذرةٍ من أوساخ الدّنيا، أو يقبل الواسطات، أو يقدّم نفسه في العطايا، فتلك الأعمال وغيرها من الخيانة والغلول والعياذ بالله، قال تعالى: {ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة}، عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنْ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: وَمَا لَكَ، قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى)[5]
6- إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر السّاعة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ، قَالَ: (أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟) قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: (إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)[6]
فلو تمعنَّا في حديث الصادق المصدوق صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، سنفهم أنّه يشير إلى قانونٍ مهمٍّ للعمران البشريّ؛ أنّ إسناد الأمر لغير أهله؛ يعني الخراب والدّمار لذلك المجتمع الّذي يقع فيه ذلك.
7- غياب الأمانة يعقبه بلاء تصدّر الرّويبضة:
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَوَادِعًا، يُتَّهَمُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيَكْذِبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُصَدِّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ النَّاسِ الرُّوَيْبِضَةُ)، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: (السَّفِيهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ)[7]
قال الإمام الشاطبيّ: "قَالُوا: هُوَ الرَّجُلُ التَّافه الحَقِيرُ يَنْطِقُ فِي أُمُورِ العَامَّةِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ العَامَّةِ فَيَتَكَلَّمُ".
ومن مجموع هذه الصّفات، وما توحي به نرى أنّ الحديث يشير إلى صنفٍ من النّاسِ لا يهمّهم أمرُ الدّينِ في شيءٍ، وَإِنّما هم أصحاب أهواء دنيويّة، يرفعون راياتٍ جاهليّة، ويدعون إلى مبادئ ضالّة هدّامة، ويتطلّبون التزعّم على النّاس والرئاسة، يشير إلى ذلك وصفهم بالتفاهة والفسق والحقارة، فليسوا من طلاّب الحقّ، ولا من ملتمسيه بصدق، وَإِنّما هم من الأدعياء الكاذبين، الّذين لا تخفى أحوالهم على أدنى ذي بصيرة، ولو زعموا أنّهم يدافعون عن الحقّ، وينصرونه..
إنّهم أئمّة الضّلال، ومن والاهم، الّذين ابتُليت بهم هذه الأمّة، وأتباع الأهواء والشّهوات، وقادة الضّياع الفكريّ، والانحراف السلوكيّ، والفساد والإفساد الأخلاقيّ في الأرض، يؤازرهم المنافقون المتشدّقون، والجهلة بدين الله المغفّلون، الّذين قد يلبسون لباس العلم والهدى، ولكنّهم يبيعون دينهم بعرَضٍ من الدّنيا، يستخدمون علمهم لتبرير الفساد، والتماس الأعذار للسّقوط والانحراف، وخلط الحقّ بالباطل، حتّى تضيع معالم الحلال والحرام، والمعروف والمنكر في نظر العامّة..
ويتصدّر هؤلاء ميادين العمل الاجتماعيّ، والمسئوليّات الكبرى، في الوقت الّذي ينزوي الأخيار عن السّاحة، أو يُفرض عليهم الإقصاء، ويصبح أهلّ الحقّ قابضين على الجمر، يُحارَبون من أقرب النّاس إليهم، ولا يجدون على الحقّ أعواناً.
وتنقطع الجسور بين أولي العلم والبصيرة بدين الله، والغيرة على حرماته، وبين هؤلاء من أولي الظّلم والقهر، الّذين يمسكون بزمام الأمور، فلا يبقى بينهم إلاّ التّنازع والصّراع، الّذي ربّما يخفت تارةً، ويتأجّج تارةً أخرى، وتكثر الخروق في سفينة المجتمع وتتّسع، فلا يكاد أهل الحقّ يعالجون أمراً حتّى تفاجئهم أمور..
8- ويضيع العلم، ويتصدّر الرّويبضة:
ففي زمن الرويبضة تجد الأصاغر هم الّذين يتصدّون للتّعليم والفتوى، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ اللَّخْمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ثَلاثَةً: إِحْدَاهُنَّ أَنْ يُلْتَمَسَ الْعِلْمُ عِنْدَ الأَصَاغِرِ). [ 8 ]
يقول ابن القيّم رحمه الله واصفًا حال المتعالمين: "انتكست عليهم قلوبهم، وعميَ عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان، وخاضوا بحار العلم لكن بالدّعاوى الباطلة وشقاشق الهذيان، ولا ـ والله ـ ما ابتلّتْ من وَشَلِه أقدامهم، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم، ولا ابيضّت به لياليهم وأشرقت بنوره أيّامهم، ولا ضحكت بالهدى والحقّ منه وجوه الدّفاتر إذ بلت بمداده أقلامهم، أنفقوا في غير شيء نفائس الأنفاس، وأتعبوا أنفسهم وحيّروا من خلفهم من النّاس، ضيّعوا الأصول فحُرموا الوصول، وأعرضوا عن الرّسالة فوقعوا في مَهَامِه الحيرة وبيداء الضّلالة".
ويقول رحمه الله: "وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفتِي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال: ولَبعض مَن يُفتي ها هنا أحقّ بالسّجن من السُّرَّاق". قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا، وتوثّبه عليها، ومدّ باع التكلّف إليها، وتسلّقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلّة الخبرة وسوء السّيرة وشؤم السّريرة، وهو من بين أهل العلم مُنكَر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسّنة وآثار السّلف نصيب، ولا يبدي جوابًا بإحسان وإن ساعد القدر فتواه كذلك يقول فلان بن فلان.[9]
خنافسُ الأرض تجـري في أعِنَّتِها * * * وسـابحُ الخيل مربوطٌ إلى الوتـدِ
وأكرمُ الأُسْدِ محبـوسٌ ومُضطهدٌ * * * وأحقرُ الدودِ يسعى غير مضطهـدِ
وأتفهُ الناس يقضي في مصالحهمْ * * * حكمَ الرويبضـةِ المذكورِ في السنَدِ
فكم شجاعٍ أضـاع الناسُ هيبتَهُ * * * وكمْ جبانٍ مُهـابٍ هيبـةَ الأسَدِ
وكم فصيحٍ أمات الجهلُ حُجَّتَهُ * * * وكم صفيقٍ لهُ الأسـماعُ في رَغَدِ
وكم كريمٍ غدا في غير موضعـهِ * * * وكم وضيعٍ غدا في أرفعِ الجُــدَدِ
دار الزمان على الإنسان وانقلبَتْ * * * كلُّ الموازين واختلَّـتْ بمُســتندِ

في الوقت الّذي تجتاح فيه ثورات الأحرار أقطاب الوطن العربيّ، وترفض الشّعوب الاستسلام لطغيان أنظمتها فتهبّ لتستردّ كرامتها وحرّيتها المصادرة والمغتصبة من قِبل تلك الأنظمة الجائرة، تجد أنّ عجلة الإصلاح تتراجع عصوراً للوراء، ويصبح المواطن مهمّشاً مهاناً مظلوماً مبغيّاً عليه، ويصبح الوطن مُداراً من قِبل أناسٍ (يسودوا قبل أن يتفقّهوا).
نعم.. ففي زمن الرّويبضات تجد الأمانة مضاعةً والأمر يوسّد إلى غير أهله، وفي زمن الرّويبضة يصبح النّاس فوضى لا حكماء يقودونهم، بل تكون القيادة للجهّال وأنصاف المتعلّمين، وفي زمن الرويبضة يصبح من لا عقل لهم ولا حلم لديهم هم أهل الوجاهة والتّصدّر والقيادة، ويصبح العقلاء الحكماء الحلماء هم الغرباء، وفي زمن الرّويبضة يسخّر الإعلام أجهزته المرئيّة والمقروءة والمسموعة لأخبار أهل الفنّ والرّياضة والمنافقين، ويتجاهل أخبار أهل العلم والإبداع والمصلِحين.


----------------------------------
1 - [مجموع الفتاوى (28/246)].
2 - رواه مسلم (4/1973).
3 - مجموع الفتاوى: 28/248-249.
4 - أخرجه أحمد بسند حسن
5 - أخرجه مسلم.
6 - أخرجه البخاريّ
7 - أخرجه الطّبرانيّ وأحمد.
8 - رواه الطبرانيّ في المعجم الكبير? وصححه الألباني (2207) في صحيح الجامع?
9 - إعلام الموقّعين 4/186.

 

المصادر: