المربون الأوائل والمواساة المفقودة

الكاتب : سالم أحمد البطاطي
التاريخ : ١١ ٢٠١٦ م

المشاهدات : 3431


المربون الأوائل والمواساة المفقودة

الإسلام دين الفضائل والمكرمات، ودليل الجمائل والمحسِّنات، ومن مقاصده العظام إتمام مكارم الأخلاق، وتثبيت محاسن العادات والأعراف؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتممَ مكارم [وفي رواية: صالح] الأخلاق»[1]. ومن أحسن ما دعا إليه هذا الدين الحنيف خُلق المواساة؛ وهو خلقٌ طيِّبٌ وجميلٌ، ويطلق في الأصل على «المداواة والإصلاح والعلاج فكأن المواسي يعالج المواسى ويداويه ويخفف عنه ما هو فيه»[2].

وقد عرَّفها ابن مسكويه بقوله: «المواساة: معاونة الأصدقاء والمستحقين ومشاركتهم في الأموال والأقوات»[3]. وأبان الجرجاني - رحمه الله - أن المواساة «أن يُنزِل غيره منزلة نفسه في النفع له والدفع عنه»[4]. بينما وسّع ابن القيم - رحمه الله - دائرة المواساة لتشمل الجوانب الحسية والمعنوية، وذلك بذكر أنواعها، فقال - رحمه الله -: «الْمُوَاسَاة لِلْمُؤمنِ أَنْوَاع: مواساة بِالْـمالِ ومواساة الجاه، ومواساة بِالْبدنِ والخدمة، ومواساة بِالنَّصِيحَةِ والإرشاد، ومواساة بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَار لَهُم، ومواساة بالتوجع لَهُم (وعلى قدر) الْإِيمَان تكون هَذِه الْمُوَاسَاة فَكلّما ضعُف الْإِيمَان ضعُفت الْمُوَاسَاة، وَكلّما قَوِي قَوِيَتْ»[5] .

وخُلُق المواساة يدل على أصالة مَعْدنِ مَن تحلّى به، وكرَم نفسه، ودماثة خلقه، وسُمُوّ هِمَّته، ورجاحة عقله؛ بل هو من أخلاق المؤمنين وجميل صفات المحسنين.

بالمواساة تُبنى المعارف، وتتوطد العلاقات، وتتعمق الأُخوة، وتزداد المحبة وتستمر المودة والألفة، ويُحفَظ الجميل، ويَعظُم الوفاء. وبالمواساة يندحِر وَحْرُ الصدر، ويُحسَن الظن، ويُقبَل العُذر، وتقال العثرات، وتُلتَمَس الأعذار.

المواساةُ دعوةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يشجع أصحابه ويحفزهم عليها، ويثني على من تخلق بها؛ كثنائه على الأشعريين - رضي الله عنهم - فعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ؛ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ»[6]. وعندما كان صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الأخلاق الفاضلة كانت المواساة أول ما يمتثل منها؛ بل إنّ لها السبق عن غيرها، والقدَح المعلّى في تمثلها والالتزام بها، ولذا كان هذا الخلق الكريم ديدنُ حياته صلى الله عليه وسلم، فقد كان أعظمَ الناس مواساةً للناس ولأصحابه على الخصوص؛ سواء كان ذلك قبل بعثته أو بعدها، فقد وصفت خديجة - رضي الله عنها - حاله قبل البعثة بقولها: «كَلَّا وَاللهِ، مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ»[7]. وكذا بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، فقد تنوعت مواساته لأصحابه رضي الله عنهم:

1- فهناك من واساه في فتنته وابتلائه:

ومن ذلك: مروره صلى الله عليه وسلم بآل ياسر وهم يُعذَّبون، وقوله لهم: «صبرًا آلَ ياسر؛ فإن موعدكم الجنة»[8].

2- وهناك من واساه في مرضه وعلته الصحية بتفقده وزيارته:

فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: أَصَابَنِي رَمَدٌ فَعَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَلَمَّا بَرَأْتُ خَرَجْتُ، قَالَ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ عَيْنَاكَ لِمَا بِهِمَا مَا كُنْتَ صَانِعًا؟» قَالَ: قُلْتُ: لَوْ كَانَتَا عَيْنَايَ لِمَا بِهِمَا صَبَرْتُ وَاحْتَسَبْتُ. قَالَ: «لَوْ كَانَتْ عَيْنَاكَ لِمَا بِهِمَا، ثُمَّ صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ، لَلَقِيتَ اللَّهَ وَلَا ذَنْبَ لَكَ»[9].

وعَنِ ابْنِ المُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: مَرِضْتُ مَرَضًا، فَأَتَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي، وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَوَجَدَانِي أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ، فَأَفَقْتُ فَإِذَا النَّبِيُّ[10].

3- وهناك من واساه في أزمته المالية:

كما في قصة سلمان - رضي الله عنه - عندما «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي، فَقَالَ: «مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟». قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: «خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ». فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ: «خُذْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ». قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا - وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ - أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ، وَعَتَقْتُ فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ الْخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ[11].

4- ومنهم من واساه في حزنه ومصيبته:

كما في حديث معاوية بن قرة عن أبيه قال: «كَانَ نَبِيُّ اللهِ إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَلَكَ، فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَلْقَةَ لِذِكْرِ ابْنِهِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: (مَالِي لَا أَرَى فُلَانًا؟)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بُنَيُّهُ الَّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ، فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (يَا فُلَانُ، أَيُّمَا كَانَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ، أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ؟). قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَلْ يَسْبِقُنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُهَا لِي لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ. قَالَ: (فَذَاكَ لَكَ)»[12].

5- وهناك من واساه في مشكلته الاجتماعية والأسرية:

كسعيه صلى الله عليه وسلم في أمر جليبيب - رضي الله عنه - حتى زوَّجه. فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار: «(زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ) فَقَالَ: نِعِمَّ، وَنُعْمَةُ عَيْنٍ. فَقَالَ لَهُ: (إِنِّي لَسْتُ لِنَفْسِي أُرِيدُهَا). قَالَ: فَلِمَنْ؟ قَالَ: (لِجُلَيْبِيبٍ)[13]».

وكما في قصة عبد الله بن أبي حدرد - رضي الله عنه -، فقد حدّث عن نفسه أنه تزوج امرأة «فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَعِينُهُ فِي صَدَاقِهَا، فَقَالَ: (كَمْ أَصْدَقْتَ؟). قَالَ: قُلْتُ: مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. قَالَ: (لَوْ كُنْتُمْ تَغْرِفُونَ الدَّرَاهِمَ مِنْ وَادِيكُمْ هَذَا مَا زِدْتُمْ، مَا عِنْدِي مَا أُعْطِيكُمْ). قَالَ: فَمَكَثْتُ، ثُمَّ دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ، فَبَعَثَنِي فِي سَرِيَّةٍ بَعَثَهَا نَحْوَ نَجْدٍ، فَقَالَ: (اخْرُجْ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ لَعَلَّكَ أَنْ تُصِيبَ شَيْئًا فَأُنَفِّلَكَهُ)»[14].

وكذا في حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: «جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي البَيْتِ، فَقَالَ: (أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟). قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِنْسَانٍ: (انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟). فَجَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ فِي المَسْجِدِ رَاقِدٌ. فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ: (قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ)»[15].

وكذا في حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ «أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ لِعبَّاسٍ: (يَا عَبَّاسُ، أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟). فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ رَاجَعْتِهِ؟). قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: (إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ). قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ»[16].

6- ومنهم من واساه في همومه وانكساره ومسؤولياته الحياتية:

كما في حال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ، لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: (يَا جَابِرُ، أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللَّهُ لِأَبِيكَ؟)». وَقَالَ: يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ، فَقَالَ: (يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا. قَالَ: (أَفَلَا أُبَشِّرُكَ، بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ)؟، قَالَ: بَلَى: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي، فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً. فَقَالَ الرَّبُّ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ. قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169][17].

7- ومنهم من واساه بجبر خاطره وتطييبه ومراعاة مشاعره وتقديره:

ومن ذلك حديث الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ - أَوْ بِوَدَّانَ -، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ، قَالَ: (أَمَا إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ)»[18].

8- بل كان يواسي أهل وأبناء أصحابه بعد موتهم:

وذلك بتفقُّدهم وإصلاح أحوالهم؛ كما حصل مع أبناء جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه -؛ حيث أتاهم بعدما استشهد جعفر - رضي الله عنه -، «وقال: (لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ، ادْعُوا إلِي ابْنَيِ أخِي). قَالَ: فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ، فَقَالَ: (ادْعُوا إِلَيَّ الْحَلاقَ، فَجِيءَ بِالْحَلاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا مُحَمَّدٌ فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي) ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَشَالَهَا، فَقَالَ: (اللهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ، وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ). قَالَهَا ثَلاثَ مِرَارٍ. قَالَ: فَجَاءَتِ أمُّنَا فَذَكَرَتْ لَهُ يُتْمَنَا، وَجَعَلَتْ تُفْرِحُ لَهُ، فَقَالَ: (الْعَيْلَةَ تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟!)»[19].

9- ومن عجيب مواساته لأصحابه مواساته لهم بعد مماتهم:

وذلك بالدعاء والاستغفار لهم؛ كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ - أَوْ شَابًّا - فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ - فَسَأَلَ عَنْهَا - أَوْ عَنْهُ - فَقَالُوا: مَاتَ. قَالَ: (أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟). قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا - أَوْ أَمْرَهُ - فَقَالَ: (دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ). فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ)»[20].

ومن الاستقراء الماضي يتضح لنا أنه صلى الله عليه وسلم كان عظيم المواساة لأصحابه - رضي الله عنهم - في شتى الأحوال والظروف: فقد كان يواسيهم في فتنتهم وابتلاءاتهم، ويواسيهم في أمراضهم وعِلاّتهم الصحية، ويواسيهم في أزماتهم المالية ويواسيهم في أحزانهم ومصائبهم، ويواسيهم في مشكلاتهم الاجتماعية والأسرية ويواسيهم في همومهم ومسؤولياتهم الحياتية. وكذا يواسيهم بجبْر خواطرهم ومراعاة مشاعرهم؛ بل ويواسيهم في أهليهم وأبنائهم من بعدهم.

وأعظم من ذلك: أنه كان يواسيهم بعد مماتهم بالاستغفار والدعاء لهم. ومن جميل مواساته، وكريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم: أنه كان وفِيًّا مع من واساه يومًا من الدهر في نصرة هذا الدين؛ يحفظ جميله، ويشكر صنيعه، ويثني عليه بذكره وذِكر مواساته له ولو بعد حين؛ فيعلنها ولا يضمرها، ويبديها ولا يخفيها؛ وفاء لعهدهم وحفظاً لجميلهم؛ كذكره لزوجه خديجة - رضي الله عنها وأرضاها -، فعَنْ عَائِشَةَ -ر َضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: «مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ. وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ. فَيَقُولُ: (إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ)»[21].

وكان صلى الله عليه وسلم لا يذكرها إلا ويثني عليها، ويستغفر لها، فعَن عائِشَةُ - رضي الله عنها - قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ لَمْ يَكُنْ يَسْأَمُ مِنْ ثَنَاءٍ عَلَيْهَا وَالِاسْتِغْفَارِ لَهَا»[22].

وعَنها أيضًا - رضي الله عنها وعن أبيها -، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ! قَدْ أَبْدَلَكَ اللهِ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا. قَالَ: (مَا أَبْدَلَنِي اللهِ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ)»[23].

وكذكره لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ  إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: (أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ). فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ. فَقَالَ: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ) ثَلاَثًا. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لاَ، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ - مَرَّتَيْنِ -. فَقَالَ النَّبِيُّ: (إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي؟!) مَرَّتَيْنِ. فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا»[24].

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: «خَطَبَ النَّبِيُّ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ)، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ إِنْ يَكُنِ اللهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ؟! فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ العَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا. قَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ)»[25].

ومثل ذلك ذِكْره صلى الله عليه وسلم للأنصار - رضوان الله عنهم -، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: «لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللهِ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللهِ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ؛ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ. قَالَ: (فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟). قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، وَمَا أَنَا؟! قَالَ: (فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ). قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ، فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَرَكَهُمْ، فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ، فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟). قَالُوا: بَلِ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ. قَالَ: (أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟) قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وللهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ؟! قَالَ: (أَمَا وَاللهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟! أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ فِي رِحَالِكُمْ؟! فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ). قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِ قِسْمًا وَحَظًّا. ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ  وَتَفَرَّقُوا»[26].

واقتداء بالرسول المصطفى، واهتداء بالحبيب المجتبى - صلوات الله وسلامه عليه - حيث جعله الله قدوة للمسلمين، وأسوة للمؤمنين في قوله - سبحانه -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] - حَرِيٌّ بنا وجميلٌ منّا بعد ذلك أن نهتديَ بهداه ونقتفيَ أثره وخطاه ونتخلّق بخُلقه ودله، ونتأسّى بقوله وفعله.

وعليه؛ فمِن أجدر وأولى الناس مراعاةً وتطبيقًا لهذا الخلق الكريم معهم (المواساة)؛ وفاء لعهدهم، وحفظاً لجميلهم: رجالٌ كرام، ومربون أفذاذ، ومصلحون أكفاء، لهم سابقة في العمل الدعوي والتربوي، ولهم قَدَمُ صِدْقٍ في العطاء والبذل لهذا الدين، وقدّموا لشباب الأمة الكثير من العطاء، وبذلوا من أجلهم الكثير من المال والجاه والجهد؛ بل ربما أثقلوا كواهلهم بالديون من أجلهم.

كم من ليالٍ شاتيةٍ سهروا فيها إلى ساعات متأخرة من أجل محضن يخططون في إصلاحه، أو مشكلة لشابٍّ يسعون في حلها، أو برنامج للشباب يقيّمون نفعه، أو رحلة هادفة يحذقون أمرها، أو باب فساد على الشباب يغلقونه دونهم، وربما كان ذلك على حساب أنفسهم وأهليهم وأبنائهم وصحتهم وأموالهم.

ثم مرّت الأيام والليالي وتوالت السنون والأعوام وتغيرت الظروف وأصيب هؤلاء الكرام بما يصاب به بنو البشر من الفترة والضعف والعجز والكسل، والقعود والتقاعس، فإذا عطاؤهم الجميل قد تجمّد، وبذْلهم الوفير قد توقف، وهمتهم العالية قد ضعفت، وعزيمتهم المتوقدة قد انطفأت. وإذا هم قد آثروا حياة الراحة والدعة على حياة الجد والعمل؛ بل ربما تعلقت قلوبهم بلعاعة من الدنيا، فتوقفت القافلة عن المسير، وجنّبَ المسافر عن جادة الطريق. وقد يكون التغير بسبب كِبَر السن، ومرض الجسد وتغير العافية، وثِقَل الحركة وتغيّر الأدوار الاجتماعية.

إنهم وهم كذلك - وبغض النظر عن الأسباب أو الأحوال - أحوج من ذي قبل إلى مواساة كريمة من مربٍّ قرين، أو صديقٍ عزيز، أومُتربٍّ وفيٍّ يحفظ العهد ولا ينسى الجميل.

وهذه المواساة نعني بها: «تلك المشاركة الوجدانية والمساهمة المادية والمعاونة الجسدية للمربين والمصلحين الأوائل، التي تهدف لكفايتهم وسد احتياجاتهم، وقضاء لحوائجهم، وإصلاحًا لأحوالهم، ومداواة لجراحهم، وتثبيتًا لدينهم؛ حفظاً لجميلهم ووفاء لعهدهم».

ويَا لأثر لهذه المواساة!! فكم جدّدت من إيمان قد خَلَق! وكم أوقدت من همة وقوت مَن ضعُف! وحرّكت مَن وقف! وأعادت روح العطاء لباذل، ودفعت فاتر عن فتوره، وأقامت متقاعسًا عن قعوده. وكم داوتْ مِن مريضٍ! وأصلحتْ مِن عطبٍ! وأبهجت مِن نفس! وأعادت روح البسمة والتفاؤل ليائس بئيس!

إننا اليوم بحاجة ماسة أكثر من ذي قبل إلى بعْث هذا الخلق النبيل بيننا واستنهاض النفوس، وشحْذ الهمم، وتقوية العزائم؛ لكي نستبقيَ مَنْ حولنا من شبابنا وشيبنا وأن نستدركَ من تبقّى من رأس المال؛ باحتوائه، والنظر إليه بعين العطف والشفقة. كما هي الحاجة ماسّةٌ أيضًا إلى أن يتربى شباب الأمة على المواساة (مَعْرفيًّا وعمليًّا): - أما معرفيًّا: فبأنْ تساق لهم الأدلة من الوحيين على عظمة هذا الخلق الكريم وأهميته وأثره؛ كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]. يقول السعدي - رحمه الله -: «وكذلك مَن تولّى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين فإن له على من رباه حق التربية»[27].

--------------------------

[1] السلسة الصحيحة، للألباني: 45.

[2] فقه الأخلاق والمعاملات، مصطفى العدوي:23 .

[3] تهذيب الأخلاق، لابن مسكويه: 1/31.

[4] التعريفات، للجرجاني: 1/236.

[5] الفوائد لابن القيم : 1/171.

[6] أخرجه البخاري: 2486 ومسلم: 2500.

[7] أخرجه البخاري: 3.

[8] الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري: 88.

[9] رواه أحمد: 19348.

[10] أخرجه البخاري: 5651.

[11] أخرجه أحمد: 23737.

[12] أخرجه النسائي: 2088.

[13] أخرجه أحمد: 19810.

[14] أخرجه أحمد: 23882.

[15] أخرجه البخاري: 441.

[16] أخرجه البخاري: 5283.

[17] أخرجه ابن ماجه: 190.

[18] أخرجه البخاري: 2573.

[19] أخرجه أحمد: 1750.

[20] أخرجه مسلم: 956.

[21] رواه البخاري: 3818.

[22] رواه الطبراني في المعجم الكبير: 23/13.

[23] أخرجه أحمد: 24864.

[24] أخرجه البخاري: 3661.

[25] أخرجه البخاري: 466.

[26] أخرجه أحمد: 11730.

[27] تيسير الكريم الرحمن، لابن سعدي: 1/456.

 

 

مجلة البيان العدد  349

المصادر: