صنائع المعروف

الكاتب : رابطة خطباء الشام
التاريخ : ٣٠ ٢٠١٥ م

المشاهدات : 9088


 صنائع المعروف

مقدمة:

عزيزٌ على النفس الكريمة المؤمنة أن ترى مسكيناً بليت ثيابه حتى تكاد تُرى عورته، أو تبصر حافيَ القدمين أدمت حجارة الأرض أصابعه وقطعت عقبيه، أو تلحظ جائعاً يمدُّ عينيه إلى شيءِ غيرِه فينقلب إليه البصر خاسئاً وهو حسير.
حين تفشو مثلُ هذه الأحوال، ثم لا يكترث القادرون، ولا يهتمُّ الموسرون فكيف يكون الحال؟ وأين وازع الإيمان؟!

1- خلق الله المعروف وخلق له أهلاً

فقد جرت سنة الله تبارك وتعالى في البشر أن جعل بعضهم لبعضٍ سُخريّاً، لا تتم لهم سعادتهم إلا بالتعاون والتواصل، ولا تستقر حياتهم إلا بالتعاطف وفشو المودة، يرفق القويُّ بالضعيف، ويُحسن المكثر على المقلِّ، ولا يكون الشقاء ولا يحيق البلاء إلا حين يفشو في الناس التقاطع والتدابر، ولا يعرفون إلا أنفسهم، ولا يعترفون لغيرهم بحق.

إنَّ الله برحمته حين خلق المعروف خلق له أهلاً، فحبَّبه إليهم، وحبَّب إليهم إسداءه، وجَّههم إليه كما وجَّه الماء إلى الأرض الميتة فتحيا به ويحيا به أهلها، وإن الله إذا أراد بعبده خيراً جعل قضاء حوائج الناس على يديه، ومن كثرت نعم الله عليه كثر تعلق الناس به، فإن قام بما يجب عليه لله فيها فقد شكرها وحافظ عليها، وإن قصَّر وملَّ وتبرَّم فقد عرَّضها للزوال ثم انصرفت وجوه الناس عنه.
وقد ورد في الحديث: (إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع عباده يقرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم وحولها إلى غيرهم)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (ما من عبد أنعم الله عليه نعمةً وأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرَّم فقد عرَّض تلك النعمة للزوال)

2- الجزاء من جنس العمل

إن في دين الله شرائع محكمةً لتحقيق التواصل والترابط، تربي النفوس على الخير، وترشد إلى بذل المساعدات وصنائع المعروف.

ففي الخبر الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)
وفي الصحيحين أيضاً: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)
ولعِظَم الأمر ودقَّتِه فقد قال أهل العلم: إن تفريج الكروب أعظم من تنفيسها؛ إذ التفريج إزالتها، أما التنفيس فهو تخفيفها، والجزاء من جنس العمل، فمن فرج كربة أخيه فرج الله كربته، والتنفيس جزاؤه تنفيس مثله.
والتيسير على المعسر في الدنيا جزاؤه التيسير من عسر يوم القيامة، وحسبك في يومٍ قال فيه ربُّ العزة: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر 9-10]
وقال سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان  9 - 12]
وفي صحيح مسلم: (من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه)
(من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه)

والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً. وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعباده. وصنائع المعروف تقي مصارع السوء.
ولقد قال بعض الحكماء: أعظم المصائب أن تقدر على المعروف ثم لا تصنعه.
والغبطة في من يسَّر الله له خدمة الناس وأعانه على السعي في مصالحهم.

3- كثرة طرق الخير وسهولتها:

إن دروب الخير كثيرة وحوائج الناس متنوعة؛ إطعام جائعٍ، وكسوة عارٍ.. عيادة مريضٍ، وتعليم جاهل.. وإنظار معسر، وإعانة عاجز، وإسعاف منقطع.. تطرد عن أخيك هماً، وتزيل عنه غماً.. تكفل يتيماً، وتواسي أرملة.. تكرم عزيز قومٍ ذلَّ، وتشكر على الإحسان، وتغفر الإساءة.. تسعى في شفاعة حسنة تفك بها أسيراً، وتحقن بها دماً، وتجرُّ بها معروفاً وإحساناً.

كل ذلك تكافلٌ في المنافع وتضامنٌ في التخفيف من المتاعب.. وتأمينٌ عند المخاوف، وإصلاحٌ بين المتخاصمين، وهدايةٌ لابن السبيل. فإن كنت لا تملك هذا ولا هذا فادفع بكلمةٍ طيبةٍ وإلا.. فكُفَّ أذاك عن الناس.
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة)
نعم أيها الإخوة: كل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة. والصدقة تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، والمال إن لم تصنع به معروفاً أو تقضي به حاجة وتدخر لك به أجراً فما هو إلا لوارث أو لحادث، وصنائع البر والإحسان تُستعبد بها القلوب.
والشحيح البخيل كالح الوجه يعيش في الدنيا عيشة الفقراء ويحاسب يوم القيامة حساب الأغنياء، فلا تكن أيها الموسر القادر خازناً لغيرك.‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
-إن صفو العيش لا يدوم، وإن متاعب الحياة وأرزاءها ليست حكراً على قومٍ دون قوم، وإن حساب الآخرة لعسير، وخذلان المسلم شيء عظيم.
والمسلمون هانوا أفراداً وهانوا أمماً حين ضعفت فيهم أواصر الأخوة، ووهت فيهم حبال المودة، عندما تستحكم الأنانيات وتستغلق المسالك على أصحاب الضوائق.
بل إن بعض غلاظ الأكباد وقساة القلوب ينظرون إلى الضعيف والمحتاج وكأنه قذى في العين.. يزلقونه بأبصارهم في نظرات كلها اشمئزاز واحتقار، ألا يعتبر هؤلاء بأقوام دار عليهم الزمان وعَدَت عليهم العوادي، واجتاحتهم صروف الليالي... فاستدار عزهم ذلاً، وغناهم فقراً، ونعيمهم جحيماً؟‍‍‍‍‍‍‍‍.
إن ميادين الخير متنوعة المصادر والموارد ، وأعمال البر مختلفة المسارب والمشارب ، و للمعروف صنائع تقي سوء المصارع ،ومن استطاع استكثر قبل التحويل ، واستبضع استعداداً للرحيل، لكن من استقل مع المداومة فاز، ومن داوم وصبر وصابر جاز ، والله صاحب الفضل أولاً وآخرا ، وظاهراً وباطنا،
وهذا عمل قليل لكنه بالتوحيد لله والتمجيد مع إخلاص النية إنه لعظيمٌ وكثير.

4- نماذج حية:

هذا رجلٌ لا كالرجال، إنه خَبِرَ فألزم نفسه -ومن يصبر يصبره الله- ، إنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه أبو ذر رضي الله عنه، دخل عليه رجلٌ من أهل الشام وهو يوقد تحت قدر من حطب قد أصابه مطر ودموعه تسيل، فقالت امرأته: قد كان لك عن هذا مندوحة لو شئت لكُفِيت، فقال أبو ذر: وهذا عيشي فإن رضِيتِ وإلا فتحتُ كنفَ الله.
قال: فكأنما ألقمها حجرا، حتى إذا نضج ما في قدره جاء بصحفة له، فكسر فيها خُبزَة ًله غليظة، ثم جاء بالذي في القدر فكدره عليه، ثم جاء به إلى امرأته، ثم قال لي: اُدنُ، فأكلنا، ثم أمر جاريته أن تسقينا فسقتنا مَذقةً من لبن معز له، فقلت: يا أبا ذر: لو اتخذت في بيتك شيئا، فقال يا عبد الله: أتريد لي من الحساب أكثر من هذا، أليس هذا مثالاً نفترشه، وعباءةً نبتسطها، وكساءًا نلبسه، وبرمةً نطبخ فيها، وصحفةً نأكل فيها، ونغسل فيها روؤسنا، وقدحاً نشرب فيه، وعُكةً فيها زيت أو سمن، وغرارةً فيها دقيق، فتريد لي من الحساب أكثر من هذا؟
قلت: فأين عطاؤك أربع مئة دينار، وأنت في شرف من العطاء، فأين يذهب؟
فقال: أما إني لن أُعَمِّيَ عليك، لي في هذه القرية ثلاثون فرسا فإذا خرج عطائي اشتريت لها علفا، وأرزاقا لمن يقوم عليها، ونفقة لأهلي، فإن بقي منه شيء اشتريت به فلوسا فجعلته عند نبطي ها هنا، فإن احتاج أهلي إلى لحم أخذوا منه، وإن احتاجوا إلى شيء أخذوا منه، ثم أحمل عليها في سبيل الله، فهذا سبيل عطائي ليس عند أبي ذر دينار ولا درهم)
طوبى لمن أقبل على دخائل النفس فزكاها، والويل لمن عظم نفسه فدساها، فالنفس بذكر الله قوامها ومغناها، والاسترسال في مرضاتها يهلك من سعى في هواها، والمؤمن مرآة أخيه المؤمن، كيف أنت من أخيك وكيف أخوك منك هو مكانتك عند الله، فمن كان من أهله فله الإكرام، ومن لم يكن فله ما للئام، فإياي وإياكم إلا من الخير، والصبر الصبر فهو بلا ريب مفتاح الجنان، ومرضاة الرحمن، وفقنا الله لصالح القول والعمل، وجنبنا الخطأ والزلل.
رجلٌ آخر من الصحابة رضي الله عنهم، فقد روي الطبراني في الكبير عَنْ عَوْنِ بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ لأَبِي الْيَسَرِ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَأَتَاهُ يَتَقَاضَاهُ فِي أَهْلِهِ، فَقَالَ لِجَارِيَةِ: قُولِي: لَيْسَ هُوَ هَهُنَا، فَسَمِعَ صَوْتَهُ، فَقَالَ: اخْرُجْ قَدْ سَمِعْتُ صَوْتَكَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟، قَالَ: الْعُسْرَةُ، قَالَ: اللَّهَ؟، قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: اذْهَبْ فَلَكَ مَا عَلَيْكَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، كَانَ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ كَنَفِ اللَّهِ)

----------------------------
1 - الطبراني في الكبير / 13925، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن لغيره.
2 - الطبراني في الأوسط / 7559، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب
3 - مسلم / 2699
4 - البخاري /2442، ومسلم / 2580
5 - مسلم /1563
6 - مسلم/ 3006
7 - الترمذي / 1956، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
8 - الزهد والرقائق لابن المبارك / 589
9 - الطبراني في المعجم الكبير/ 5022

المصادر: