مفارقات المصالح الإقليمية والدولية في سوريا

الكاتب : حسين عبد العزيز
التاريخ : ٧ ٢٠١٥ م

المشاهدات : 2633


مفارقات المصالح الإقليمية والدولية في سوريا

تحولت الجغرافيا السورية إلى ساحة اشتباك مفتوحة، ليس بين الأطراف المحلية والإقليمية والدولية المتحاربة فحسب، بل أيضا بين الحلفاء أنفسهم، بحيث أصبح من الصعب تحديد خطوط التماس السياسي والعسكري.

بين أطراف الأزمة الإقليميين والدوليين تباينات كبيرة، لكن بينها تقاطعات سياسية، وبين حلفاء المعارضة تفاهمات واسعة، لكن بينهم خلافات عميقة أيضا، ويمكن القول بكثير من الثقة إن هذه الخلافات ألحقت أضرارا فادحة بالثورة السورية أكثر بكثير مما ألحقه بها أعداؤها.

هذا الواقع أفرزته حدة التباينات بين مختلف الأطراف، إن على صعيد الأهداف القريبة والبعيدة، أو على صعيد الآليات والوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف.

بين روسيا وأميركا:
تكاد العلاقة الأميركية الروسية حيال الأزمة السورية تثير السخرية، فكلتاهما تصدران خطابا سياسيا متناقضا، في وقت تمارسان فيه أسلوبا متناغما، لا يمكن وصفه إلا بأنه تبادل للأدوار في سوريا.
واشنطن تقدم خطابا ملتبسا ومتذبذبا، فلا هي مع بقاء الأسد في الحكم، ولا هي مع تدخل عسكري يهدف إلى إسقاطه، ولا هي مع دعم المعارضة المسلحة بالأسلحة النوعية، ولا هي مع القضاء عليها.

موسكو -في المقابل- تعلن عدم تمسكها بشخص الأسد وأنها تدعم الدولة، لكنها في الواقع تقدم الدعم السياسي والعسكري اللازم للنظام وشخص الأسد، وتؤكد أن هدفها محاربة الإرهاب لا محاربة "الجيش الحر"، في وقت تضرب فيه بقوة فصائل تابعة له.

تلاقت المصالح الروسية الأميركية في عدم إسقاط النظام بالقوة العسكرية، سواء أكان من الداخل أم من الخارج. فعلى المستوى الأميركي، هناك خشية من انهيار الدولة ومؤسساتها كما جرى في العراق بُعيد الغزو الأميركي، وإلى حد ما في ليبيا، الأمر الذي قد يؤدي إلى حرب طائفية وربما إثنية، سرعان ما تتجاوز الحدود الجغرافية السورية. وعلى المستوى الروسي، هناك خشية من سقوط أهم حليف لها في المنطقة، وخسارة الورقة الإستراتيجية الكبرى خارج حدودها الإقليمية.

كما تلاقت مصالح العاصمتين في إعطاء الأولوية لمواجهة "الإرهاب"، كل لأسبابه، ولذلك يمكن القول إن التدخل العسكري الروسي في سوريا جاء بموافقة أميركية، أو على الأقل نتيجة غض واشنطن طرفها عن هذا التدخل، فلا مانع لدى الولايات المتحدة من تدخل عسكري روسي يستنزف قدرتها ويضرب في الوقت نفسه داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) وبعض حلفاء المعارضة المسلحة كـ "جبهة النصرة" المدرجة على قائمة الإرهاب الأميركية، و"أحرار الشام"، وغيرهما من القوى التي تشك الإدارة الأميركية في توجهاتها المستقبلية.

وعند مسألة محاربة الإرهاب يحدث التقاطع الأميركي الروسي مجددا: موسكو ترى بقاء النظام السوري مسألة ضرورية لنجاح مهمة محاربة الإرهاب، بينما تعتقد واشنطن أن بقاء النظام لا يسهم في إنجاح محاربة الإرهاب، لكن إسقاطه يساعد على انتشاره، ولذلك ترفض إدارة أوباما محاولات الروس إعادة تأهيل النظام السوري و"شرعنة" وجوده من بوابة محاربة الإرهاب.

لا يعني ذلك عدم وجود خلافات بين الجانبين؛ الخلاف الروسي الأميركي الحقيقي متعلق بالرؤية الإستراتيجية الكبرى لموقع سوريا الجيوإستراتيجي، وطبيعة الأساليب التي يجب اتباعها لإنهاء الأزمة السورية.

تقوم المقاربة الأميركية على إطالة أمد الأزمة من أجل القضاء نهائيا على موقع سوريا في معادلات المنطقة، خاصة تلك المتعلقة بإسرائيل، فاستمرار المعارك فرصة تاريخية للولايات المتحدة وإسرائيل لن تتكرر، إذ تضعف مكانة سوريا الإقليمية، وتستنزف إيران و"حزب الله"، وتقلص التدين الإسلامي المتطرف (السلفية الجهادية، المليشيا الشيعية)، الأمر الذي يقلص فرص تورط إسرائيل بشكل مباشر، مما يمكنها من تحقيق مصالحها بصمت، ودون دفع أثمان سياسية وأمنية كبيرة، وفق ما صرح به أحد الدبلوماسيين الإسرائيليين.

روسيا -في المقابل- تبدو مستفيدة من هذا الوضع، فسوريا ضعيفة تحتاج إلى روسيا أكثر، وسوريا ضعيفة تعني تواجدا سياسيا وعسكريا روسيا أكثر وأوسع، وتجربة العقد الماضي واضحة، حيث تراجعت العلاقة بين البلدين لصالح أطراف غربية.

لكن بين البلدين خلافات على الصيغة النهائية للأزمة، ففي حين تحاول موسكو فرض منطق القوة على طبيعة التسوية النهائية من خلال إصلاحات سياسية تحت سقف الأسد، على أن يترك مصيره للشعب السوري نفسه، ترفض واشنطن منطق القوة لصالح قوة المنطق.

بعبارة أخرى، تقوم المقاربة الأميركية على الفصل الحاد بين الميدان والسياسة، أو نتائج المعارك العسكرية ونتائج مفاوضات السلام، وهنا تبدو مقولة كلاوزفيتز "إن الحرب امتداد للسياسة وإن بوسائل أخرى" مقولة غير تاريخية بالنسبة لواشنطن في الحالة السورية، فهدف استمرار المعارك يتجاوز مسألة بقاء الأسد أو خروجه من السلطة، فالأسد لا يمكن أن يكون جزءا من مستقبل سوريا، على ما في هذه العبارة من غموض.

حلفاء المعارضة:
تشكل الولايات المتحدة والسعودية وتركيا وقطر نواة الحلف الداعم للمعارضة السورية، لكن اختلاف مواقع هذه الدول جغرافيا وتباين تحالفاتها ومصالحها جعلتها تشترك تحت عنوان عام معاداة الأسد ونظامه ودعم المعارضة، وتختلف بشأن كيفية تحقيق هذا الهدف.

وقد بينت الأزمة السورية أن الخلافات التكتيكية قد أثرت سلبا على الهدف الكبير، وبدا التباين واضحا وحادا أحيانا بين هذه الدول: العواصم الإقليمية الثلاث دفعت قدما في تحقيق حل عسكري لإسقاط النظام، لكنها اصطدمت بالموقف الأميركي الرافض لذلك.

أثر هذا الخلاف على طبيعة التحالفات الداخلية في سوريا، فكل دولة تدعم بعض الأطراف الداخلية في سوريا، وقد شكلت مجمل هذه القوى حالة خوف بالنسبة لواشنطن بسبب خشيتها من التوجهات الجهادية السلفية لبعض هذه الفصائل، كما خشيت في الوقت عينه أن يتحول "الجيش الحر" إلى قوة يأخذ حسابها بحيث يتحول إلى نواة جيش وطني من شأنه أن يتحول إلى نواة جذب للقوى الأخرى، وهذا ما لا تريده الإدارة الأميركية.

لم تقتصر التباينات على العلاقة مع الولايات المتحدة، بل شملت العواصم الإقليمية الثلاث في ما بينها، وكان الإخوان المسلمون هم عنوان الخلاف، وانعكس هذا الأمر سلبا على المستويين السياسي ممثلا في أداء الائتلاف ومكوناته، وعلى المستوى الميداني في طبيعة العلاقة التي ربطت الفصائل المسلحة المدعومة من العواصم الإقليمية.

لكن التفاهم بين العواصم الثلاث (تركيا والسعودية وقطر) الذي حدث بداية العام الجاري، وتوّج بتشكيل "جيش الفتح" الذي استطاع السيطرة على محافظة إدلب وتغيير قواعد اللعبة لأول مرة لصالح المعارضة منذ منتصف 2013، أرعب الحليف الأميركي بقدر ما أرعب النظام وحلفاءه.

وجاء التدخل العسكري الروسي في المقام الأول للحد من اندفاعة الفاعلين الإقليميين الداعمين للمعارضة، وليطلق حربا بالوكالة بين أطراف النزاع، وجدت فيها واشنطن فرصة لاستنزاف الجميع، ولذلك سمحت للسعودية وقطر وتركيا بتزويد فصائلها بالأسلحة اللازمة لمواجهة النظام وداعميه دون أن يتم تزويدهم بأسلحة ذات نوعية عالية جدا قادرة على مجابهة السلاح الروسي.

وأمام هذا الوضع كان لا بد لواشنطن من البحث عن حلفاء محليين معتدلين من وجهة نظرها، بعيدا عن حلفائها (الرياض، والدوحة، وأنقرة)، ووجدت الولايات المتحدة مؤخرا في التحالف الكردي العربي (قوات سوريا الديمقراطية) الصيغة المثلى: قوى ليس هدفها محاربة قوات الحكومة السورية، لكنها في الوقت نفسه ليست حليفة معه، هدفها محاربة "داعش" وإقامة منطقة تكون معقلا لها بعيدا عن الصراعات الأخرى.

ومن شأن هذه القوى أن تحد من توسع الفصائل الإسلامية ذات التوجهات السلفية والجهادية مثل "جبهة النصرة" وأحرار الشام" وغيرهما، كما هي ورقة يمكن اللعب بها لمواجهة الطموحات المنفعلة لتركيا في سوريا.

تناقضات المشهد الداخلي:
أربع قوى داخلية في سوريا اختزلت الصراع الإقليمي والدولي (النظام وحلفاؤه، ومعارضة مسلحة يغلب عليها الطابع الإسلامي، و"داعش"، والقوات الكردية)، لكن لكل قوى أولوياتها:

ـ النظام هدفه الأول القضاء على الفصائل المعارضة له في محاولة لجعل الصراع بينه وبين الإرهاب ممثلا في "داعش"، ولذلك لم تجر معارك حقيقية بينه وبين تنظيم الدولة سوى تلك المتعلقة بالوجود الكردي، حيث وقف إلى جانب الأكراد في القامشلي ضد تنظيم الدولة.

ـ المعارضة المسلحة لديها هدفان رئيسيان: النظام و"داعش"، وتفترق مع الأكراد حول الهدف الأول، وتتلاقى معهم حول الهدف الثاني.

ـ الأكراد لديهم هدف رئيسي يتمثل في تحقيق مصالحهم الذاتية، ولذلك فإن عدوهم الأول هو تنظيم الدولة، وحليفهم الأول هو النظام.

ـ أما تنظيم الدولة، فله عدوان رئيسيان: الوحدات الكردية التي زاحمته على الأرض، والمعارضة المسلحة ذات الشق الإسلامي، في حين يبقى النظام عدوا نظريا.

 

 

الجزيرة

المصادر: