مفاهيم لترشيد الجهاد (1): لا يفتي قاعد لمجاهد!

الكاتب : عماد الدين خيتي
التاريخ : ١٢ ٢٠١٥ م

المشاهدات : 6507


مفاهيم لترشيد الجهاد (1): لا يفتي قاعد لمجاهد!

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
اشتهرت مقولة (لا يفتي قاعد لمجاهد) على ألسنة العديدين حتى ظنها البعض من القواعد الفقهية، أو الأصول الشرعية التي يُعرف بها الحق، وسلَّطها آخرون على مخالفيهم من الناصحيين، أو ناقدي فكر الغلو عند بعض الجماعات المسلحة، فما أصلها؟ وما صحتها؟

(1)

هذه العبارة (لا يفتي قاعد لمجاهد) ليست من الأصول الشرعية، ولا القواعد المعتبرة، وليس لها أصلُ من نصوص القرآن أو السنة، أو أقوال أهل العلم، بل هي من البدع المُحدثة، التي تخالف جميع ذلك.
فقد وضع أهل العلم شروطًا للفتوى مستمدةً من الكتاب والسُّنَّة, ولم يذكروا أنَّ من شروط المفتي أن يكون مقاتلاً أو مجاهدًا، أو أن يقيم بمناطق الثغور، بل إنَّ العالمِ يُؤخذ بقوله أيًا كان موقعه، والجاهل يُترك قوله أيا كان موقعه وعمله، فالإصابة في الفتوى ليست منوطة بالجهاد، وإنما بالاستدلال وطرائقه.
والكثير من الأئمة وأهل العلم لم يكونوا من أهل الغزو، كالأئمة الأربعة، إلا أنَّ ما كتبوه، وأفتوا به في باب الجهاد كان وما يزال عمدةً في الفقه الإسلامي، ومرجع العلماء في كل العصور.
وإنما يجب على الفقيه أن يعرف حقيقة ما يفتي به معرفة حقيقية تُمكنه من تصور المسألة تصورًا صحيحًا، يبني عليها الحكم الشرعي.
قال ابن القيم رحمه الله: "ولا يتمكن المفتي، ولا الحاكم، من الفتوى، والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
  أحدهما: فهْم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع، بالقرائن، والأمَارات، والعلامات، حتى يحيط به علمًا .
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع, وهو فهم حكم الله الذي حكم به، في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر" [إعلام الموقعين (1/96)].
وتصوُّر المسألة يحصل بالنقل والإخبار، ولا يُشترط وجود العالم أو الفقيه في مكان الحدث وزمانه، ووقوفه الشخصي عليه، وما زال أهل العلم والفتوى يجيبون ويفتون عما يُرسل إليهم من المسائل وهم في بلدانهم، بل ربما ألفوا الكتب الطوال في الإجابة عن ذلك.

(2)

في هذه المقولة تفضيل للمجاهد على العالم، ومع فضل الجهاد والمجاهد إلا أن للعالم فضلًا ومكانة في الإسلام لا يدانيها أحد غيره؛ لما يحمله من العلم بدين الله تعالى والفقه به، ونصوص القرآن والسنة مشهورة معلومة في ذلك، ومنها:
- قوله تعالى: {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَائِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
قال ابن كثير رحمه الله: "قَرَنَ شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال: {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ} وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام" [تفسير ابن كثير (2/24)].
وقال ابن القيم رحمه الله: "استشهد سبحانه بأولي العلم على أجلّ مشهودٍ عليه وهو توحيده، وهذا يدلّ على فضل العلم وأهله" [مفتاح دار السعادة (1/48)].
- وقد شهد النبي r للعلماء بوراثة علم ومكانة الأنبياء، فقال: (وإن فضلَ العالمِ على العابِدِ كفضل القَمَرِ ليلةَ البدرِ على سائر الكواكِبِ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء)  [رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه].
- ومهما بلغ المجاهد في سبيل الله –تعالى- من الأجر والفضل فإنَّ للعالم فضلاً يفوق ذلك؛ فالجهاد نوعٌ من العبادة، وفضل العالم على العابد كبير، وما جاء من أحاديث أنَّ أفضل الأعمال الجهاد، كحديث: (قِيلَ يَا رسولَ الله أيُّ النَّاسِ أفْضلُ؟ فقالَ رسولُ الله r : مُؤمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ الله بِنَفْسِهِ ومالِهِ)[رواه البخاري، ومسلم]، فلا تعني الأفضلية على الإطلاق، وقد بيَّن أهل العلم المراد بذلك:
قال العيني رحمه الله: "قالوا: هذا عامٌ مخصوص تقديره: هذا من أفضل الناس؛ وإلا فالعلماء أفضل، وكذا الصديقون كما جاءت به الأحاديث" [عمدة القاري شرح صحيح البخاري (14/83)].
وقال القسطلاني رحمه الله: "وعند النسائي: (إِنَّ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ رَجُلًا عَمِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ) بمن التبعيضية، وذلك يُقوي قول من قال: إن قوله: (مُؤمِنٌ يُجَاهِدُ) المقدَّر بقوله: (أفضل الناس)؛ مؤمن يجاهد" عام مخصوص، وتقديره: من أفضل الناس؛ لأنَّ العلماء الذين حملوا الناس على الشرائع والسنن وقادوهم إلى الخير أفضل" [إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (5/34)].
وقال ابن القيم رحمه الله: "وإنما جُعل طلب العلم من سبيل الله لأنَّ به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسِّنان، وهذا المشارك فيه كثير، والثاني الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه".
ثم قال بعد كلام طويل:
وجاء عن بعض الصحابة رضى الله عنهم: "إذا جاء الموتُ طالبَ العلم وهو على هذه الحال مات وهو شهيد، وقال سفيان بن عيينة: من طلب العلم فقد بايع الله عز وجل، وقال أبو الدرداء: من رأى الغدو والرواح إلى العلم ليس بجهاد فقد نقص في عقله" [مفتاح دار السعادة (1/70)].

(3)

على فرض علم المجاهدين بالواقع الجهادي فإنَّه لا يعني معرفتهم بالحكم الشرعي لهذا الواقع، أو أحقيتهم بالفتوى فيه؛ إذ الحكم الشرعي يؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله r ، والعارف بهما هو العالم.
قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْم الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 82].
فمسائل الشرع لا يُقدَّم فيها قول المجاهد على العالم، ولا يعتبر قول المجاهد إلا أن يكون من أهل العلم والفتوى، بل ولا يقدَّم قول عالمٍ في الثغور على عالمٍ غيرِ مجاهدٍ في مسائل الشرع والتأصيل لمجرِّد مكان وجوده.
أما العمل العسكري الميداني من خطط للمعارك، وتدريب الجند، وتوزيعهم على الكتائب، وتقسيم الجيوش، وأنواع الأسلحة، ونحو ذلك  مما هو من طبيعة سير الجهاد والقيادة، فيعود تقديره إلى أصحابه، وهذا لا ينازعهم فيه العلماء.

(4)

لو كان تقديم قول المجاهد على العالم صحيحًا لادَّعى أصحاب المهن والأعمال الأخرى أنه لا يُؤخذ إلا بفتوى من يعمل عملهم أو من هو قريب من صنعتهم، كالطبيب الذي لا يأخذ إلا بفتوى طبيب مثله، والصانع الذين لا يأخذ إلا بفتوى صانع مثله، وكذا التاجر، والمزارع، وغيرهم، وهذا قول بيِّن الفساد والبطلان.
ومازال أهل تلك الصنائع والمهن والتخصصات المختلفة يرجعون لأهل العلم، ويُصوِّرون لهم المسائل ويُقرِّبونها؛ ليتمكن أهل العلم من إفتائهم فيها.
وكذلك فإنَّ مؤسسات البحث العلمي والإفتاء ترجع إلى أهل التخصص في كل باب؛ للسؤال عما يخفى عليهم مما يتعلق بالمسائل التي يبحثونها؛ حتى تكون أبحاثهم وفتاواهم مبنية على تصور صحيح.

(5)

مآل هذه المقولة (لا يفتي قاعد لمجاهد) ردُّ أقوال العلماء الثقات الأثبات المعروفين، والأخذ بأقوال من لم ترسخ قدمه في العلم، ولم يُعرف بفقهٍ ولا علم، فيحصل بذلك الانحراف، كما قال r : (إنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) [رواه البخاري، ومسلم].
ولا يُؤخذ بقول كلِّ من ادَّعى العلم أو حفظ شيئًا منه أو قيل عنه ذلك من محبيه، أو أطلقت عليه ألقاب التعظيم والتفخيم والتجديد، فلا بدَّ أن يكون ممن شهد له أهل عامة العلم الراسخون بالعلم، والقدرة على الفتيا، ولا يكفي في ذلك شهادته أقرانه أو فصيله، أو من على منهجه. قال النووي رحمه الله: "ولا يُتعلَّم إلا ممن تكمَّلت أهليته، وظهرت ديانته وتحقَّقت معرفته، واشتهرت صيانته؛ فقد قال محمد بن سيرين ومالك بن أنس وغيرهما من السلف: هذا العلم دين فانظروا عمَّن تأخذون دينكم" [التبيان في آداب حملة القرآن (1/47)].
وقد حدَّث أبو الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "أَدْرَكْتُ بِالْمَدِينَةِ مِائَةً، كُلُّهُمْ مَأْمُونٌ [أي من الكذب]، مَا يُؤْخَذُ عَنْهُمُ الْحَدِيثُ، يُقَالُ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ" [رواه مسلم].
فإذا كان هذا من عُرفت ديانته وأمانته، فكيف بالمجاهيل الذين لا يُعرفون، ولا يُعرف أهل سنة هم أم أهل بدعة؟ قال ابن سيرين رحمه الله: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم، فَيُنْظَرُ إلى أهل السنة فَيُؤْخَذُ حديثهم، وَيُنْظَرُ إلى أهل البدع فلا يُؤْخَذُ حديثهم".

والخلاصة: أنَّه يجب الرجوع لأقوال العلماء الثقات الأثبات, وأخذ الفتوى عنهم في جميع المسائل حتى الجهادية منها, سواء كانوا ممن حمل السلاح أم لا؛ فالعبرة بصحة الاستدلال ممن هو أهل لذلك, أما مجرد حمل السلاح فلا أثر له في قبول العلم, أو صحة الفتوى.

 

 


====================================
أصل هذه المقالة من كتاب (شُبهات تنظيم "الدولة الإسلامية" وأنصاره والرَّد عليها)، الشبهة الأولى.

المصادر: