معارك جبهة حلب الشرقية صراع وجود

الكاتب : مركز رشد للدراسات والتدريب
التاريخ : ٦ ٢٠١٣ م

المشاهدات : 6836


معارك جبهة حلب الشرقية صراع وجود

أمران يتدخلان في تحويل معركة عسكرية إلى معركة شرسة يضع فيها الخصمان كامل ثقلهما ويستميتان في كسبها.
الأمر الأول عسكري، حين تحدد نتائجُ المعركة من يتحكم بخطوط الإمداد العسكرية للطرفين.
والأمر الثاني سياسي، حين تغدو المكاسب السياسية مرتبطة بنتائج معركة عسكرية.

 


معارك جبهة حلب الشرقية تداخلت فيها الدوافع العسكرية والسياسية، وتحولت إلى معركة وجود ومصير وضع فيها الطرفان كامل ثقلهما، وهي تعتبر حدثًا فاصلاً في الثورة السورية في حلب.. لها ما بعدها.
تحرك النظام السوري للسيطرة على الجبهة الشرقية لحلب المحررة ووجّه إليها كامل ثقله ورأس حربته، فقد طمح أن يكسب من خلال هذه المعركة تفوقًا سياسيًا وعسكريًا.
على الرغم من أننا لن نهمل الدواعي السياسية لمعركة شرق حلب، فإننا سنركز في هذا التحليل على الجانب العسكري­ وتكتيكاته ونتائجه لدى الجانبين؛ النظامي، والثوري.
ليس بخافٍ أن قوة الجيش ومنعته في موقعه تكمن في عصب الإمداد إليه، فإذا قطع عنه الإمداد باتت القوة لعدوه. إن ما حصل أخيرًا في حلب على الجبهة الشرقية، وخاصةً في منطقة النقارين، هو امتداد لعملية سابقة هدف النظام من خلالها إلى استعادة طريق إمداده إلى قلب حلب المحتلة مرورًا بمعامل الدفاع في السفيرة وغيرها من المواقع العسكرية على أطراف حلب كمطار حلب الدولي، ومطار كويرس العسكري.
ولأجل ذلك مثّلت معركة الجبهة الشرقية صراعًا مستميتًا بين قوات الأسد والثوار على طريق الإمداد، وأيهما يسيطر على الطريق يستطيع أن يحقق أهدافًا إستراتيجية حاسمة.

أهداف النظام العسكرية من معارك الجبهة الشرقية:
للسيطرة على طريق الإمداد احتلت قوات الأسد مدينة السفيرة تقصد من خلال ذلك تحقيق ثلاثة أهداف عسكرية:
-الأول: قطع طريق الإمداد عن كتائب الثوار في الريف الجنوبي لحلب معقل العملية الأخيرة.
-الثاني: تأمين طريق الإمداد إلى داخل حلب المحتلة من خناصر، وفكّ الحصار الخانق عن معامل الدفاع وصولاً إلى مطار حلب المدني المحاصر بدوره من فترة طويلة.
-الثالث: محاصرة خانقة للثوار والمدنيين في حلب/المدينة المحررة عبر قطع طريق الإمداد عنها، وإغلاق معابرها إلى الريف الذي يصلها بالمعابر الدولية.

وقد استطاعت قوات النظام كسب الأفضلية في الأيام الأولى من العملية بالاستعانة بمجموعة من العناصر:
1- الحرب النفسية وبثّ الإشاعات. فقد روج النظام وعملاؤه في المناطق المحررة بأن هذه المعركة هي معركة الحسم، وأن النظام قد حشد لها الآلاف، ويحضر لأخذ الطريق الشرقي لحلب المحررة برأس حربته الذي لا يمكن التصدي له.
وقد لعبت قناة حلب اليوم الإخبارية المحسوبة على الثورة دورًا بارزًا في الترويج لهذه لأخبار الحملة العسكرية وتهويل أعداد المقاتلين فيها، ما أدى إلى انتشار الفزع بين الناس وتسبب في حركة نزوح كبيرة بين الأهالي.
2- عنصر المباغتة والمفاجأة الذي أربك صفوف الثوار حقًا في الأيام الأولى، وأظهر ضعفهم في الاستجابة للمتغيرات العسكرية، وتسبب في سقوط عدد كبير من الشهداء في صفوفهم.
وبقي الثوار في حالة ذهول واستنفار عسكري غير منظم طيلة أسبوع كامل حتى أنشئت غرفة عمليات خاصة بتلك الجبهة.
3- الخلايا النائمة التي كشفت عن وجودها الأيام القلائل الأولى بعد بداية الحملة، فقد فوجئ الثوار بنيران خلفية جاءت من اتجاه العمق المحرر، وكان هذا سببًا رئيسًا في نشر إشاعة الإنزال المظلي.
كما أن بعض المواقع سقطت بسرعة غير مفهومة سلمت فيها الكتائب العميلة نقاطها لقوات النظام.
4- دعم تقني متقدم برز واضحًا في تطور ملحوظ في دقة قوات النظام في إصابة أهدافها على نحو لم يكن حاصلاً من قبل (وعملية استهداف قيادات التوحيد في اجتماع عارض لم يكن مرتبًا سلفًا مثال واضح على ذلك).
وهذا يفرض تساؤلاً عن طبيعة الدعم التقني والعسكري المقدم للأسد في هذه المرحلة، ومن هي الجهات الدولية التي تقدم له هذه الخبرات، وتمده بعتاد متطور يعينه على حسم المعركة لصالحه؟؟
فقد ذكر بعض الثوار أن الأسد استخدم في هذه المعركة دبابات متقدمة جدًا لم يروا مثلها من قبل في معاركهم!
5- الضغط العسكري، فقد حرك النظام كثيرًا من جبهاته النائمة من أجل إشغال الثوار وتشتيتهم واستنزافهم، في حلب القديمة، والجبهة الغربية.. واستعمل سياسة الأرض المحروقة في الهجوم والانسحاب.
6- عنصر استخباراتي وأمني معهود. فقد كان عملاء النظام المنتشرون بين الكتائب والألوية ينقلون إليه تحركات الثوار، ويساعدونه في توجيه مدفعيته، ويسربون له حركات القيادات العسكرية.
7- توجيه ضربات موجعة للفصائل العسكرية البارزة عن طريق اغتيال قياداتها أو استهداف مقراتها.
وقد تطور الأمر مؤخرًا إلى استهداف المؤسسات المدنية كمجلس المحافظة.
وهو أمر لم يلجأ إليه النظام سابقًا بحيث كان مثار تساؤل وعجب الثوار.. فقد ظلت المقرات الأساسية المعروفة وغير المحصنة بمنأى عن الهجمات المباشرة أو المدمرة!
ويمكننا أن نفسر ذلك بإرادة دولية حرصت على توازن القوى بين الثوار والأسد ألزمته بعدم توجيه ضربات حاسمة سابقًا، وقد تبدل الموقف الدولي الآن.
ويضاف إلى ذلك عامل تقني يمكن وصفه بعجز النظام سابقًا عن تحقيق إصابات دقيقة لأهدافه، وقد وفّر له الدعم التقني القدرة على تحقيق هذا الأمر حاليًا، وهذا لا يخرج عن إطار الإرادة الدولية التي تكلمنا عليها.
8- تعطيل الآلة الإعلامية للثورة عبر استهداف مكاتبها مباشرة واغتيال الناشطين الإعلاميين أو خطفهم.

استجابة الثوار للهجمة وإدارتهم للمعركة:
استطاع الثوار استيعاب الصدمة سريعًا وأبدوا تطورًا ملحوظًا في التعامل مع الهجمة الشرسة التي استعمل فيها النظام رأس حربته من قوات النخبة الشيعية، وطبق سياسة الأرض المحروقة على المناطق التي اجتاحتها قواته، فالقوات الأرضية تسندها قوة جوية ومدفعية تضرب بلا هوادة كل ما يتحرك.
- ففي الجانب التعبوي والتنظيمي اجتمعت قيادات أكبر الألوية في حلب وشكلت غرفة عمليات مشتركة عالية المستوى وتوازعت فيما بينها الجبهات والمهام.
وقررت عدم السماح للنظام باستجرارها إلى معارك جانبية تشتت قوتها، وتجنبت أي صراع داخلي يضعفها ويشغلها عن عدوها المشترك فتحلت بضبط النفس والعقلانية في التعامل مع المشكلات والخلافات، والحرص على الاحتكام إلى القضاء لا إلى منطق السلاح (نذكر على سبيل المثال الفتنة التي كان من الممكن أن تحصل بمقتل عنصر أحرار الشام على يد عناصر من فصيل دولة الإسلام في العراق والشام).
- وفي الجانب التكتيكي وُضعت خطة لصد الهجمة سعيًا لامتلاك عنصر المبادرة وتنفيذ هجمة مرتدة تقطع على القوات المقتحمة طريق العودة وخط الإمداد وتحاصرها بين فكي كماشة.
وفعلاً استطاعت القوة الأساسية من الثوار امتصاص الصدمة وصد الهجوم على الطريق الشرقي وإيقاف تقدم رأس حربة النظام.
فيما كانت قوات رديفة تقوم بعملية التفاف على القوة النظامية المقتحمة لاستعادة القرى والبلدات على طريق خناصر، وبالفعل استطاعت السيطرة على مجموعة من القرى الحيوية.
ومن جانب آخر حرك الثوار جبهة الشيخ سعيد في المنطقة الغربية بهدف تشتيت قوات العدو، واستغلال انشغاله في الجبهة الشرقية للوصول إلى مدفعية الراموسة التي يعد سقوطها بوابة تحرير حلب المحتلة.
وقد رافق هذا كله تحريك لبعض الجبهات من أجل لفت الأنظار وتشتيت الانتباه.
- وفي الجانب الأمني فُرض حظر تجول مسائي في المناطق المحررة لمنع الخلايا النائمة من أن تنشط، وقد اتخذ هذا التدبير الوقائي بعد القبض على مجموعة تابعة للنظام في المناطق المحررة فيها إيرانيون يرتدون زي المجاهدين، كما اعتقلت مجموعات من شبيحة شويحنة والجبارنة.

النتائج:
مثلت معركة حلب الشرقية معركة وجود لكل من المجاهدين والنظام ليس على مستوى حلب فقط ولكن على مستوى توازن القوى العام فيما بين الطرفين على امتداد الأراضي السورية.

وقد ترتب على المواجهات التي ما زالت قائمة بين الطرفين مجموعة من النتائج:
- فعلى الصعيد المعنوي:
أحدثت هذه الهجمة صدمة حقيقة للثوار في حلب بعد أن ركن كثير منهم للمكاسب وتنافسوا على إقتسام الغنائم ومناطق النفوذ.
فمثلت لهم تهديدًا خطيرًا أوجب عليهم العودة إلى الجبهات، والتنافس في التصدي لخصمهم المشترك الذي بات على أبوابهم يتهدد وجودهم جميعًا.
وقد أرجع النظام بهذا النفسَ الجهادي للثوار، وأحيا فيهم الهدف المشترك، ووحدهم على عدو واحد.
كما أن هذا الخطر نفسه أدى إلى هبوط الروح المعنوية لدى فئة من الثوار خرجوا للمغنم واستعجلوا النصر واستخفوا بالصراع، فتركوا جبهاتهم وهربوا مع عائلاتهم خارج سورية.

- وعلى الصعيد التنظيمي:
بقدر ما كشفت معركة حلب عملاءَ النظام بين صفوف الثوار، وأوجبت عليهم سد الثغرات التي كانوا يحدثونها في صفوفهم وجبهاتهم، فإنها قد علمتهم أخيرًا أهمية وحدة الصف وجمع الكلمة وتوازع الأدوار وتكاملها.
وقد استطاعوا أن يحققوا فعلاً أداء متميزًا على الأرض من خلال غرفة العمليات المشتركة، والدعم القوي الذي وصلهم من أجنحة الألوية الكبرى في المحافظات السورية.
وقد أثر العامل الزمني، والخبرة والاحتكاك السابقان في تحقيق تقدم ملموس في التنسيق فيما بين الكتائب والألوية، وهذا التنسيق قائم على تقدير واقعي لإمكانيات كل فصيل ومن هو جدير منها بالثقة بعيدًا عن الحملات الإعلامية وضجيج البيانات والمزاودة في الشعارات.

وقد ترجمت نوايا الوحدة إلى إطار تنظيمي جامع عالي المستوى تمثل في اتحاد أكبر الألوية في سورية تحت اسم: الجبهة الإسلامية.
- وعلى الصعيد التكتيكي:
تعد هذه المعركة نقلة نوعية في مستوى الأداء العسكري لكتائب الثوار في حلب، فقد استعملوا تكتيكات لم يستعملوها من قبل، واستفادوا من أخطائهم، وامتلكوا مرونة جيدة في التعامل مع خطط النظام المتغيرة، وتعاملوا مع المعركة برؤية شمولية تدير المعركة لا على أساس جبهة منفردة، بل على أساس معركة كاملة تتعدد جبهاتها، وأهدافها العسكرية تغطي المساحة الجغرافية الكاملة لمدينة حلب وريفها.
وقد ساعدهم في إنجاح ذلك العامل التنظيمي، بالإضافة إلى أن الأخطاء علمتهم أن المعركة لا تدار بالزنود وحدها، وأن منطق "فزعة العرب" خاطئ بكل المقاييس، وقد لاحظوا أن عدوهم يطور يوميًا خططه وإستراتيجياته، وتسنده في معركته أدمغة عسكرية محترفة، ولا بد من الارتقاء بمستوى أدائهم، والاستفادة من الخبرات العسكرية والجهادية التي لديهم في تخطيط المعركة وتطوير تكتيكاتها.

- وعلى صعيد الإمداد العسكري:
أدى هروب كثير من المتسلقين إلى ارتفاع مخزون السلاح في السوق الداخلية، وهذا أدى إلى هبوط معتبر في أسعار السلاح والذخيرة، وكان ذلك فضلاً كبيرًا من الله تعالى على المجاهدين.

- وعلى الصعيد السياسي:
في سياق التحليل العسكري ينبغي ألا نغفل العوامل السياسية التي تعد المحرك الأهم أحيانًا للتحركات العسكرية. فقد بدا واضحًا أن النظام يستميت لتحقيق التفوق في هذه المعركة من أجل تحقيق غرضين سياسيين أساسيين.
حقق الأول منهما، وما يزال الثاني قيد التجاذب بين الطرفين.
فالهدف الأول من تحريك معركة السفيرة هو فتح طريق إلى معامل الدفاع لمرور اللجان الدولية الخاصة بالكشف عن مواقع الكيماوي السوري.
وفعلًا استطاع النظام تحقيق هذا الأمر.
أما الهدف الثاني فإن المعارك على الأرض هي التي تحدد إمكان تحقيقه أم لا، إذ يعتقد المجتمع الدولي الراعي لمؤتمر جينيف أن قدرة النظام على تحقيق تقدم نوعي على الأرض يسمح له بالدخول مفاوضًا قويًا إلى جينيف، ويفرض على الثوار الرضوخ للإملاءات الغربية وتقديم تنازلات في المفاوضات.
ولذلك تغدو معارك الجبهة الشرقية معارك مصيرية وصراع وجود للطرفين.
ولكن يبدو من خلال ردة فعل النظام الانتقامية أن أهدافه لا تتحقق، وأن مسار المعركة ليس في صالحه، ولذلك تجده ينتقم من الأهالي بالبراميل المتفجرة التي يلقيها عشوائيًا كل يوم على الأحياء السكنية.
كما يتأكد من خلال التطورات الحاصلة على الأرض أن الدعم التقني الذي قُدّم للأسد، وإطلاق يد إيران في سورية لم يستطيعا إلى الآن أن يمنحا الأسد التفوق الميداني الذي يحتاجه، وأن ميزان القوى على الأرض هو الذي يفرض منطقه في النهاية حتى على المفاوض السياسي، يا ليت قومي يعلمون.

المصادر: