عذراً حماة ليس بوسعي إلا البكاء

الكاتب : النورس
التاريخ : ٢٥ ٢٠١٢ م

المشاهدات : 8346


عذراً حماة ليس بوسعي إلا البكاء

عذراً حماة ليس بوسعي إلا البكاء، ليس بوسعي إلا أن أهوي على سريري والعينان تذرفان دموعاً تترى، وجسدي تغزوه قشعريرة ناعمة تنتابه رويداً رويداً وهي تتجه متماوجة إلى الأعلى، ولساني يلهج بالدعاء، ما أكرمك يا الله، ما أعدلك يا رحمن يا رحيم، ما أوسع فضلك يا كريم يا واسع، أنت رب العالمين وأنت رب العرش العظيم.

 


تلك هي عبارات راودتني وأنا على وشك كتابة قصيدة بعد أن توارد إلى سمعي تسمية جمعة من جمع الثورة السورية باسم حماة في الذكرى الثلاثين للمجزرة الرهيبة والمأساة العظيمة، قالوا (عذراً حماة سامحينا) هكذا سموها، نعم دون شك أو ريب، وإني والله حسبت أن الزمن قد طمسها وحسبت أن ثنايا الوقت غيّبتها في غيابت الأيام وتلافيف الدماغ المطوية الغائبة عميقاً عميقاً في العقل الباطن دون عودة ودون استذكار،
إنه كرم الله وإنه فضل الله، رغم الآلام ورغم الذكريات الأليمة فقد انتابني فرح واعترتني غبطة فازداد يقيني بعدل البارئ المصور الحنان المنان، فمن فرط جبروت هذا النظام الفاجر وكثرة مكره ودهائه وعموم خبثه لم يكن بمقدوري أن أتصور اليوم الذي يجاهر الناس بالكلام عن مجزرة حماة التي اقترفتها عصابات عائلة الأسد ومن شايعهم في ثمانينات القرن العشرين، ومن فرط جبروت هذا النظام تلاشت الأفكار وانهمر السديم يغطي الأحداث ويطمرها تحت رماد كثيف وغشاوة سميكة، ورغم أن الإيمان بالله الأحد الصمد موجود في القلوب بحمده تعالى إلا أنَّ عظم الحادثة وما جاء قبلها من مآسي متعددة قادت إليها وما جاء بعدها من السكوت والتعتيم الإعلامي والصمت الداخلي والإقليمي والدولي والبطش الشديد والأساليب القمعية العتيدة حال دون التفكير السديد ودون الانطلاق، ولكن العذر أن لا عذر، وماتت القضية سنوات طويلة تناسى الناس جراحهم أو عضّوا عليها مكرهين، واستمرت الحياة رغماً عنهم بأمر الواحد الأحد، حتى جاء هذا الطوفان الكريم، هذا السيل الجارف وهذه الإرادة الجبارة العظيمة مما كمن في نفوس هذا الشعب الطيب القوي بفضل الله وحوله.


أعطيكِ يا بلدي جميلَ حناني *** أهديك حباً باسقات جَناني
وسقوك من دمع العيون غدائراً  ***ومن الدماء جداول الوديان
وخبا الندى يقتات من آلامه  ***والنور بات بآخر الأزمان
وتطاول الطاغوت فوق رقابنا  ***وحرابه دأبت على الطغيان
حتى إذا صاح الصباح بأهلنا  *** فهي الكرامة دفقة الإنسان
هذا وفضل الله أفضل مانح***   تمضي وترجو رحمة الديّان


أذكر أنه بعد سنة أو سنتين خرج للوجود على استحياء كتاباً اسمه (حماة مأساة العصر)، لم أعلم به ولكن زميل دراسة عراقي في بلاد الغرب أخبرني أنه رأى هذا الكتاب بعد أن علم أنني من المهاجرين من أبناء حماة..
تجاهلت الأمر وتحاملت على نفسي بعيداً عن الموضوع وكأنني لم أسمع به لأن الثقة وقتها كانت مفقودة في جميع البشر عموماً وذلك من كثرة المخبرين داخلياً وخارجياً..
كان الرعب يحيط بنا والخوف يركبنا حتى في البلاد البعيدة لأن النظام زرع الخوف في نفوسنا من كثرة الدهاء والمكر والخبث والقتل والتنكيل، يلاحق أهلنا إن لم يستطع الإتيان بنا، فله أساليب لا تخطر على بال بشر وذلك على مبدأ إذا لم تستح فافعل ما شئت، ومن علم بتلك الأمور عن دراية وخبرة ليس كمن سمع وقرأ
كنت أكتب القصيدة تلو القصيدة وأواري خاطراتي وأحاسيسي وأحبس أمنياتي وأحجر على أفكاري وأضبط نفسي وألجم أحاسيسي كي لا تنفلت فأتسبب في أذية أهلي في سورية من قبل زبانية النظام، كنت أخفي ما بداخلي أمام الملأ، كنت أتخفى عندما أرى سوريين مجتمعين، حاولت المشاركة بمهرجان شعري عربي ليس له علاقة بالسياسة وذلك في الولايات المتحدة ولكني شعرت أن العيون كانت لنا بالمرصاد، لا يعرف الإنسان من أين يأتون، وبعد ذلك بسنين كنت لا أقول لأولادي عن جميع الحقائق التي مرت بنا وبالبلد كلها خوفاً عليهم من بطش النظام إن هم تكلموا لأصدقائهم أثناء زيارتنا للبلد الحبيب، كنت أستعمل الرمز العميق في الكتابة ومع ذلك ينتابني شعور بالقلق حين وصل الأمر بنا – من شدة خوفنا - أنهم قد يقرؤون الأفكار، فسامحينا يا حماة، سامحينا أيتها الجوهرة الثمينة.


عذراً حماة، فصوت الحق قد بانا *** عذرا أتيتك إذعاناً وإيذانا
عذراً حماة وفي الأحشاء نيران ***  صمتُ العروبة أردانا وآذانا
اليوم يومك فالديجور منسحبٌ  ***عذراً فإنَّ قدوم الفجر قد حانا
أبشرْ أخيّ نفوس الناس في ألقٍ *** يستبشرون من الراحات ألوانا
منْ يفتر اليوم يلق الهون في غده  ***ويلعق الذلَّ تعريفاً ونكرانا


أيها النظام الفاجر الذي هوى على رؤوس العباد بفأس من شواظ رهيب.
أيها النظام المتعجرف الذي أرسل على الهامات أحزمة من لهب شديد.
أيها النظام الكذاب الأشر، سلاحك فيتو، وسلاحي صمود وقدر، سلاحك فيتو، وسلاحي يقين وصبر، سلاحك مكر وخبث وخديعة، وسلاحي ثقتي بشعب كريم لا يهاب الوقيعة، سلاحك مدفع ورصاصة، وسلاحي وعد ربي الذي لا يؤوده حفظ السماوات والأرض.
فأنا الشعب الذي وضعه الله على هذه البقعة المباركة من الأرض، تلك هي الأمة الوسط، تسومها أنت ومن تبعك سوء العذاب وتجرعها كؤوس الذل والهوان، أما آن لك ولطغمتك القاتلة الكريهة أن ترعووا أو أن تستيقظوا من سباتكم العميق، أما آن لكم أن تفهموا أن هذا الشعب كريم أبيّ مقدام، فهو لا يبالي بالموت إن كان في السبيل الأسمى
الراحلون إلى الرحمن ما فتئوا يستبشرون وما أدراك ماغنموا الطائرون إلى النعماء مكرمة النائمون على متن الأثير هـمُ الوارثون وما أدراك ما ورثوا مد العيون وهاؤم في السنا علم والفجر يبزغ لا مناص لنوره هل يحجب الشمس من موّاله الصنم قمع وتنكيل وجهالة، كيد وخبث وعمالة، لص وحرامي وحثالة، هل تدرون أيتها الطغمة الفاجرة أن سلاحكم نادر، سلاحكم لم يعهده البشر في العصر الحديث، فقد غاب إبليس وتصحر ثم انتحر حين لم يقدر على مجاراتكم بالخبث والدهاء والقتل.
هذا التنكيل والتمثيل بالجثث وهذا الاعتداء الصارخ على البشر والحرث والأعراض لم يأت الزمان بمثله، ولن يأتي حسب يقيني، فلقد رضعوا لبان الحقد من أوكاره، فلا النجم سار في أفلاكه كما يزعمون ولا العملاق كان عملاقاً كما كانوا يصوّرون، لقد شربوا التأثيم من كؤوس لا قرارة لها مترعة بعقيدة فاسدة وتعليمات خفية نتنة.


بلدي وفجر العمر يلتقيان  ***والظالم النازي بلا وجدان
صولانه كضميرهِ متهالكٌ  ***وبصيرةٌ تحتار في الروغان
شـدَّ الحزام وقام في أرجائها  ***عسفاً وجوراً ناطق الهذيان
والأرض صار من الدما أنهارها ***فأديمها قطعٌ من الثوران


عندما عزموا على صب حقدهم عليها وأجمعوا أمرهم اصطفوا أرتالاً من الكراهية وكتائباً من الحقد الطائفي الأرعن، عندما نفضوها استجارت الدنيا ولكن الأنفس البشرية لم تقم ولم تنبس الأقوام ببنت شفة إلا من تصريحات خجولة هنا وهناك ما لبثت إلا قليلاً ثم خبت، لقد أجرم العالم بالصمت عن مجازر فظيعة، ولم نكن ننتظر النصرة العسكرية إلا أننا شعرنا بالخذلان من القريب والبعيد عندما تم طمس الأمر دون إعلان أو استمرار، ومع هذا الخذلان البشري الإنساني فقد تعالت صيحات الطوب في المدينة وتسامت مناداة الرمال، وتفاقمت أنّات العاصي معلنة الحداد على أهله، كان خراباً يندى له جبين الإنسانية، والناس في الوطن العزيز في سبات، ثم أتى صمت له دويٌّ رهيب، شعرتُ به عندما رأيت جزء صغيراً من المشهد المأساوي في بعض أحياء حماة ليلاً، فبعد شهرين من المذبحة تسنى لي أن أمر من حماة قسراً وأنا داخل سيارة الأمن العسكري بعد توقيفي وتعذيبي وما أكثر القصص الحزينة، وأنا مذهول مذهول مصدوم من الخراب والدمار
نـُقـِضَـتْ ...

فتعالت صيحاتٌ من أنـًّةِ طوبٍ وحنينْ
لزم التاريخ مكانه، والنهر ركام ... وحطام
للمنظر صوت ودويٌّ وطنين
حزنت كلمات الماضي
تجتاح سلالة بابل
وعادت فاغرة الفيه
فكبرت أرقام الترحيب المجرم
وفيها لهيب وحميم
وتراءت  أفكار التاريخ صمودا
في وجه الأيام كزيف ناقص
قد صار المنظر وحي مشين
سارت أنحاء التاريخ بنهر
متسخ بالطين هزم التاريخ مثالا ..
فالنار جموح .. وخيول وصهيل
فارفع رأسك يا تنين
نُـقضتْ ... فانتُهكت ...
فانعدمت أصوات الحرث الدامي
قد أضحى الوقت هلاماً غير مكين.
وحدها القبور المفتوحة، تعانق أشرعة الأثير،
وتركب صهوة الليل نحو خيوط من البياض والنور ،
ونواجذ الأيام تمسك بهذا السنا الوردي الحائم فوق ظلال الياسمين،
وغابات الجبال الندية تتمايل مع نسائم الفجر القادم من روائح دم الشهداء،
وحبات الصنوبر الجبلي تتساقط وتمشي على جميع بقاع الوطن قرباناً للحرية وموقداً للكرامة،
ترتفع الحجارة رويداً رويداً وهي تهمس للطيوف حكايات عن القادمين إلى الرسول تحية وحباً،
وتحيّي هؤلاء المسافرين إلى غير رجعة وأرواحهم تطير فوق المعالم الأثرية وفوق المدن الحجرية والقرى الرملية والحقول الشاسعة،
وترفع المآذن الدعاء للبارئ الحكيم عندما يصل القادمون،
تحية من الله مباركة، أرتالاً من الشهداء على درب الكرامة والإنسانية
هؤلاء الظالمون القابعون في ميادين الفحش الإنساني والعهر الأسدي الذي انضم إلى الصفحات السوداء من التاريخ البشري،
وهنا يسجل الزمن ساعات من الاحتضار،
صفحات من تاريخ سوريا يسطرها الإنسان المجرم وأتباعه ممن تلوثت أيديهم بالدماء البريئة
وممن يؤيدونه ويؤيدون تلك الأفعال الشنيعة بحجة السلم الأهلي وبحجة المصالح الشخصية والمنافع الآنية ناسين الوطن الذي ينزف الدم ويترنح تحت وطاة العار الأسدي والبعثي الجائر
. دعوني أستشيط من الغضب دعوني أرتقي حمم اللهب
دعوني أمتطي سرج الجياد الراحلات إلى الرتب
(تبت يدا أبي لهب وتب)
قاموا على (التشبيح) والإرهاب قاموا على ترنيمة الموت العجاف
(تبت يدا أبي لهب وتب)
فمحابر التاريخ تذكر فعلهم
ومنابر الأيام تصرخ بالألم وتقول للطاغين من قلب الضلوع بلا نصب
تبت يدا أبي لهب وتب
لن تقتلوا فكري وإن زعمتم أنكم خانقوه
لن تستطيعوا فك الرموز وإن وصلتم إلى جنان الأمور
فأنا سوري أبيّ مكن التاريخ مني هالتي
وأحجم التشفير قبضته عليّ فأرداني في حضون الإباء والشموخ
ورمحت نحو العلى فاستعصيتُ على الهوان وأبيتُ الخنوع.

المصادر: