سر الورقة الصفراء بين الماضي و الحاضر

الكاتب : مدونة بقلم حرة
التاريخ : ٢ ٢٠١٢ م

المشاهدات : 4566


سر الورقة الصفراء بين الماضي و الحاضر

الفصل الأول: حلم الحقيقة:
وقفت على مدخلها.. ما هي إلا خطوات تفصل بين الحلم وتحقيقه.. وها قد انتهى بي بحثي عن الحقيقة على أعتاب أعرق جامعة عرفتها البشرية.. "جامعة الحياة".. تلك الجامعة التي أمضيت طفولتي وأمل الانتساب إليها يداعب مخيلتي، ولطالما انتظرت اليوم الذي تبدأ فيه رحلتي في غمار البحث عن الحقائق لتدوينها وتنقية الوقائع من شوائبها وزيفها.
أحسست بقلبي يخفق اضطراباً وتسارعت ضرباته.. شعرت ببرودة تسري في أطرافي.. تسمَّرت قدماي وأنا أقف أمام بواباتها الخشبية الضخمة، وتملّكني شعور غامض لم أستطع تفسيره.. وكأنني مُقبِلٌ على مغامرة خطرة، ولكن سرعان ما تمالكت نفسي واستجمعت قواي فأمسكت بحلقة البوابة بكلتي  يدي وطرقتها كي يُأذن لي بالدخول.
فُتِحت لي بوابات الجامعة وهي ترزح تحت ثقل إرثها العريق، زلفت خلالها مسرعاً وصوت صريرها يكاد يصم أذني.. ما أن عبرت لباحتها الداخلية حتى لفحتني ريح باردة شعرت معها برائحة التاريخ.. أحسست وكأنني عبرت إلى عالم آخر.. عالم أشبه بخلية النحل.. فالكل يحمل ملفاته المحشوة بالأوراق والجميع منشغل ببحث ما.
كان فناء الجامعة أشبه بتحفة معمارية رائعة، بمبانيه العريقة، وأعمدته الرومانية الشاهقة، تحيطه حدائق أندلسية غناء، تتوسطها نوافير ملبسة بالفسيفساء فيما كان صوت خرير ماءها المتدفق يبعث على صفاء الذهن ويضفي السكينة في التنفس.
وقفت أتأمل المكان والفرحة لا تسعني.. ها قد تحقق حلمي وأصبحت أحد طلاب الحقيقة.. ولكن من أين أبدأ؟؟ وبماذا أبدأ؟؟!!
لحظات أمضيتها وأنا في حيرة من أمري، ولكن الأمر لم يطول كثيراً إذ كان أحد الباحثين القدامى يرمقني من بعيد من تحت نظاراته السميكة، فأحس بحيرتي فرقَّ لحالي وأراد أن يجنبني عناء التخبط، فأشار عليّ بوجوب الذهاب إلى "مكتبة التاريخ" لتكون أولى محطاتي في الجامعة، وليبدأ بحثي من أروقتها.
شكرته وانطلقت مسرعاً جهة مكتبة التاريخ أتسلق سلمها الرخامي العريض، والعديد من المشاعر تختلج في فؤادي.
كان المكان يلفه هدوءاً شديداً، لا يخرقه إلا حفيف أوراق الكتب وصليل الأقلام في أيدي الباحثين، فيما تسرب ضوء الشمس عبر نوافذ المبنى الصغيرة لينشر خيوطه على الطاولات الخشبية المتناثرة في صالاتها مضيئاً ظلمة المكان الذي عبق بمزيج من رائحة الأوراق العتيقة والجلود.
تسللت بحذر شديد رواق المكتبة الرئيسي كي لا يصدر دبيب قدمي أدنى صوت يقطع تركيز الباحثين المنهمكين في عملهم.. ولبثت برهة وأغمضت عيني وتركت حواسي تطبع في ذاكرتي الصورة الساحرة لذلك المكان الذي تنطلق منه مسيرتي.
عبرت ردهات المكتبة متأملاً أرففها الممتدة إلى أعلى السقف والتي امتلأت بالمخطوطات والإضْبَارَات الملفوفة من بين جلدية وبردية وورقية، خُطّت بلغات عدة، فيما رُصَّتْ المجلدات المُغلّفة بالجلود الملونة والمنقوشة بالأحرف الذهبية بجانب بعضها البعض في منظر مهيب.
جال نظري في الأرفف في محاولة لإيجاد خيط أبدأ منه بحثي.. إلى أن وقع بصري على مجلد عتيق وُضِعَ بمفرده على رفٍ خاص به لضخامة حجمه وتعدد أوراقه.. وأدركت أنني قد وجدت ضالتي.. تملكني إحساس أنني على موعد مع القدر.. وشعرت كأن هذا المجلد قابع على رفه في انتظاري.
حملت المجلد بصعوبة لثقله ووضعته على طاولة مجاورة ونفضت التراب المتراكم علي دفّتِه.. فتحته وبدأت أقلب صفحاته القديمة بحرص بالغ خوفاً من إتلافها، وأطّلِع على فصوله التي تعجبت لتعددها وتنوعها.. إلى أن وصلت لفصل ليس كباقي الفصول.. وما أن أمعنت النظر إليه حتى هالني ما رأيت.
كان فصل يحتوي على أربعين صفحة… ولكنها كانت خالية تماماً من الأسطر.. قد تناثرت على صفحاته نقاط سوداء صغيرة هنا وهناك.. وفي منتصفه صفحة سوداء.. كنت أحس ببرودة في أصابعي وأنا أقلب صفحاته.. إلى أن وصلت لنهاية هذا الفصل الغريب فإذا بورقة تهوي منه.. التقطها ويداي ترتعشان.
كانت ورقة صفراء متآكلة الأطراف قد اقتلعت من مكانها في المجلد.. وكانت ملطخة بالبقع السوداء.. ولكن هذه الورقة اختلفت عن ما سبقها من الصفحات الأربعين.. إذ احتوت على سطور كتبت باللون الأحمر.. خُطَّت كل كلمة فيها بخط مختلف مرتبك وكأنه كتب على عجالة.. فيما ذُيِّلَتْ الورقة بفقرة غير مكتملة.
تسارعت الأفكار والأسئلة وتزاحمت في عقلي، ولم أستطع أن أجد لها أجوبة.. فقررت التوجه لأمينة سر المكتبة لأسألها عن حقيقة تلك الورقة.
وقفت أمام مكتبها بضع دقائق فيما كانت تكمل عملها غير مكترثة لوقوفي، كنت مازلت ممسكاً بالورقة بيدي والذهول يلفني من هول ما قرأت، فجأة رفعت إليَّ بصرها متنبهةً لوجودي.. نظرت للورقة وكأنها قرأت في نظراتي وارتباكي هواجسي، فهزت كتفيها وأجابت:
- آه.. الورقة الصفراء.. لا أحد يعلم سر تلك الورقة وفصلها الخالي من الأسطر.. ولكن إذا كنت مُصِراً على معرفة حقيقتها فلا بدّ أن تسأل "سيدة القصر"، فهي الوحيدة الكفيلة بالإجابة على أسئلتك.
وأكملت:
- ولكنني أحذرك.. لقد حاول العديد من الباحثين من قبلك التطرق معها لموضوع "الورقة الصفراء" فما كان منها إلا أن ردَّتْهم خائبين، وعادوا بخفي حنين بعد أن شدوا الرحال إليها وتكبدوا عناء السفر.
سألتها ببراءة:
- وأين لي أن أجد سيدة القصر؟؟!
أجابتني باستخفاف لجهلي بمكانها:
- وأين تتوقع أن تكون؟؟ ستجدها في أماكنها المفضلة!!!
كدت أن أذوب خجلاً لجهلي بأمر يبدو بديهياً.. وسألتها عن تلك الأماكن.
فردت علي بازدراء ولسان حالها يقول: من هذا الغر الذي لا يعرف أين يجد سيدة القصر، وقالت:
- ابحث عنها مع بزوغ شمس يومها الجديد في الغوطة تستنشق عبير الياسمين، أو ستجدها تجوب حقول حوران تمرر أناملها خلال سنابل القمح تعُدُّ حباتها، أما إذا انتصف النهار.. فمكانها حواري حمص تتفقد أحجارها السوداء بباطن كفيها، وإن لم تجدها في أي من الأماكن السابقة.. فابحث عنها على ضفاف العاصي جالسة تحت شجرتها المفضلة تتأمل غروب الشمس، أما إذا جنح الليل.. فإياك وإزعاجها فذلك وقت جولتها المسائية حيث تختلي بنفسها على ربوع قاسيون.
أومأت برأسي شاكراً لها مساعدتي، وجمعت أوراقي المبعثرة وارتحلت والأسئلة تتسارع في ذهني.
كان لا بدّ أن أبحث عنها لأسألها عن سطور الفصل الفارغة، عن النقاط السوداء المروعة التي تناثرت على أرجائها، عمن اقتلع تلك الورقة، عن سطورها المخطوطة باللون الأحمر، عن فقراتها الغير مكتملة.. لا بدّ أن أجدها.. فلا أحد غيرها يستطيع الإجابة عن تساؤلاتي.
الفصل الثاني: بداية الرحلة.
بعد عناء رحلة شاقة وطويلة وصلت وجهتي المنشودة سويعات قبل غروب الشمس، فعلمت أنني أجدها في مكانها المفضل.. ألقيت متاعي وانطلقت مسرعاً غير مبالياً بنصبي لأبحث عنها قبل أن يحل الظلام، فتخلد لخلوتها ويتعذر على لقائها.
لم يطل بحثي طويلاً، فسرعان ما وجدتها على ضفاف العاصي، وما أن وقعت عيناي عليها حتى فطنت لسبب تسميتهم لها بسيدة القصر.
لقد كانت في العصر السابع أو الثامن من عمرها أنيقة الهندام بعباءتها التقليدية المطرزة بالخيوط الذهبية، لم أستطع رؤية وجهها من مكاني البعيد ولكن جلستها كانت توحي بالعراقة والأصالة.
كانت تجلس مسندة ظهرها لجذع شجرة المشمش المكتنز، وقد ظللتها أغصانها الكثيفة المتشابكة، فيما سارعت أشعة الشمس الصفراء لتشق طريقها من خلالها مُوَدِّعَةً ما تبقى من النهار، لتلقي بضوئها الواهن على صفحة نهر العاصي فتزيد حباته لمعاناً وتوهجاً.
وقفت لحظات مشدوها أمام سحر المكان الخلاب الذي تراءى لي كلوحة فنية رائعة تحتضن الطبيعة، ثم دنوت منها على استحياء مخافة أن أفسد عليها تأملها.. ولكنها تنبهت لوجودي.. التفتت ناحيتي التفاتة سريعة تطايرت معها أطراف عباءتها.. فتناثرت من ثناياها بتلات الياسمين.. فاستيقظت برائحة عطره الزكية حواسي المرهقة من عناء السفر.
نظرت إلي فأحسست بضرورة أن أبرر سبب اقتحامي خلوتها، ولكن هيبتها ووقارها ألجمتا لساني فتلعثمت وعجزت عن الكلام.. وكأنها أشفقت لحالي فبادرتني بلهجة مرحبة وبصوت دافئ مريح ما أن لامس مسامعي حتى أذهب عني اضطرابي:
- يبدو لي أنك باحث جديد؟؟!
تعجبت لفطنتها ولكنها أكملت:
- لا تعجب.. فحداثة سنك، وملبسك، وخجلك الملحوظ، وتلعثمك، وأوراقك المبعثرة التي تتأبطها، وأضافت بابتسامة علت ثغرها الناعم حاولت إخفاءها كي تتجنب إحراجي:
- كما إنك تفتقر للنظارة السميكة التي يرتديها المخضرمين من الباحثين.
أشارت بيدها بلباقة متناهية فعلمت أنه إيذاناً لي بالجلوس، فأسرعت باتخاذ مقعدي أمامها، وعبق الياسمين مازال يسيطر على حواسي.
ما أن استقريت في جلستي حتى بدأتني بحديثها:
- دعني أُعرفك عن نفسي.. لي أسماء كثيرة وصفات عديدة.. فحياتي الطويلة منحتي العديد من الألقاب وسلبتني البعض.
تابعت بزهو:
- أنا أم الحضارات، أنا مهد الأديان السماوية، أنا عاصمة ممالك العالم، أنا بوابة التاريخ، أنا من وطئت أرضي أقدام الأنبياء الطاهرة، أنا أرض المنشر والمحشر.. فالكل بدأ عندي وينتهي الكل على أرضي.
أنا حمص، حماة، درعا.. أنا دمشق، دير الزور، اللاذقية.. أنا كناكر، بانياس، القنيطرة.. أنا القدس، طرابلس، عكا.. أنا صور، غازي عنتاب، الغوطة.. أنا اربد، بيت لحم، حلب.. والقائمة تطول، في جامعة الحياة يحبون مناداتي بسيدة القصر.. ضحكت ضحكة خفيفة أضاء لها الجوار وأكملت ولكن أحبُّ الأسماء إلى قلبي هو… الشــام، فهو اسم جامع لهويتي.
بينما كانت تحدثني لم أتمالك نفسي من إمعان النظر في وجهها المتلألئ المستدير كالشمس في إشراقها، فعلى الرغم من أن الزمن قد خط خطوطه على وجهها إلا أن ملامحه مازالت متآلفة منسجمة متسقة، وصفحة خديها الناعمة الرقيقة صافية كصفاء صفحة الماء تعكس صفاء سريرتها، تعلو خديها حمرة كجني الورد، يتوسط وجهها المضيء أنف مستقيم مرتفع ينم عن رفعتها وأصالتها، كان شيء ما في هيبة ملامحها وصباحة وجهها جعلني لا أملُّ النظر إليها.
أكملت حديثها غير مكترثة بانشداهي بجمال محياها، وكأنه أمراً قد ألفته عبر السنين الطويلة، وأصبح أمراً اعتيادياً بالنسبة لها..:
- نسبي العريق يمتد لآلاف السنين، صاهرت خلالها شعوب من أجناس عدة ومن أعراق شتى، إلا أني لم أفتخر بصهر قط أكثر من فخري بالأَمَوِيّ.
أتكلم بألسنة متنوعة.. من بين الآرامية واليونانية والآشورية إلى السريانية والأرمنية والكردية، بعضها اندثر والبعض باق.. ولكن ما أن رطن لساني بالضَادّ، حتى استهوتها مسامعي، وعشقها قلبي، فزادتني فصاحة وبلاغة.
استمرت تحدثني عن نفسها برخامة صوتها، وبأسلوبها الراقي الذي لم تستطع السنين أن تفقده أي من عراقته، وفجأة توقفت وأردفت بنبرة اعتذار:
- عفواً يا بني.. فقد أطلت عليك واسترسلت في حديثي ونسيت أن أسألك ما الذي أتى بك؟؟ وكيف لي أن أخدمك؟؟
كان دفئ حديثها الشيق، وصدى صوتها العميق، قد حملني ليعبر بي حاجز الزمن، فخاض بي عصور عديدة وأزمنة بعيدة، مما أنساني سبب زيارتي لها، ولكن سؤالها المباغت سرعان ما هوى بي إلى أرض الواقع، ليعود ويذكرني بتلك الورقة الصفراء المروعة.
أدخلت يدي في معطفي وتَحسَّسَتْهَا أصابعي المرتعشة، وكم تمنيت في تلك اللحظة أن أكون قد نسيتها في الجامعة أو أنني قد أضعتها.. فلم أشأ أن يتوقف دفق حديثها الماتع.. كما أن صدى تحذيرات أمينة المكتبة عاد يطُنُّ في أُذُنَيّ.. فكرهت أن تَرُدَّنِي كما فعلت بالباحثين من قبلي.
أخرجت الورقة من معطفي بيدٍ مرتجفة، وهممت أن أخبرها عن سبب زيارتي لها، ورغبتي في معرفة حقيقة تلك الورقة… ولكنها ما أن لمحت بطرف عينها الورقة بيدي، حتى تمعَّرَ وجهها غضباً، وتغيرت ملامحها، وتطاير الشرر من عينيها، وانقلبت بشاشة وجهها عبوساً واحتقاناً.
صاحت بي بنبرة حادة غاضبة ارتجت لها أرجاء المكان:
- ما الذي تفعله الورقة الصفراء بيدك؟؟!!… ألم أخبركم المرة تلو الأخرى والقرن بعد القرن ألا تعبثوا بها؟؟!!.. ألم آمركم بإعادتها لمكانها في مجلدي؟؟.. أما آن لكم أن تَعُووا أنه لا مجال لمساومتي عليها؟؟..
وقفت متسمراً في مكاني من هول الدهشة، لم أفهم سبب غضبها المفاجئ، حاولت أن أستفهم، ولكنها لم تُمهِلني وزجرتني بشدة قائلة:
- إن قراري نهائي وكلمتي هي الفَيْصَل في ما يختص بالورقة الصفراء، ولن أقبل أبداً بتمزيقها وطمس الحقيقة أو تزييفها.. لا بدّ للأجيال القادمة أن تعرف ما حدث، ولا بدّ للعالم أجمع أن يعلم الحقيقة.
لم تعد بي حاجة للاستفهام عن سبب غضبها، وقد قرأت في ثنايا كلماتها الحانقة مخاوفها… فلا بدّ أنها حسبتني أحد أولئك الباحثين من ذوي الأغراض والأهداف الدنيئة، الذين يُلَطِّخون صفحة الحقيقة بأكاذيبهم، ويُلَوِّثُون التاريخ بافتراءاتهم.. ولا أشك أنها ظنت أن مجيئي ما هو إلا إحدى المحاولات المتكررة من قِبلهِمْ لإقناعها بالعدول عما كانت تصر عليه دوماً.. ألا وهو رفضها القاطع لتمزيق الورقة الصفراء من مجلدها لإخفاء حقيقة أسطرها الحمراء عن أعين التاريخ.
ولكن ما أن شرحت لها حقيقة مهمتي وصدق نواياي، حتى تمالكت نفسها قليلاً، وقالت وعبراتها ترتجف وهي تحاول أن تكبح جماح غضبها:
- اسألني عن ممالك إيبلا وأوغاريت وأرواد.. دعني أحدثك عن حضارات شعوبي الكلدانية والبابلية والرومانية.. استوضحني أروي لك وقائع معارك إيسوس واليرموك وحطين وميسلون.. اسأل ما شئت ولكن لا تسألني عن الورقة الصفراء.. لماذا هذا الإصرار على هذا الفصل وتلك الورقة وما هي إلا ورقة ضمن مجلدي المليء بملايين الصفحات؟؟
ولكن أمام إصراري لم تجد مفراً من مسايرتي.. وما أن هدأ روعها قليلاً حتى بدأت تقص علي حقيقة تلك الورقة، فقالت:
- إذا كنت كما تدعي أنك تبحث عن الحقيقة فدعني أحدثك عن وقائع الفصل المروع ذو السطور الفارغة والذي ينتهي بتلك الورقة المقتلعة التي بين يديك.. ذلك الفصل الذي لم يشهد مجلدي لبشاعته مثيلاً.
تبدأ أحداث هذا الفصل عندما تسلَّط على أبنائي عُنْوةً اللكع ابن اللكع، عديم الأصل، مجهول الجدِّ.. فتتطاير شرُّهُ وفرض سطوته وجبروته على كافة أرجاء أراضيِّ كما فرضها جده "الوحش" على قريته الجبلية من قبل.
سألتها مُستفسراً:
- وهل قَبِلَ أبناؤكِ بأن يفرض عليهم سيطرته من هو كما تصفين من الدناءة؟
أجابت مؤنبة:
- أتظن أن يقبل الأحرار أن يسومهم عبداً؟!! أو يرضى الكرام أن يحكمهم لئيماُ؟!! هل يسمح الأُصُلْ أن يتولاهم وضيعاً؟!! بالطبع لا.. ولكنه طَوَّعهم كراهيةً، وفعل ما فعله كل وضيع لئيم عبر التاريخ حاول أن يحكم الكرام..
سألتها:
- وكيف استطاع إلى ذلك سبيلاً؟؟
فأجابت:
- كان لا بدّ له من استعبادهم كي يتمكن من حُكْمِهم، ومن إذلالهم ليُخضِعهم لسلطانه.
أكملت بزفرة حارة:
- بات سبيله هو طمس هويتهم.. ليطْبَعَهُمْ بالطابع الذي يناسبه.
وصار لزاماً عليه أن يُنسيهم ماضيهم.. أن يُنسيهم من هم ومن أين أَتَوْا.. كي لا يعلموا أي طريقٍ يسلكون.
أنساهم أبطالهم.. فَنَسَوْا قِيَمَهُمْ
فلا عدل عمر يَحْكُمُهُمْ.. ولا أمانة الجَرَّاح تَرْدَعُهُم
لا بطولات بن الوليد تُلْهِبُهُمْ.. ولا فقه بن العباس يُوَجِهُهُمْ
سلبهم أمجادهم.. فسُلِبُوا عِزَّتَهُمْ
فلا فتح خيبر يشُدَّ عزائمهم.. ليرسم خريطتهم
ولا غبار حطين يُثير فخرهم.. ليحمي هويتهم
ولا صيحة واإسلاماه في عين جالوت تستحث نخواتهم.. لتدافع عن إيمانهم
وجب عليه كي يُثَبِّت أركان حُكْمِه أن ينسف ثوابتهم..
فعمد إلى قَصْقَصَة جناحي العزة والكرامة اللتان حلقتا بهم في سماء المجد.. لقرون طويلة.. وطافت بهم ليرتووا من نهر سيحون شرقاً.. إلى نهر غرناطة غرباً.. وأبدلهم بهما جناحي الذل والخوف فخلدوا بهما إلى الأرض واستكانوا.
تحتم عليه أن يمحو تاريخهم الذي ظل لهم نبراساً ونوراً.. لتبدأ أول فصول تاريخهم بقدومه.. أراد أن يجتث جذورهم، وأن يحرق أرضهم، كي لا تُوْرِق شجرتهم يوماً من الأيام، فتثمر أناساً يرسمون مستقبلاً غير الذي أراده لهم القائد.
فأمسى كمن نزع النجوم من سماء الصحراء في الليلة المظلمة، ووضعها في يده وحده، وتركهم في رحلتهم ليعيشوا التيه بلا بوصلة ترشدهم ولا نجم يوجههم.
سألتها:
وهل نجح مخططه وتحققت بغيته؟؟!!
فأجابتني والحسرة تعلو وجهها:
- نعم نجح بلا شك.. فما الذي تتوقعه يا بني من أمة انْتُزِع منها ماضيها؟؟.. لقد تحولوا مُسوخاً بهوية مُزْجَاة ونفسية مهترئة مُهَلْهَلَة.. بعد أن سحق قيمهم، وقلب مفاهيمهم.. ففقدوا القدرة على التمييز بين الخير والشر.. وبين الحق والباطل.. فجهلوا من يُوالوا ومن يُعادوا.
يا بني.. لقد قتل الشجاعة في قلوبهم فتحولت جبناً.. نزع النُبْل من طباعهم فانقلب لؤماً.. أمات الجرأة في تصرفاتهم فأضحت خوفاً.. أزهق المروءة في ضمائرهم فطُبِعَتْ خنوعاً.. وأد الفهم من عقولهم فاستغباهم.. حطم شموخهم وفتك بعزيمتهم فعاشوا حياتهم بالإحباط، وأضحى شعارهم "النفاق سيد الأخلاق" بعد أن قضى على مكارمهم المأثورة التي اكتسبوها وتميزوا بها على مر العصور.
سألتها متعجباً:
وكيف استطاع فرداً واحداً أن يفعل كل ذلك أمام أمة شَهِدَ لها التاريخ؟؟
فشرحت لي قائلة:
- كان أول ما فعله أن كَمَّمَ أفواههم.. وحَرَّقَ كُتُبَهُم.. وكَسَّرَ أقلامهم، وقام بجمع كل المحابر في مملكته المُغْتَصَبَة، ومنع أولادي من تداولها.. وأصبح هو وحده من يكتب الأحداث ويُسجل التاريخ.. فيُدون ما يشاء ويمحو ما يشاء.. يخلعُ ألقاباً على من يشاء وينزِعُها ممن يشاء.. يُضفي على نفسه من المحاسن والمناقب والبطولات بنزع محاسن غيره.. فلا نورٌ يضيء إلا نور القائد، ولا حكمة تُسْتلْهَمْ إلا من أقوال القائد، ولا تاريخ يُكْتَب إلا من وحي القائد وبيد القائد.. وأضحى الويل الويل لمن يُبَاغَتْ من قِبَلْ زبانيته وبحوزته محبرة أو قلم، فتلك جريمة لا تغتفر، وذنبٌ يستحق مرتكبه أقصى العقوبات.
سألتها عن السطور الفارغة:
- إذا كان كما تروين يدون من محبرته.. فما تفسير الأربعين صفحة ذوات الأسطر الفارغة؟؟
فأجابتني:
نعم لقد قام بجمع المحابر.. وكتب حصراً من محبرته.. ولكنه استعمل حبراً زائفاً ليدون تاريخاً مزيفاً، فلم تترك كتابته أثراً في صفحات مجلدي الذي لا يقبل الزيف.. ولا يقبل إلا بالحقيقة.
ظلت تروي لي كيف استمر يوطد أركان حكمه، ووزع التَّرِكَة بين أفراد عائلته، واستعان ببني جلدته من الجهال والحمقى والأراعن من قريته الجبلية، وأطلق أيديهم ليعيثوا في الأرض فساداً، فتسلطوا على حياة العباد وأرزاقهم.. وحين تمكن منهم ومَلَكَ رقابهم، وتأكد أن الأمر صار له بلا منازع.. قام يبطش ويعتقل ويسجن كل من تُسَوِّلُ له نفسه الاعتراض عليه، إلى أن كان منه ما كان…
وفجأة توقفت عن الكلام.. وخنقتها العبرات، ومن شدة تأثرها انحدرت من مقلتها دمعة وكأنها كرهت أن أرى ضعفها فأشاحت بوجهها بعيداً عني لتمسحها ولكنها سقطت على العشب الندي بين قدميها فأحرقته حرارة لوعتها.. صمتت قليلاً وكأنها تستجمع قواها لتخبرني عن حدثٍ جَلَلْ..
وأكملت بصوت واهن:
-.. إلى أن جاء اليوم الذي أطلق فيه العنان لقوى الشر.. واستعان من زبانيته بكل فاجر جبار أسود القلب مِرْبَاداً.. وعلى رأسهم أخاً له لم تلد أرحام البغايا مجرماً مثله، ليقود "حملته الإجرامية" التي لم يُسجل مجلدي في إجرامها وفظاعتها مثيلاً.
تساءلت مستغرباً:
- وما الذي دعاه للقيام بذلك إذا كان الأمر قد استتب له كما ذكرت؟؟
فأجابتني:
- لقد تجرأ البعض ممن ما زال في نفوسهم بقية من نخوة وشجاعة من مدينة "أبي الفداء" على تحدي ظلمه والوقوف بوجه جبروته.. فرغب أن يُلقنهم درساً قاسياً لا ينمحي من ذاكرة التاريخ.. وأراد أن يجعل منهم عِبْرَةً لترتدع بها الأجيال القادمة.
فجهز لحملةٍ اتخذت "الإبادة" عنواناً لها.. إبادة كل زفرة تخرج من صدور سكان تلك المدينة.. حتى الطفل في أحشاء أمه.. أراد أن يُسكت صوت حاضرهم كي لا يرتد له صدى في مستقبلهم.. فعمد إلى القَتْل.. القَتْلُ بكل أنواعه وأشكاله ووسائله.. قَتْلٌ فرادي وقَتْلٌ جماعي.. قَتْلُ الشباب وقَتْلُ الشيوخ.. قَتْلُ الأطفال وقَتْلُ النساء..
تنهدت وأكملت بصوت حزين:
- لقد حاصرت عصابته الغاشمة المدينة وأغلقوا منافذها لمنع هروب سكانها كي لا ينجو كائناً من العذاب.. وبدؤوا يتفنَّنُون بطرق الإبادة من بين رمي بالرصاص.. وطعنٍ بالسكاكين.. وحرقٍ بنيران أُضْرِمت بعد حشر السكان في المنازل والمحال..
- كانت عصابته تقوم بجمع أهل الحي بأكمله لترميهم برصاص الغدر والخسة لا لتهمة تُوجَّهُ إليهم إلا لانتمائهم لمدينة الإباء والبطولات… "مدينة حمــــاة".
لقد ارتكبوا بحق سكان هذه المدينة العصيَّة جرائم يندى لها جبين الإنسانية.. فعذبوا وقتلوا أرواحهم قبل أجسادهم.. بتعذيب أطفالهم وتقطيعها أشلاءً أمام ذويهم.. وبانتهاك أعراض فتياتهم ونسائهم أمام أعين محارمهم.. قبل أن يقوموا بقتلهم أجمعين.
استمرت تخبرني عن تلك المجزرة المروعة:
- جمعوا الآلاف من سكان المدينة وبعد رشهم بالرصاص رَمَوْهُمْ في مقابر جماعية ودفنوا فيها الأحياء من المصابين مع الأموات.
فجروا المنازل وهدَّموها فخرت أسقفها على قاطنيها.. فدُفِن ميِّتُها وحيُّها تحت أنقاضها.
صُفِّيت عائلات بأكملها.. وأُبيدت أحياء برمَّتِها.. وكُوِّمَت الجثث المشوهة والمقطعة والمدهوسة، لتتفسَّخ في شوارع المدينة في منظر يثير الرعب في النفوس.. ومُنِع الأحياء من دفنهم، حتى صُبِغت طرقاتها باللون الأحمر وفاحت رائحة الموت من أرجائها.
وقبع من بقي على قيد الحياة في منازلهم المهدمة ليموت الأطفال والمصابون والشيوخ بلا طعام ولا شراب ولا دواء.. يلفهم برد الشتاء القارس فيما يخيم عليهم شبح الموت.. ومن تجرأ للخروج للبحث عن كسرة الخبز أو لطلب العون كانت تتلقفه رصاص القناصة.
سرقوا ونهبوا المحال والبيوت، حتى أنهم قاموا بقطع أيادي النساء وشرم آذانهم لنهب حليهم، كأحقر ما يفعل اللصوص وقطاعي الطرق.
وكأن "الطاغية الوحش" أراد أن يُلقن حماة درساً لا ينساه مستقبلها.. لتقوم أحجارها المهدمة، ونواعيرها الباكية، وترابها الممتزج بدماء أبنائها.. شاهداً على قدرته على البطش والتدمير والتنكيل.. فتأخذ على أيدي قاطنيها، وتطبق على أنفاسهم إذا ما هم فكروا بتحديه مرة ثانية.. فأصدر أوامره لجيشه المعتدي ليدكُّها دكاً.. فلم يسلم شجرها ولا حجرها من ظلمه.. قرر إبادة أحجارها ومبانيها ومساجدها وكنائسها … ليُبيد تاريخها فتتلاشى عزائم أبنائها ويفنى شموخهم.. فلا تقوم لهم قائمة بعد يومهم هذا.
لقد هتكوا العِفَّة..
واغتصبوا الطفولة..
وذبحوا الكـــرامة..
نحروا الحياة فيها.. فتحولت حماة إلى مقبرة مفتوحة.
كنت أستمع لروايتها المرعبة عن تلك المجزرة التي لم يسبق أن سمعت لها بمثيل، والدمع ينهمر من عيناي من شدة تأثري وحزني، فلم أكن أتخيل أن يوجد من البشر صنف مثل هؤلاء الفجرة بلا مشاعر، وبقلوب لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً.
أردفت وأنا أكفف دمعي:
- الآن فقط فهمت تفسير الصفحة السوداء التي في منتصف الفصل!!
فعقبت على كلامي موضحة:
- نعم.. فسواد تلك الصفحة ما هو إلا انعكاس لقباحة أفعالهم، وفساد سرائرهم، وسواد قلوبهم.. فظلت شاهداً ودليلاً لا ينمحي على جرمهم.
سألتها وعيني مازالتا متورمتان من البكاء:
- أخبريني ماذا فعل إخوانهم من باقي مدنك لردع هذا السفاح.. وماذا كان موقف العالم حيال هذه المجزرة؟؟
أجابت بلوعة ممتزجة بنبرة تهكم:
- العالم؟؟ لقد أجمع العالم على أن يغض طرفه ليحمي مصالحه، أما إخوانهم.. فلم يفعلوا شيئاً ولم يحركوا ساكناً.. فبعد أن قضوا على كل آثار الحياة في حماة.. جمعوا من بقي من شبابها، وزجوا بهم في سجون مغلقة، وحشروهم في زنازين موحشة.. ليمارسوا عليهم أبشع أنواع العذاب، وليلتذوا بإهانتهم وتحقيرهم وترويعهم بممارسات همجية لا إنسانية.. اليوم بعد اليوم والعام بعد العام.. وحرصوا على تسريب القصص والروايات عن وحشية هذه السجون وفظاعتها لكي تُرهب باقي أبنائي فيصيبهم الخوف.. وقد فعلت، فاستكانوا ولم يتجرأ أحد منهم على تحديه بعدها.
لم أتمالك نفسي من شدة سخطي على تخاذلهم أن أواجهها ببعض الحدة:
- لماذا لم تفعلي شيئاً؟؟ لماذا لم تدفعي بهم للوقوف بوجه "الوحش" الظالم؟؟ أو ليسوا أبناءكِ؟؟
فأجابتني بلوعة:
- يا بني.. كباحث في بحر الحقيقة يجب أن تعي أمراً مهماً.. على قدر ما كان قلبي ينفطر حزناً، ولكنني لست من يكتب القدر، ولست أنا من يحدد مجرى سير الأحداث، ولكنني أحاول توعية أبنائي وتوجيههم قدر استطاعتي بعرضي للماضي واستخراج العبر منه لتكون نبراساً لحاضرهم ومساراً لمستقبلهم.. وأترك لهم حرية اختيار مواقفهم، ثم أخبر الباحثين عن الحق أمثالك وأقص عليكم ما حدث، وأترك لكم ولضمائركم مهمة التدوين والتوثيق.
قصت عليَّ كيف ظل الوحش يحكمهم، ويدون بمداد حبره المزيف، إلى أن قضى نحبه، فورِث ابن له مملكته، وورث حبر أباه، وظل يدون من محبرته حصراً.. وكيف أن شيئاً لم يتغير في واقع أبنائها، إلا أن "الوحش الابن" كان أقل دهاءً من "الوحش الأب". فاستعان بأخ له لم تلد أرحام البغايا مجرماً مثله إلا عمه.. ليساعده بإجرامه في بسط نفوذه.. فكان هذا الأخ من ذاك العم.
كان الحديث ذو شجون.. ساعات قد مرت على جلستنا.. لم أتنبه إلا والليل قد بدأ يرخي بسدوله علينا.. تملكني الهلع.. فقد علمت أن موعد خلوتها المسائية قد حان.. وأنها الآن تذهب وتتركني خلفها ومعي العديد من التساؤلات التي مازالت تحيرني وتلح علي في الجواب.
كان لا بدّ أن أتجرأ واستجمع قواي وأسألها وكلي رجاء ألا تخيبني.. وبادرتها:
- هل أستطيع مصاحبتك في جولتك المسائية؟؟!!
- جولتي المسائية؟؟!! … أجابت والدهشة تعتلي وجهها المرهق من عناء يومها الطويل:
- لا بدّ أنهم في جامعة الحياة قد أخبروك كم لتلك الجولة مكانة خاصة في نفسي.. وأنني لم يسبق لي وأن اصطحبت خلالها أحداً معي!!
رجوتها قائلاً:
- لا زال لدي العديد من التساؤلات.. ما بال الورقة الصفراء المقتلعة.. وما سر سطورها الحمراء؟؟
أطرقت قليلاً، وكم كانت فرحتي حين أجابت:
- حسناً.. سأصطحبك معي، ولكن ينتهي اللقاء مع بزوغ الفجر.
جمعت أوراقي.. وانطلقنا.
الفصل الثالث: قاسيون.
صعدنا طرقات قاسيون الملتوية فأنعش نسيم هوائها العليل جسدي المرهق من عناء يومي الطويل، وما أن وصلنا إلى القمة اتخذ كل منا مقعده، تأملت المنظر الساحر، فبدا جمال دمشق بأنوارها المضيئة كقطيفة سوداء تناثرت حبات الماس عليها.
كنت في غاية الشوق لكي أصل لنهاية الفصل.. فتخبرني عن سر الورقة الصفراء، ولكنني لم أرغب في الإلحاح عليها ولا سيما أنني قد فتحت بتساؤلاتي جروحاً كانت مُوصدة لسنين عديدة.. وانتظرتها حتى رغبت هي في إكمال الحديث.. فتنهدت تنهيدة نمَّتْ عن حزن دفين كامن في خلجاتها لم تستطع القرون أن تنسيها إياه.. وأكملت حديثنا الذي انقطع بحلول الليل:
- كنت قد بدأت أفقد الأمل في أن يستيقظ أبنائي من سباتهم العميق، ويهبوا للوقوف بوجه الظلم والطغيان.. فتركتهم وقلبي يحترق حزناً ويعتصر ألماً من شدة غفلتهم وتخاذلهم وذهبت لأعالي قاسيون أتبتل كل ليلة وأدعو لهم.. إلى أن..
سكتت برهة قصيرة تلتقط أنفاسها.. وكلي شغف وانتباه لما ستقوله.. وتابعت:
- إلى أن هبت ذات ليلة "ريــــاح آذار" من درعــا بأصوات خافتة شقت سكون ليل قاسيون الموحش، حاولت جاهدة الإنصات لأفهم كُنة تلك الأصوات ولكن محاولتي باءت بالفشل.. ولكن الليلة بعد الأخرى كانت الأصوات تتعالى والهتافات تزداد حدة، وتعدد اتجاه الريح فلم يعد يأتي من درعا فقط بل شمل كل مدني وقُرَايْ.. وما أن تبينت من الكلمات التي حملتها لِيَ الرياح، حتى سرت في جسدي قشعريرة لم أشعر بمثلها منذ أمدٍ بعيد.. قشعريرة بثًّت الأمل في روحي.. وأعادت لي الثقة في أبنائي..
لم أتمالك ضبط نفسيي وقاطعتها متلهفاً:
- بالله عليك أخبريني ماذا حملت تلك الرياح؟؟ وبماذا هتفوا؟؟
سكتت برهة.. فيما ارتسمت على وجهها ابتسامة ملؤها التفاؤل وأجابت:
- لقد هتفوا بأعلى صوتهم.. المـوت ولا المـذلة.. بل تجرؤوا وصرخوا ملئ حناجرهم.. الشـعب يريد إسقاط نظام الطاغية.
لم أستطع استيعاب ما قالته لي.. فكيف يمكن أن يتجاسروا على القيام بوجه الطاغية الابن بعد كل ما فعله الأب المجرم بهم.. بعد ما سلبهم كرامتهم وعزتهم واستعبدهم لثلاثين عاماً؟؟ فسألتها:
ما الذي حدث؟؟ ألم تروي لي كيف قام الأب الوحش بقصقصة جناحي العزة والكرامة وقتل الشجاعة والجرأة في نفوسهم فقُلِبَتْ خوفاً فأخلدوا للأرض واستكانوا؟؟ فمن أين أتى هؤلاء بالجرأة للقيام بمثل هذا؟؟!!!
أجابت على تساؤلي وقالت:
- يا بني.. لقد حدث ما لم يكن في حُسبان الأب والابن من "آل الوحش".. لقد وُلِـدَ جيلاً جديداً لم يعرف تاريخاً إلا ما دونه القائد..
كان جيلاً يسمع ويرى..
كان يسمع ببطولات القائد وممانعته ضد العدو.. ولم ير منه إلا الخيانة والخنوع والذل..
كان يسمع بعدل القائد.. ولا يرى منه ومن طائفته إلا الظلم والبطش والفساد..
كان يسمع بإنجازات القائد.. ولا يرى إلا سجون ملؤها هياكل مَذْبُوحةٌ بَشَرِّيَتُها..
كان يسمع همساً بحماة.. فيرى الكوابيس المخيفة في ظلمة الليل..
نشأ طفولته يسمع ويرى.. وأضحى شبابه يسمع ويرى.. واشتد عوده وهو يسمع ويرى.. فيسمع بمتناقضاتٍ ويرى وأضداداً..
وظل الغضب يتراكم في داخله على حرية لم يتذوقها.. وعلى عزة يتشوق قلبه إليها.. وعلى كرامة لم تر نور الشمس..
كان الدم يغلي في عروقه ونيران الغضب تستعِر في قلبه فَفَتِنَتْهُ حتى أخرج زبده فتغلَّف بطبقة قاسية، وكان في انتظار طرقة واحدة لينكسر غلاف شوائبه ويظهر معدنه الأصلي.
سألتها:
- ولكن.. ما هو السبب الذي حرك المياه الراكدة، ودعاهم لكي يثوروا على الظلم كما تقولين ويهبوا هَبَّة رجل واحد؟؟!!
قالت:
- كانت نسمات من رياح الربيع العربي المجاور قد لفحت بعض الشباب من صغار السن كبار الهمم في درعا.. فتحمسوا لها وتأثروا بحرارتها.. فأرادوا أن يجربوا ولو لمرة واحدة في حياتهم أمراً ظل مُحرَّماً عليهم.. وقرروا أن يخوضوا تجربة التدوين في مجلد تاريخهم ولو بسطر واحد.. فاستعاروا حبراً وخطُّوا غضبهم ورسموا آمالهم على الجدران.
تساءلت:
وماذا فعل الطاغية حيال ذلك؟؟
فأجابت بنبرة حزن:
- لقد دقَّ ناقوس الخطر.. ونشر ذئابه ليجمعوا الخراف الصغيرة الضَّالَّة من قطيعِهِ.. لينهشوهم نهشاً قبل أن يتأثر بهم باقي القطيع.
فاعتقلوهم.. وقتلوا منهم من قتلوا.. واقتلعوا أظافرهم.. وعذبوا طفولتهم.. وحين طالب آباؤهم بإطلاق سراحهم.. رُفِضت مطالبهم وسُخِر من أُبُوَّتِهِم واِسْتُهزِئ برجولتهم.
وحينها.. بلغ السيّلُ الزُبَى، فكانت تلك الحادثة بمثابة الطَرْقَة التي كسرت غلاف الخوف والذل والخنوع الذي غلَّف قلوبهم طيلة تلك السنين.. فتبين معدن قلوبهم ذهباً خالصاً.. وظهرت قلوب الأسود الحقيقية.. فصاحوا صيحة واحدة ارتجت أرجاء أرضي لصدى زئيرها.. فما كان من "الوحش الابن" إلا أن هرول ليستعين بتركة أبيه البالية، وإرثه الإجرامي ليبدأ مسلسل القمع من جديد بكل وحشيته وفظاعته.. ولكن هذه المرة طالت أيدي غدرهم وخِسّتِهم كل أبنائي بكافة مدنهم وقراهم ولم تستثن منهم أحداً.
سألتها فَزِعاً:
- وهل استكانوا واستسلموا لغدره مثلما فعلوا من قبل؟؟
فردت نافية:
لا يا بني.. هذه المرة كان الوضع مختلفاً.. وكأن درس حماة القاسي الذي أراد "آل الوحش" تلقينه شعبي قد علمهم أن استسلامهم لا يؤدي إلا للمزيد من البطش والتنكيل.. وأنهم لن يتخلصوا من جبروته إلا إذا وقفوا وقفة رجل واحد.. فانقلب السحر على الساحر.. فقتلت أول رصاصة أُطْلِقت الخوف في صدورهم.. وكانت أول قطرة دم أُهْرِقت إيذاناً بوحدتهم.
- هل تعلم ماذا كانت ردَّة فِعْلِهم أمام إجرام "الوحش" وزمرته؟؟
لم تكن تنتظر أن تسمع مني جواباً.. واستمرت:
- لقد ثاروا بالملايين والغضب العارم يلُفُّهُم على كرامة قد هُدِرت وإنسانية قد نُحِرت وحرية قد سُلِبت، وخرجوا نُصرةً لشباب قد قُتِّلت ونساء قد اغتُصِبت وأطفال قد يُتِّمت، وانتفضوا دفاعاً عن شيوخ قد أُهينت ومصاحف قد مُزِّقت ومآذن قد هُدِّمت.
وُصِفوا بالجراثيم والمخربين والمندسين والسلفيين والمسلحين والمتآمرين فلم يُثنيهم ذلك عن عزمهم شيئاً.
حوصروا داخل مُدنهم وقُطِع عنهم الطعام والماء، جُرِحوا فمُنِع عنهم الدواء، قُصِفوا بالمدافع والدبابات فتهدّم عليهم البناء، قُتِلوا وتناثرت أشلاؤهم فسُرِقت جثثهم وحتى الدفن لم يجدوا سلوى وعزاء.
واجهوا أعتى آلات القمع والتنكيل والتقتيل بصدور عارية فأذهلوا العالم أجمع بشجاعتهم واستبسالهم، رفعوا راية السلمية بوعي لا مُتناهي، فوقف الداني والقاصي مشدوهاً بحكمتهم.
طفقت تخبرني بفخر وزهو عن عزائمهم وبطولاتهم.. فقالت:
رفعوا رايات العزة والكرامة فضربوا المثل في التجرد والإخلاص عندما أعلنوا: "لا للسلطة ولا للجاه.. هي لله هي لله".
وكسروا جدار الخوف والهوان وقتما صدحوا: "الموت ولا المذلة".
وسجلوا أروع الأمثلة في التوكل حينما نادوا وأصواتهم تشق عنان السماء: "ما لنا غيرك يا الله".
وهزوا عرش الطاغية وزلزلوا العالم بعدما أكدوا: "لن نركع إلا لله".
لقد ثاروا ثورة استرجعوا معها كل معاني النبل والشهامة ومكارم الأخلاق التي سلبت منهم..
لم أدعها تكمل وقاطعتها قائلاً:
تتحدثين عنهم وتصورينهم وكأنهم ملائكة تمشي على الأرض!!!
فأجابتني:
لا.. هم ليسوا بملائكة.. كانوا يخطئون ويصيبون كسائر البشر، ولكن قدرتهم على نبذ قيم الهوان التي رُباهم القائد عليها.. وقابليتهم وتعطشهم لاسترداد كرامتهم المذبوحة حركت فيهم كوامن الخير فاستجابوا لها وتفاعلوا معها، فانعكست على واقعهم..
وعندما ظن الطاغية أنه اجتث جذورهم.. لم يكن يعلم أن البذرة الطيبة التي فطرهم عليها خالقهم لا يمكن لكائن من كان أن يقتلعها من قلوبهم.. كيف لا وقد قال فيهم نبي آخر الزمان - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)).
بدا التأثر واضحاً في كلامها.. كيف لا وقد تشرّفت بذكر نبي الهدى - صلى الله عليه وسلم - لأبنائها وثناؤه عليهم.. فتوقفت عن الكلام وأطرقت هي تنظر إلى السماء، ثم التفتت إلي وقالت:
- هل أُخبرك بسر لم يسبق لي أن أَطلعت عليه أحداً من الباحثين من قبل؟؟
رفعت رأسي وكلي انتباه للشرف العظيم الذي تريد سيدة القصر النبيلة أن تخصني به دون من هم أقدم وأقدر مني، وقالت:
- هل تعلم أن أحب الأبناء وأقربهم إلى قلبي هم هؤلاء.. الذي قاموا على الظلم وصدحوا بحناجرهم وبصدورهم العارية… "لبيك يا الله"؟؟
وهل تعلم أنني مازلت أحفظ أسماء شهدائهم، وأحفظ أسماء الحواري التي سالت فيها دماؤهم الزكية، وأحفظ تواريخ دفنهم؟؟
وهل تعلم أنني مازلت أذكر وجوه الأطفال اليتامى تبكي آباءها، وأذكر ملامح الأسى تعلو وجوه الأمهات المكلومات بفقدان صغارهن؟؟
استمرت تُخبرني بالأهوال التي عانوها والصعاب التي مروا بها.. وإصرارهم على مطالبهم في العيش بكرامة.. حتى أنني أحسست من هول ما سمعت أنني هرمت، واشتعل رأسي شيبا، وتورمت عيناي من البكاء حتى جف دمعي.
نظرت إلي وكأنها أحست بما أعانيه من حزن في داخلي.. فكأنها أرادت تعزيتي فقالت:
لقد ظل الظلمة الفجار منذ بدئ التاريخ يتناسون أن اليوم الذي يُحاسبون فيه أمام ملك الملوك آتٍ لا محالة مهما طال ملكهم وعَظُمَ جبروتهم..
ولكن طغيان هذا المجرم وجبروته أنساه أنه.. سوف يُحشر على أرضي هذه يوم الحساب الأعظم،
وأن أحجار حمصي السوداء.. سوف تشهد على سواد قلبه، وأن قطرات الدمع في الصباح الباكر المسكوبة على ياسميني.. ستخاصمه على أحزان اليتامى ممن يتَّمَهُمْ.
لقد تناسى أن المنارة البيضاء في مسجدي الأموي.. ستعدد في سجله القاتم أسماء أخواتها من المآذن اللاتي أمر بقصفهن، وأن حُطام البياضة المُتراكم.. سينطق بتشريده لأحفادي لبرد الطرقات في الشتاء القارص.
بينما هي تحدثني شردت عن حديثها وزاغ بصري بعيداً، فقد لفت انتباهي عاموداً من النور يضيء الأفق، مما أثار دهشتي.. لم تتح لي الفرصة لسؤالها وبادرتني بفطنتها المعهودة:
- لعلك تتعجب من عامود النور الذي تراه منبعثاً من أرضي؟؟
فأومأت برأسي إيجاباً..
قالت لي وقد لمعت عيناها وتلألأت حتى أضاءت سواد الليل الحالك، وعلت وجهها نظرة فخر واعتزاز عجيبة:
- ذلك عمود الكتاب الذي أخبر عنه نبي البشرية - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي، فنظرت فإذا هو نور ساطع عُمد به إلى الشام، ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام))..
ثم أردفت:
- لا تأسى يا ولدي على أبناء الشام فقد تكفل بهم رب العباد.. ومن يتكفل به مالك الملك فلن يُخذل أبداً.. إنما هو التمحيص والابتلاء لتحضيرهم لأمر عظيم.
لم أرغب أن أسألها الآن عن الأمر العظيم الذي ذكرته، ووجدت الفرصة قد سنحت لكي أسألها عن الورقة الصفراء وسطورها الحُمُرْ.. فذلك ما كان يشغل تفكيري.. فسألتها بصوت خافت:
- هلاَّ أخبرتيني عن سر الورقة الصفراء التي لطالما أثارت الجدل بين الباحثين؟؟
وجاء ردها أخيراً.. فقالت:
- تلك الورقة هي آخر صفحة في فصل الوحش وابنه.. ولكنها اختلفت عن باقي صفحات الزور التسع والثلاثين.. فهذه كُتِبت بأيدي أبنائي، وكل كلمة فيها شهدت السماوات على صدقها.
عجبت من خبرها وتساءلت:
- ألم تخبريني أن الأب الوحش كان قد جمع المحابر من كافة المملكة وحرّمها عليهم؟؟ فمن أين أتوا بالحبر ليكتبوا؟؟
فابتسمت وأجابت:
- يُعجِبُني الباحث النبيه.. نعم لقد فعل ذلك.. ولكنهم حين ثاروا أصروا على تدوين حقيقة ثورتهم ومعاناتهم في مجلد تاريخهم.. فلم يجدوا حبراً إلا حبر الزيف والدجل الذي لم يعُد ينفع.. فقاموا بملء محابرهم بدمائهم، وخط كل شهيد سال دمه في المدن والساحات والقرى اسمه وتضحيته من أجل الحق بيده، لتصبح نبراساً ونوراً تهتدي به الأجيال القادمة.. ولكن قوى الشر والباطل في العالم لم يُعجِبهُم أن تقوم قائمة لأبنائي مرة أخرى، ويعودوا ليتَغَنَّوْا بالبطولات.. فخافوا من عدوى هذا الأمر على شعوبهم.. حاولوا في بادئ الأمر تزويرها فلم يستطيعوا، لأنها قد خطت بدماء شهداء الحق.. فقاموا باقتلاع تلك الورقة وحاولوا إحراقها لإخفاء حقيقتها أو مساومتي عليها.. ولكنني عارضت بشدة، وأمرتهم بإعادتها لمجلدي ليراها العالم أجمع فلا تضيع معاناتهم وتضحياتهم هباءً.
وما أن أنهت جملتها حتى التفتت إلي تحدثني بنبرة جادة حازمة.. رجف قلبي من صرامتها وكأنها تكلفني مني أمراً عظيماً.. وقالت:
.. لقد عانى شعبي الأبٍي الكثير من المصاعب والمآسي.. وتحمل الكثير من الظلم والجَوْر.. وأجحف بحقه الباحثون، فلم يأت من يدون الحقيقة الكاملة، ليقص معاناتهم على العالم فيذكر التاريخ مأساتهم.. وأما الآن يا بني.. وقد أصبحت أول من يعلم الحقيقة الكاملة.. فاذهب وأعد كتابة ذلك الفصل المزيف.. وامح الباطل من مجلدي.. واعلم أن المسؤولية الملقاة على عاتقك ليست  بالعبء الهَيِّن ولا بالأمر الذي يُستهان به.. وكما أن الطغاة سيُحشرون على أرضي.. فإنك أيضاً ستحشر هنا على أرضي.. وسوف تُسأل عن الأمانة التي سلمتك إياها.. فحذار من الزيف والخداع.. ارجع إلى جامعتك وأدي أمانتك على أكمل وجه.
كان سواد الليل قد بدأ ينجلي.. وبشائر الفجر قد لاحت في الأفق.. فاستأذنتني بأدب جم وقالت:
يا بني.. هذا فراق بيني وبينك.. وإذا ما احتجتني في المستقبل فإنك تعرف أين تجدني.
نظرت لها حائراً.. وخجلاً، فما زال هنالك سؤال يحيرني ولم تجبني عليه.. وكأنها بذكائها المفرط قرأت أفكاري.. وتداركت:
يبدو لي أن الفقرة الغير مكتملة في الورقة الصفراء تؤرقك؟؟
وأكملت:
للأسف لم يَعُدْ لدي وقت كي أحدثك عنها.. إذ لا بدّ لي من الذهاب للأموي لمساعدة أبنائي في تحضير المنارة البيضاء لاستقبال عيسى - عليه السلام -.. الذي اقترب نزوله عليها.
قلت:
ولكن …!!! فأسكتتني وقالت:
- انصت.. انصت..
استمعت فإذا بأصداء هتافاتهم مازالت تتردد بصوت خافت من بعيد.. حاولت الإنصات أكثر فسمعتها واضحة جلية:

عن هالثورة ما بتخلى لو كل العالم يتخلى
يا شعبي اهتف بالعالي الموت ولا المذلة
أقسمنا نحمي هالثورة لو ما يبقى واحد منا
يا لنصر يما الشهادة يا لموت ولا المذلة
صامدين نحنا بــ هل الثورة ما نركع إلا لخالقنا
فتح عينك يا قاتلنا الموت ولا المذلة
لو نتراجع عن مطلبنا دم الشهداء بيلعنا
نموت وتحيا بلدنا... الموت ولا المذلة
يا ربي انصرنا وأيدنا اعلي رايتنا وكلمتنا 
ما نرضى إلا بعزتنا.. يا لموت ولا المذلة
الموت.. الموت.. الموت.. ولا المذلة

سلمت سيدة القصر علي وذهبت مسرعة لإنجاز مهمتها.. وتركتني.
لم تعد بي حاجة كي أسألها عن الفقرة الأخيرة الغير مكتملة في الورقة الصفراء.. فالشواهد التي تحيط بي من كل جانب تخبرني بشكل جلي وواضح عن كيفية نهايتها..
فهتافاتهم التي ما زال صداها يتردد إلى الآن بعد مرور كل هذه السنين.. ولم يتمكن أحد من إخمادها،  وعمود النور الذي أضاء الأفق.. وسيظل يضيئه إلى قيام الساعة، وتهيئة سيدة القصر وأبناؤها المنارة البيضاء.. تمهيداً لنزول المسيح - عليه السلام -؛ كلها شواهد على نهاية هذا الفصل وورقته وفقرته الأخيرة..
ارتحلت وعدت أدراجي وأنا أردد…
دولة الظُلْمِ ساعة.. ودولة العدل إلى قيام الساعة

المصادر: