..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

سؤال ضروري لمستقبلها: داعش.. في أي سياق تشكّلت؟ (2-2)

حمزة المصطفى

١٧ ٢٠١٤ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2749

سؤال ضروري لمستقبلها: داعش.. في أي سياق تشكّلت؟ (2-2)
2.jpg

شـــــارك المادة

نظر أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم دولة العراق الإسلامية، إلى جبهة النصرة، غداة تأسيسها على أنها "مشروع منقذ" لدولته، ومكمّل لأحلامه السلطوية.

وعندما حققت حضوراً وانتشاراً واسعين، وأصبحت من أقوى الفصائل المسلحة في سورية، اعتبرها "تهديداً" له ولدولته، ولاسيما أنّ نموذجها المناقض تماماً لتنظيمه حاز إعجاب ومباركة المنظّرين والدعاة في التيار السلفي الجهادي، وفرض على زعيم "القاعدة"، أيمن الظواهري، التواصل مباشرة مع قيادتها من دون الرجوع إليه.

 

 

في هذا السياق، ولخوفه من خطط أبو محمد الجولاني بالاستقلال التام عن تنظيمه، أعلن البغدادي في التاسع من إبريل/نيسان 2014 عن حل كلٍّ من "النصرة" و"دولة العراق الإسلامية" ودمجهما في إطار واحد سماه "الدولة الإسلامية في العراق والشام".

أحدث قرار الدمج انقسامًا بنيويًا في النصرة، فغالبية المقاتلين الأجانب "المهاجرين"، وفي إطار فهمهم لتراتبية البيعة (البغدادي مؤسس، والجولاني مبايع) بايعوا البغدادي، وانضموا للتنظيم الجديد، على الرغم من رفض الجولاني الدمج. وفي سبيل الحفاظ على تنظيمه، ووقف انشقاق المقاتلين عنه بحكم تراتبية البيعة، سارع الجولاني إلى مبايعة الظواهري (الظواهري مؤسس، والبغدادي مبايع) طالبًا منه التحكيم. لكن قرار التحكيم، والذي جاء لمصلحة النصرة، لم يوقف استنزافها وعزوف المهاجرين عنها، فخطاب البغدادي المحفز، والذي دغدغ آمال الجهاديين، وأحلامهم بإقامة الدولة الإسلامية، وتحكيم الشريعة كان أقوى وأكثر تأثيرًا من خطاب النصرة الذي ركز على المقاومة ودفع الصائل، وتأجيل تحكيم الشريعة وإعلان الدولة، بانتظار اجتماع أهل الحل والعقد. ولم ينتظر البغدادي طويلاً، حتى أوعز إلى مقاتليه باقتحام مقرات النصرة والاستيلاء على مخازنها والمناطق التابعة لها، بداية، ولاحقاً بمواجهة فصائل المعارضة والفصائل الإسلامية الأخرى، وفرض البيعة والولاء عليها، وإلحاق المناطق المحررة بدولته، وبمحاكمه الشرعية.
وجدير بالذكر أنّ ظروف العراق، أيضًا، واندلاع الاحتجاجات في المناطق السنّية ضد استبداد المالكي، وحكمه الطائفي، منح التنظيم فرصة ليعاود نشاطه، وبشكل محدود، في مناطق الاحتجاجات، مستغلاً نقمة سكانها على الحكومة المركزيّة. خلال عام 2013، توسع تنظيم الدولة في المناطق المحررة، نتيجة غياب إرادة حقيقية لمواجهته من فصائل المعارضة.
وفي تلك الفترة، تقاطعت الأهداف بينه والنظام السوريّ، فالتنظيم ولمحدودية قوته، لم يكن في وضع يسمح له بقتال النظام، أو النظام والمعارضة معاً، فاختار الطرف الأضعف، بشكل حقّق مصالح النظام وأهدافه.

في المقابل، امتنع النظام عن فتح مواجهة مع التنظيم، وساعده في مواقع عدة ضد قوات المعارضة لرغبته في إضعافها، وللتأكيد على روايته الإعلامية بأنه يواجه إرهابيين وجهاديين، وليقدم نفسه للغرب "شريكًا" أو "عضوًا" في نادي مكافحة الإرهاب، قبيل انعقاد مؤتمر جنيف 2.

بيد أنّ فصائل في الجيش الحر، وعلى رأسها جيش المجاهدين وجبهة ثوار سورية، فوتت الفرصة على التنظيم والنظام معًا، وبدأت، وبالتنسيق مع دول إقليمية، بمواجهةٍ مسلحةٍ مع التنظيم، بداية العام الجاري، إثر محاولته السيطرة على معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية، سرعان ما انضمت إليها الجبهة الإسلامية وجبهة النصرة.

حُسمت المواجهة، في أيام قليلة، لمصلحة المعارضة، وطرد التنظيم من ريف حماة وإدلب ومدينة حلب ومعظم ريفها (باستثناء الريف الشرقي) ودير الزور، وبقي معزولاً في مدينة الرقة وريف حلب الشرقي، من دون أن يمتلك فاعلية تذكر، تتجاوز دفاعه عن مواقعه. كما افتقد التنظيم، ولأول مرة، مند تأسيسه التواصل الجغرافي مع العراق، بعد أن طُرد مقاتلوه من مدينتي الميادين والبوكمال.

الطريق إلى إعلان الخلافة:

يكاد يكون تنظيم داعش أكثر التنظيمات الجهاديّة حظوظًا، وبالطبع عندما نركز على "الحظ"، فإننا نتحدث عن سياقاتٍ خارجيةٍ، انعكست إيجابًا على التنظيم، فقد هيأت تطورات الأزمة السوريّة والعراقية، في الربع الثاني من عام 2014، المناخ المناسب لاستجماع قواته، وترتيب صفوفه من جديد، ليبدأ هجوماً مضاداً في المنطقة الشرقية من سورية، للسيطرة على آبار النفط، وتأمين التواصل الجغرافي مع العراق، والذي استغله، مع عوامل أخرى، سنأتي على ذكرها، لبدء الهجوم على الموصل 10 يونيو/حزيران 2014، وإسقاطها مع باقي مدن وسط وغرب العراق، وصولاً إلى إعلان الخلافة الإسلامية 29 يوليو/تموز 2014.

ومن أبرز العوامل التي ساعدت على إحياء التنظيم بعد انكساره:

•الانقسام ضمن الفصائل السورية على قتاله بين فريقين: الأول؛ يضم الجبهة الإسلامية وجبهة النصرة، ولا يرغب في القضاء على التنظيم نهائياً، ويسعى من المواجهة إلى إضعافه وإجباره على قبول مبادرات التحكيم. والثاني؛ فصائل الجيش الحر الراغبة في استئصال التنظيم نهائياً، لكنها تفتقد القدرة وحدها على ذلك، ولاسيما أنّ الدعم العسكري الخارجي تراجع بعد شهر على بدء المواجهة.
•الانشغال عن قتاله: شغلت مواجهة تمدد التنظيم الفصائل السورية عن قتال النظام مؤقتاً، وخلفت واقعاً تستنزف فيه المعارضة باستمرار، مما جعل المعارضة تؤجل المواجهة معه، ريثما يتم درء خطر النظام في مدينة حلب وريفها، أو الحصول على دعم عسكري، أثبتت الأشهر الستة الماضية أنه تراجع بشكل كبير، وكأنّ إرادةً دولية، أو إقليمية، لا ترغب في القضاء على التنظيم نهائياً في سورية. عدا عن ذلك، أفرز الصراع ظاهرة أمراء الحرب بشكل واضح، فهؤلاء، وخصوصاً في المنطقة الشرقية انشغلوا، إن لم نقل تفرغوا، عن الصراع بزيادة النفوذ وتجميع الثروات، أكانت من عائدات النفط، أو أساليب الخطف وفرض الأتاوات مقابل الحماية .. إلخ.

•سياسات المالكي، وانتفاضة العشائر: ساهمت سياسات نوري المالكي في العراق، والتي استهدفت مكوناً اجتماعياً أصيلاً وأساسياً في اندلاع احتجاجاتٍ سلميةٍ في المحافظات العراقية ذات الأغلبية السنية. وبدلاً من احتوائها والاستجابة لمطالبها، عاند المالكي حركة التاريخ، محاولاً إخماد هذه الانتفاضة بالقوة، فاقتحم ساحات الاعتصام، بذريعة مكافحة الإرهاب، ما استدعى ردًا مسلحًا من عشائر المنطقة توسع بتوسع عمليات الجيش العراقي.

كانت المواجهة المسلحة بين العشائر وحكومة المالكي مدخلاً لداعش إلى الساحة العراقية من جديد، ومن الباب الواسع هذه المرة. فلأول مرة، منذ الانسحاب الأميركي، يحصل تقاطع في الأهداف بين التنظيم والعشائر السنية، وهو ما استغله ليعيد طرح نفسه قوة عسكرية، تقف صفاً واحداً مع المقاومة المسلحة الناشئة. وقد قوبل هذا التوجه بتحفظات من العشائر، سرعان ما أزيلت بعد استنساخ المالكي تجربة الأسد وقصفه المدن بالطائرات والبراميل المتفجرة والدبابات.

مستقبل داعش.. الإجابة مفتوحة:

يفيدنا الاستعراض التفصيلي السابق في الوصول إلى نتيجةٍ مؤداها أنّ قوة داعش لا ترتبط بكفاءته العسكرية، أو حجم قواته، أو تخطيطه الاستراتيجي أو.. الخ، بل بظروف البيئة الداخلية والخارجية المحيطة في الساحات التي يوجد فيها.

بدا أخيراً أنّ تمدّد داعش في العراق كان في بعض صوره "مصلحة" أميركية، لاسيما بعد أن أحكمت إيران، عبر حليفها المالكي، سيطرتها على هذا البلد، وأصبحت وصياً على حكمه.

هدّد تمدّد داعش حكومة المالكي والعملية السياسية برمتها، وعرقل طموحات إيرانية اشتغلت عليها عقداً من الزمن، بإنشاء محور جيوسياسي تابع لها، تمتد جغرافيته من طهران وصولاً إلى شواطئ البحر الأبيض في سورية ولبنان.

لذلك، كان تمدّد داعش بمنزلة "عصا" أميركية ضد إيران والمالكي، تلوح به باعتبارها الوحيدة القادرة على مواجهته، من أجل فرض ظروف ومخرجاتٍ سياسيةٍ تقطع جذرياً مع فترة نوري المالكي.

يمكن القول إنّ انتصار داعش أو هزيمته في سورية والعراق يرتبط، الآن، كلياً، بخيارات أميركا واستراتيجيتها. ولا شك في أن الولايات المتحدة، وإن غضّت الطرف عن تمدّده سابقًا، لن تسمح له بتوسّع يهدد فيه مصالحها أو أمنها القومي. ضمن هذه الفلسفة، بدأت الضربات الجوية المحدودة في العراق، وأعلن عن تشكيل تحالفٍ دوليٍّ ضده بمجرد نجاح تشكيل الحكومة العراقية.

أما في سوريّة، فتبدو أميركا أكثر حذرًا لاعتباراتٍ عدة، في مقدمتها حالة الفوضى المسلحة، وعدم وجود شريك منظم في المعارضة السورية، خصوصاً بعد أن استبعدت، مرحلياً على الأقل، التعاون مع النظام السوري، وإعادة تأهيله طرفاً في التحالف الدولي والإقليمي الذي تسعى لإنشائه.

يبقى أنّ مستقبل داعش وبقاءه، وخارج حسابات النصر والهزيمة، مرتبطٌ بشكل مباشر بعوامل أخرى، أكثر أهمية من المواجهة العسكريّة الطارئة؛ فعهود التخلف والاستبداد، وغياب الهوية الوطنية الجامعة كانت "التربة الخصبة"، والتي نشأت فيها هذه الحركات ونمت وتغلغلت.

وبناء عليه، إنّ بقاء النموذج الداعشي أو زواله على علاقة مباشرة بمآلات الثورات ومستقبل الدولة الوطنية العربيّة.

وعلى اعتبار أنّ هذه الحركات، وكما وصف عزمي بشارة، لم تنشأ في ظل نظام ديمقراطي، بل نشأت في ظل أنظمة استبداديّة، اعتبرها برهان غليون قبل عقود في كتابه "بيان من أجل الديمقراطية" "احتلالاً داخلياً" حولت الشعب المسكين إلى شعب من اللاجئين، ليس في المناطق المحتلة، بل في أوطانهم، وحولت الأمة إلى "أمة من العبيد"، فإنّ الخلاص من داعش يفترض الخلاص من الأنظمة الاستبدادية بالدرجة الأولى، والتي تستحضر هذا "الوحش" وتخلقه، وتزجُّ به في معركتها ضد الشعب، إذا ما نشد الحرية والتحرر والديمقراطية.

وأخيرًا، إنّ مواجهة الحركات الجهاديّة، وعلى رأسها داعش، تتطلب، قبل كل شيء، مراجعةً عميقة لمفاهيم دينية سائدة، توظفها هذه الحركات في تثبيت "مشروعيتها" وحضورها.

ولا يكفي الخطاب الديني التبريري لمواجهة هذه الحركات، والذي ينأى بالدين الإسلامي سياسياً عنها، بل يجب إخضاع المفاهيم والمصطلحات والفهم الإشكالي الذي تطرحه للمناقشة الجدية، وتحديثه بما يتواءم مع ظروف العصر.

وبدون هذه المراجعة، نجد دائماً من يفكّر بالرجوع بنا قروناً خلت، لم يتبقَّ منها، إلا ذاكراتها التاريخية، والتي تُستحضر في إطارٍ كليّ لمواجهة حالة الاستبداد والتخلّف القائمة.
 

 

 العربي الجديد

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع