..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

غيوم في سماء العقيدة الصافية

أحمد الجوهري

٢٥ ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 4759

غيوم في سماء العقيدة الصافية
في 0000.png

شـــــارك المادة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد فيا أيها الإخوة:

من اعتمد على ماله قل، ومن اعتمد على جاهه ذل ومن اعتمد على الناس مل، ومن اعتمد على عقله اختل.

ومن اعتمد على الله لا قل ولا ذل ولا مل ولا اختل، ذكر صاحبُ (الفرجِ بعد الشدةِ): أنَّ احدَ الحكماءِ ابتُليَ بمصيبةٍ، فدخلَ عليه إخوانُه يعزُّونَهُ في المصابِ، فقال: إني عملتُ دواءً من ستةِ أخلاطٍ. قالوا: ما هي؟ قال: الخلطُ الأولُ: الثقةُ باللهِ. والثاني: علمي بأنَّ كلَّ مقدور كائنٌ. والثالثُ: الصبرُ خيرُ ما استعملهُ الممتحنُون. والرابعُ: إنْ لم أصبرْ أنا فأيَّ شيء أعمل؟! ولم أكنْ أُعين على نفسي بالجزع. والخامسُ: قد يمكنُ أن أكون في شرٍّ مما أنا فيه. والسادسُ: من ساعةٍ إلى ساعةٍ فَرَجٌ. [1]

فمن صفَّى صُفِّي له ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن الناس من يسقط ويرسب بسبب كدوره تلك يوم تكون في التوحيد والعقيدة، وبين أيدينا اليوم قضية مهمة وخطيرة هي من تلك الكدور التي لا زالت تتعلق بالموحدين أو يتعلق بها الموحدون، فتمسك بهم في ظلمات الشرك وأوحاله بعيداً عن أنوار التوحيد وظلاله، فما هذه القضية؟ وما خطرها؟ وما دوافعها؟ وما حلولها العلمية والعملية الشرعية؟

والجواب: في هذه النقاط السريعة التالية:

أولاً: التعلق بغير الله خطره وصوره.

ثانياً: أسباب التعلق بغير الله ودوافعه.

ثالثاً: الأسباب الشرعية العملية لدفع البلاء ورفعه.

فأعيروني القلوب والأسماع - أيها الإخوة - والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

أولاً: التعلق بغير الله خطره وصوره:

أيها الإخوة! من الناس من يتوكل على أشياء لا فائدة على الإطلاق فيها، زعماً أن فيها نفعا ًبخير أو دفعاً لشر، فيعطيها بذلك مالم يجعل الشرع العظيم فيها، فيكذب بذلك على الله ورسوله، وربما تعلق قلبه بهذه الأشياء فظن أنها تنفع بذاتها وتضر بنفسها فيقع بذلك في الشرك الأكبر، إذ ذلك من خصائص الربوبية للرب -سبحانه وتعالى-، وإن لم يتعلق قلبه بها تعلق ما ينفع أو يضر لكنه نظر إليها على أنها احتياطات وتحرزات وتحفظات فحسب لكن اعتقاده أن النفع والضر بيد الله تعالى فهذا شرك أصغر، ولا يستهان به لذلك أي لأنه أصغر فإن الشرك الأصغر أعظم خطراًً وضرراً من الكبائر نعم الشرك الأصغر أعظم خطراً وأشد ضرراً من الزنا والعقوق وشرب الخمر وغيرها من الموبقات.

فأمر التعلق بغير الله تعالى خطير وشره مستطير، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له، وفي رواية: "من تعلق تميمة فقد أشرك".[2]

وروى أحمد وغيره من حديث عبد الله بن عكيم مرفوعاً: "من تعلق شيئاً وكل إليه".[3]

إن خطر التعلق على غير الله والاعتماد على ما سواه يتمثل في:

أولاً: أن الله تعالى يتخلى عن العبد الذي تعلق بشيء تمامًا ويتركه إلى ذلك الشيء.

ثانيًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه بأن لا يتم الله عليه وأن لا يدع الله له وكفى بهذا خزيًا وخذلاناً، ولم لا؟ فإن الذي يعتمد على غير الله ينتقص ربه -عز وجل- حين يكون عارفًا أن النفع والضر وجلب الخير ودفع الشر بيده سبحانه ثم يذهب فيعتمد في ذلك على خشبة أو ودعة وربما على فردة حذاء أو ما سوى ذلك بزعم أنها تنفع وتضر.

وهذه - أيها الإخوة - بعض الصور لما يتعلق به الناس وهى من الواقع ولا نفتري عليهم شيئا فمن هذه الصور:

أولاً: ما يُعلق على البدن أو على الدابة أو على السيارة أو على أبواب البيوت أو المتاجر والدكاكين وعلى أجسام الأطفال وغيرها من خشب أو بلاستيك أو فضة أو حديد أو ذهب أحيانًا على هيئة الخمسة وخميسة على ما يقولون وهذه صورة من صور الأفعال.

ثانيًا: ما يعتقدونه من نظرة عين فلان التي لا تخطئ والأخرى التي مثلها مثل الرصاص وغير ذلك، وهذه صورة من صور الاعتقاد بالقلب والجنان.

ثالثًا: ما يقوله بعض الناس يظن أن فيه حماية من مثل قولهم: النهارده الخميس يوم الخميس من شهر خمسة أو يقول: امسك الخشب، أو غير هذا وهذه صورة من صور الأقوال.

فلا تتعلقْ بغيرِ اللهِ حبيبي فإنه "إذا كان المحيي والمميتُ والرزاقُ هو اللهُ، فلماذا الخوفُ والقلق؟! إنَّ أكثر ما يجلبُ الهموم والغموم التعلُّقُ بغير الله من الناسِ وغيرهم، وطلبُ رضاهمْ، والتقربُ منهم، والحرصُ على ثنائِهم، والتضرُّر بذمِّهمْ، وهذا من ضعفِ التوحيدِ.

لكن شأن الموحدين وهجيراهم:
فليتك تحلو والحياةُ مريرةٌ
                                وليتك ترْضى والأنامُ غِضابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكُلُّ هيِّنٌ
                              وكلُّ الذي فوق الترابِ ترابُ

ومن جميل ما اطلعت عليه:

أن أحد المرضى بالهواجسِ والهمومِ سأل طبيباً مسلماً عن القلقِ والاضطرابِ، فقال له الطبيبُ المسلمُ: اعلمْ أنَّ العالم قدْ فرغَ منْ خلقِهِ وتدبيرِه، ولا يقعُ فيهِ حركةٌ ولا هَمْسٌ إلا بإذن اللهِ، فلِم الهمُّ والغمُّ؟! "إنَّ الله كتب مقادير الخلائقِ قبل أنْ يَخْلُقَ الخلْق بخمسين ألف سنةٍ"[4].

وقد قال المتنبي على هذا:

وتعْظُمُ في عينِ الصغيرِ صغارُها ♦♦♦ وتصغرُ في عينِ العظيمِ العظائِمُ[5]

توسَّد سفيانُ الثوريُّ كومْةً من الترابِ في مزدلفة وهو حاجٌّ، فقال له الناسُ: أفي مثلِ هذا الموطنِ تتوسَّدُ الترابَ وأنت مُحدِّثُ الدنيا؟ فقال: لمخدَّتي هذهِ أعظمُ منْ مخدةِ أبي جعفرٍ المنصورِ الخليفةِ.

﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنًا﴾[6].

قال ابنُ القيِّم: "أجمع العارفون بالله على أنَّ الخِذْلان: أنْ يكلك اللهُ إلى نفسِك، ويُخلِّي بينك وبينها. والتوفيقُ أنْ لا يكِلك اللهُ إلى نفسِك، فالعبيدُ متقلِّبون بين توفيقهِ وخذلانِهِ، بلِ العبدُ في الساعةِ الواحدةِ ينالُ نصيبه منْ هذا وهذا، فيطيعه ويُرضيهِ، ويذكرُه ويشكرُه بتوفيقِه له، ثم يعصيهِ ويخالفُه، ويُسْخِطُه ويغفلُ عنه بخذلانِهِ له، فهو دائرٌ بين توفيقِه وخِذْلانِهِ.

فمتى شهِد العبدُ هذا المشهد وأعطاهُ حقَّه، علِم شِدَّة ضرورتِه وحاجتِه إلى التوفيق في كلِّ نَفَسٍ وكلِّ لحظةٍ وطرْفةِ عيْنٍ، وأنَّ إيمانه وتوحيده بيدِهِ تعالى، لو تخلَّى عنه طرفة عينٍ لَثُلَّ عَرْشُ توحيدِه، ولخَرَّتْ سماءُ إيمانِهِ على الأرضِ، وأنَّ الممسك له: هو منْ يمسك السماء أنْ تقع على الأرضِ إلا بإذنِهِ"[7]

هذا باختصار - أيها الإخوة - عن عنصر اللقاء الأول وهو: "التعلق بغير الله خطره وصوره".

ثانياً: أسباب التعلق بغير الله ودوافعه:

أيها الإخوة - فإذا ذهبنا نستقصي عن الأسباب والدوافع التي تجعل بعض الناس يذهب إلى هذه الاعتقادات والأفعال والأقوال وجدنا وراءها قلوباً متعلقة ترتجي النفع والخير وترهب الشر والضر فلذلك هم يقدمون هذه الأشياء لأجل رفع البلاء ودفعه وجلب الخير ونفعه.

فهم يعتقدون في هذه الأشياء من الخيوط والحلقات والخمسة وخميسة وغيرها أنها تدفع عين الحاسد وأنها تحرس البدن أو تحرس الدابة أو تحرس السيارة أو تحرس البيت أو تحرس المتجر من الشرور والمحاذير، وهذه عادة جاهلية لا تزال في بعض الناس إلى اليوم، بل تتزايد بسبب الجهل، فإنهم يعلقون هذه الأشياء على أجسامهم وعلى أجسام الأطفال، وعلى السيارات والدكاكين والبيوت قصدهم من ذلك أن هذه الأشياء تدفع عنهم الشرور والمحاذير وهذا - بلا شك - خطره عظيم - أيها الإخوة -.

فهذا من الشرك، لأنه تعلق بغير الله -سبحانه وتعالى-، لأن الله جل وعلا هو الذي يدفع الشر وهو الذي إذا أراد بعبده شيئاً فلابد أن يقع، إما في نفسه أو في ماله أو في أهله، فلا أحد يدفعه وإذا منع شيئًا فلا أحد ينزله: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾. [فاطر: 2]

الأمر كله بيد الله جل وعلا فيجب أن تتعلق القلوب بالله -عز وجل-، وأن تخلص العبادة لله -عز وجل-، وأن لا تخاف إلا من الله -عز وجل-، فمن تعلق قلبه بالله ووحد الله فإنه لا يضره شيء إلا بإذن الله -سبحانه وتعالى-، أما من تعلق قلبه بغير الله فاعتقد في خشبة أو حلقة أو خيط أو غيره فإن الله يكله إلى ما تعلق به، ويبتليه.

ولهذا قرع الله تعالى المشركين الذين ألقوا بأنفسهم وهمومهم وقلوبهم أمام الأصنام والأوثان وأخبر أنها لا تنفعهم ولا تضرهم لأنها لا تنفع ولا تضر ولهذا فهي لا تضر شاتمها ومقبحها وسابها بشيء، وكفى بهذا دلالة على عجزها، ومن ثم وجوب قطع التعلق بها قال تعالى: ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [الزمر: 38]، وهذا استفهام إنكاري فيه توبيخ وتقريع لأن هؤلاء تركوا البارئ الرازق المنعم عليهم الذي بيده ملكوت كل شيء وتعلقوا بالذي هو مملوك مقهور مدبر لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضّراً ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

فتبّاً لعقول لا تفهم القرآن إن قرأته، ولا تعي السنة إذا مرت عليها، ألم يعلموا أن الله هو مالك الملك، وصدق ربي إذ يقول: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السموات وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ﴾ [النمل: 58 - 66].

ولهذا كان السلف رضوان الله عليهم أبعد الناس من هذه الخرافات والأباطيل روى أحمد والترمذي وسنده حسن من حديث عيسى بن حمزة قال: دخلت على عبد الله بن عكيم رضي الله عنه وبه حمى فقلت: ألا تعلق تميمة؟ قال: نعوذ بالله من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تعلق شيئاً وكل إليه"[8]

أخي وحبيبي! فمن علق تميمة بعد هذا البيان من النبي صلى الله عليه وسلم هل تراها تنفعه؟ سبحان ربي، قطعاً لا.

وهكذا تجد – أخي الحبيب - أن من يعلقون الحلقة أو الخيط أو الحظاظة من أكثر الناس خوفاً وهمّاً وضعفاً وخوراَ بخلاف أهل التوحيد المعتمدين على الله فإنهم أقوى الناس عزيمة، ينعمون بانشراح الصدور بتعلقهم بالعزيز الغفور بينما غيرهم ممن في الضلالات عزائمهم لأقل شيء تخور.

فما هو حكم لبس الحلقة والخيوط؟

والجواب: حكم لبس الحلقة والخيوط أنه شرك بالله -عز وجل- وأثره في النفوس الخور والضعف وربما يسأل الآن مبتغ علم نجيب وسامع لبيب فيقول: هل لبس الحلقة والخيوط من الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر؟

والجواب -في تفصيل-:

فإن كان يعتقد في هذه الأشياء أنها تنفع أو تدفع بذاتها فهذا شرك أكبر وصاحبُه معرض لمصيبتين: مصيبة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم "التي قال فيها: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له".[9]

وأما المصيبة الثانية فهي في عقيدته وذلك أنه باتخاذ هذه الأشياء قد أشرك بالله تعالى، لأن الله لم يجعل هذه الأشياء سبباً، وأيضاً قد كذب على القدر لأنه جعل ما ليس سبباً سبباً.

فإذا نظرنا إلى الغاية التي كان يبغى صاحبنا هذا تحقيقها نجدها ما تحققت أي الهدف الذي كان لأجله صنع هذه الحلقة أوالخيط أو الحظاظة وهو دفع البلاء أو رفعه فإنه لا يتحقق بل يعامله الله -عز وجل- بضد قصده فيزيده وهناً على وهنه.

وهنا يسأل الفطن اللبيب العاقل: فأين هي الأسباب الشرعية التي ندفع بها البلاء، ونرده بها، ونتقي الحسد والعين ونفر من قدرها؟

والجواب في نقاط:

أما في البداية فنؤصل فيه أن العين والحسد حق شرعاً وواقعاً.

فإن بعض من لم يطلع على القرآن والسنة وخفي عليه الواقع تراه يدفع ذلك، ولهذا نحتاج إلى هذا التأصيل والتقعيد ردّاً على المنكرين والجاحدين على سواء.

وسأخص بعض الأدلة من الأدلة القرآنية وكذلك النبوية بالذكر حتى لا أطيل وفيها الكفاية.

أما القرآن الكريم فقد جاءت الإشارة إلى العين فيه على لسان يعقوب عليه السلام حين خاف على أبنائه فقال: ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 67، 68]

هكذا يفعل المؤمنون بالأسباب، ويبقى التوكل على الله ملاذاً آمناً، ومعتقداً صادقاً، فهم يأخذون بالحيطة والحذر، ويؤمنون بالقضاء والقدر، ويثقون بقدرة الواحد الأحد، وما أغنى عنكم من الله من شيء.

وجاء فى القرآن أيضًا إخبار من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم عن حسد الكافرين له، ومحاولة إنفاذه بأبصارهم وذلك في قول الله تعالى ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾. [القلم: 51، 52].

قال ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما: ﴿لَيُزِْلقُونَكَ﴾ لينفذونك بأبصارهم، أي: ليعينونك بأبصارهم، بمعنى: يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك، وحمايته إياك منهم. قال الحافظ ابن كثير: وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق، بأمر الله، -عز وجل-، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة. [10]

وكذا قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ [الفلق: 1 - 5].

فالله تعالى يأمر نبيه أن يستعيذ به من شر الحاسد إذا حسد أي: ومن شر حاسد إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه بترتيب مقدمات الشر ومن ذلك النظر إلى المحسود وتوجيه الحاسد نفسه الخبيثة نحوه على وجه الغضب، فإن نفس الحاسد حينئذ تتكيف بكيفية خبيثة بما تؤثر في المحسود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد شرّاً قد يصل إلى حد الهلاك، ورُبَّ حاسد يؤذي بنظرة بعين حسده نحو ما يؤذي بعض الحيات. [11]

والحسد أول ذنب عُصى الله به في السماء، وأول ذنب عُصى به في الأرض، حسد إبليسُ آدم –عليه السلام- وحسد قابيل هابيل، والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون ولقد أحسن من قال:

قل للحسود إذا تنفس طعنة: ♦♦♦ يا ظالماً وكأنه مظلوم.

والحسد من شر شيء في الخلق كله كما قال تعالى: "مِن شَرِّ مَا خَلَقَ "وجعل خاتمة ذلك: الحسد[12]

فالله تعالى ذكر الحسد في القرآن الكريم، وكذلك ورد في السنة النبوية ما يدل على الحسد والعين فمن ذلك ما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسترقي من العين".[13]

ولعلم النبي صلى الله عليه وسلم بما علمه ربه من مجيء أقوام يجحدون هذا قال فيما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه سلم - قال: "العين حَقّ، ولو كان شيء سَابِقَ القدر لسبقته العين"[14]

بل إن العين - أيها الإخوة - قد تكون إنسية وقد تكون جنية، فهي كما تصيب من الإنس تصيب من الجن، فعن أم سلمة - رضى الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجارية في بيتها، رأى فى وجهها سفعة: "بِهَا نَظْرَةٌ فَاسْتَرْقُوا لَهَا"[15].

والسفعة علامة من الشيطان، وقيل: هِيَ لَوْن يُخَالِف لَوْن الْوَجْه. [16]

والمعنى: بها عين أصابتها نظرة من الجن أنفذ من أسنة الرماح[17]

ولهذا (كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان، ومن عين الإنسان حتى إذا نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سوى ذلك). [18]

هذا عن الشرع، ومن الوقائع أيضاً ما يثبت لهؤلاء المنكرين الجاحدين أن الحسد والعين حق، ولا شك أن حضراتكم تحفظون من الوقائع وتعرفون مثلما أعرف ويزيد، ولكنني لن أحدث اليوم بما يمكن أن يقال عنه خرافة أو أسطورة، وإنما أحدثكم بقول الله أو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك أنتزع من الواقع المبارك واقع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حادثة حقيقة واقعية تدل على أن الحسد والعين موجودان.

وتلك الحادثة أخرجها الإمام مالك وابن حبان في صحيحه وصححها العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: اغتسل أبي سهل بن حنيف فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر، وكان سهل رجلاً أبيض حسن الجلد، قال: فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء! قال: فوعك سهل مكانه – أي مرض - واشتد وعكه فأُتِى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلاً وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبر سهلٌ بالذي كان من أمر عامر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَلامَ يَقْتلُ أحدُكم أخاه! أَلَا بَرَّكْتَ؟ إن العين حق توضأ له" وفي رواية: "اغتسل له"، ثم قال: "إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فتوضأ له عامر فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس به بأس". وفي رواية: ثُم دعا بماء فأمر عامرًا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه، ودَاخِلة إزاره، وأمره أن يصب عليه..

قال سفيان: قال مَعْمَر، عن الزهري: وأمر أن يكفَأ الإناء من خلفه"[19]

فهذه - أيها الإخوة - كلمة قالها الرجل في أخيه فوقع على الأرض حتى إن بعض الروايات تذكر أن الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا رسول الله أدرك سهل بن حنيف فإنه والله ما يرفع رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تتهمون به" قالوا: عامر بن ربيعة، نعم فالمنظور كاد أن يموت، وهذا ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى ابن عدي وأبو نعيم من حديث جابر وأبي ذر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العين تُدخل الرجل القبر، والجمل القدر"[20]

ويرد ابن القيم - رحمه الله - على المنكرين لأثر العين بقوله: (أبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل أمر العين وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجاباً، وأكثفهم طباعًا، وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها، وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم، لا تدفع أمر العين ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه، وجهة تأثير العين).[21]

بل تعجبون -أيها الإخوة- لهذا الحديث الذي أخرجه أبو يعلى وصححه العلامة الألباني وفيه قال عليه الصلاة والسلام: "أكثر من يموت من أمتى - بعد قضاء الله وقدره - بالعين".[22]

ولذلك كان المصطفي - صلى الله عليه وسلم - إذا عاد مريضًا رقاه وهذا مما ترك الناس من سنة رسول الله.

فالعين حق - أيها الإخوة - وخطرها كبير وشرها مستطير، ولذلك يتحرز الناس منها ويتحرسون والشرع يأمر بذلك ويرشد إليه، لكن ليس بالشركيات من الحلقات والخيوط والخمسة وخميسة والحظاظات، وإنما بوسائل نافعة صحيحة مفيدة معقولة فيها الاستعانة برب العالمين والاعتماد والتوكل على إله المخلوقين أجمعين، وفيها الاقتداء والائتساء بسيد الأنبياء والمرسلين فما هذه الوسائل - أيها الإخوة -؟

والجواب بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله تعالى.
الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.

أما بعد، فيا - أيها الإخوة -!

أرشد الشرع الحنيف إلى علاج العين والحسد بل إلى الأسباب التي تقي العين والحسد وتمنع وقوعهما، فأما الأسباب التي تقي العين والحسد وتمنع وقوعهما فهي:

الأول: التعوذ بالله وحده من شر الحسد: فإن الله تعالى سميع لمن استعاذ به وعليم بما يستعيذ العبد منه.

الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه: فمن اتقى الله، تولى الله حفظه ولم يكله إلى غيره. قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120]

الثالث: الصبر على عدوه: فلا يقاتله ولا يشكوه ولا يُحَدِّث نفسه بأذاه أصلاً، فما نُصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه.

ولله در من قال:

اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتلُه ♦♦♦ فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكلُه

الرابع: التوكل على الله: فإنه من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد عن نفسه ما لا يطيق من أذى الخَلْق وظلمهم وعداوتهم. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]، أي: كافيه، أحبتي! ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع لعدوه فيه.

الخامس: فراغ القلب من الاشتغال بالحسد: فيجب على المسلم أن يمحو الحسد من قلبه كلما خَطَرَ له، ولا يلتفت إليه ولا يخافه ولا يملأ قلبه بالفكر فيه.

السادس: الإقبال على الله وإخلاص العمل له: فالإخلاص هو سبب انتصار العبد على الشيطان الرجيم، قال تعالى حكاية عن الشيطان: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: 82، 83]، فمن دخل في حصن الإخلاص، لم يخْلُص إليه أحد من الجن والإنس.

السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب: وليعلم العبد أن ما يصيبه إنما هو من ذنوبه، قال سبحانه لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 165]، فكلما تاب العبد من ذنوبه، كلما كان ذلك سببًا لتجنبه الحسد من الناس.

فمن وسائل الوقاية من العين:

اجتناب الذنوب والمعاصي فينبغي ألا ننسى أن للذنوب أثراً في وقوع المصائب، كيف لا؟ والحق -تبارك وتعالى- يقول: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30].

قال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما من اختلاج عرق، ولا خدش عود، ولا نكبة حجر إلا بذنب، ولما يعفو الله عنه أكثر". [23]

وقال عكرمة: (ما من نكبة أصابت عبداً فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها، أو لينال درجة لم يكن ليوصله إليها إلا بها). [24]

ويقول تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123].

روى الإمام مسلم، عن أبى هريرة، رضى الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا، ففى كل ما يصاب به الإنسان كفارة، حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها"[25]

قال ابن عبد البر -رحمه الله -: (الذنوب تكفرها المصائب والآلام، والأمراض والأسقام، وهذا أمر مجمع عليه). [26]

أيها الإخوة:

ولا يقف الأمر في المصائب التي يبتلى الله بها عباده عند حدود تكفير السيئات، بل فيها زيادة حسنات ورفعة درجات، فعن أم المؤمنين، عائشة رضى الله عنها قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به من خطيئته، وكتب له حسنة، ورفع له درجة". [27]

ألا فاحتسبوا ما يقدر الله عليكم من المصائب والأسقام.. وأملوا من وراء ذلك خيرًا.

الثامن: الصدقة والإحسان إلى الناس: لكي يتجنب المسلم الحسد ينبغي له أن يكثر من الصدقات في السر والعلانية، ويحسن إلى الناس، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء عن المؤمن ودفع الحسد كذلك، وهذا واقع ملموس فمن النادر أن يتسلط الأذى والحسد على صاحب صدقة خالصة لله تعالى، وإن أصابه شيء من الحاسد فإن الله يَلْطف به جزاء ما قدَّم لله وحده.

التاسع: الإحسان إلى الحاسد: إن من أعظم الأسباب لدفع الحسد، والتي لا يوفق إليها إلا من وفقه الله، إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 34، 35] وقد قيل: الإحسان يدق العنق ويأسر الإنسان.

العاشر: تجريد التوحيد: يجب على العبد أن يشغل فكره دائمًا بالله تعالى فهو وحده مسبب الأسباب، ولا يحدث شيء في هذا الكون إلا بإرادته ومشيئته، قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [يونس: 107]، فإذا جرد العبد التوحيد لله تعالى فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله؛ فالتوحيد حصن الله الأعظم من دخله كان من الآمنين.[28]

أيها الإخوة!

وينبغي أن يبرك الناظر على الشيء ويقول ما شاء الله لا قوة الا بالله اللهم بارك فيسلم الشيء بإذن الله وثمة وقاية من العين، بإذن الله، يغفل عنها كثير من الناس، ألا وهى: ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه، فقد ذكر البغوي في شرح السنة أن عثمان رضى الله عنه، رأى صبيّاً مليحاً، فقال: (دسموا نونته كيلا تصيبه العين)، ثم شرحه البغي بقوله: ومعنى دسموا: أي سودوا، والنونة: الثقبة أو النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير. [29]

هذه وسائل اتقاء العين والحسد، وأما العلاج فيكون بثلاثة أمور:

أولًا: الرقية، وهذا أمر واقع؛ فإن الرُّقى تنفع بإذن الله من العين، كما في الحديث: "لا رقية إلا من عين أو حمة".[30]

ثانيًا: الاستغسال، وهي أن يؤتي بالعائن، ويطلب منه أن يتوضأ، ثم يؤخذ ما تناثر من الماء من أعضائه، ويصب على المصاب، ويشرب منه، ويبرأ بإذن الله.

ثالثًا: أن يؤخذ شيء من شعار العائن، أي: ما يلي جسمه من الثياب، كالثوب، والطاقية، والسروال، وغيرها، أو التراب إذا مشى عليه وهو رطب، ويصب على ذلك ماء يرش به المصاب أو يشربه، قال العلامة ابن عثيمين: وهو مجرب. [31]

أيها الإخوة!

وإذا كان التبريك سبباً واقياً بإذن الله عن وقوع العين، فإن اغتسال العائن ووضوؤه بماء يصب على المعين شفاء له بإذن الله كما سمعتم بقصة سهل بن حنيف وعامر بن ربيعة، رضى الله عنهما، وهو مفسر لقوله صلى الله عليه وسلم "وإذا استُغْسلتم فاغتسلوا"[32]

ولذا، فينبغي للمسلم ألا يمتنع عن الاغتسال إذا اتهمه أهل المَعِين، أو أحس هو من نفسه أنه عان أحداً من المسلمين، وهذا يحتاج اليوم إلى حكمة في التعامل فإن الطلب مثل هذا بيننا يصبح المطلوب منه تهمة شنيعة لا تغتفر فالحكمة هنا واجبة.

وعموما "فمَن خاف حاسداً فعليه بالمعوِّذات مع الأذكارِ والدعاءِ عموماً: وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ". وكِتمان أمرِه عنِ الحاسِدِ: لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ؟. والابتعاد عنه: "وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ". والإحسان إليه لِكفِّ أذاهُ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؟". [33].

وينبغي في النهاية أن ننبه إلى أمر مهم ألا وهو أن بعض الناس "يسرفون بأمر العين فتطاردهم الأوهام، ويحاصرهم القلق، ويضعف عندهم اليقين، ويختل ميزان التوكل. أولئك يعظمون البسيط، وينسبون كل إخفاق أو فشل إلى العين، وإن لم يكن بهم عين، وربما استدرجهم الشيطان فأمرضهم وما بهم مرض، وأقعدهم عن العمل وما بهم علة، ذلكم لأن نسبة العجز والكسل إلى الآخرين أسهل من الاعتراف به وتحمل لوم الآخرين."[34] فالناس في أمر العين طرفان ووسط منكرون جفاة وموهومون غلاة وبين هؤلاء الجفاة والغلاة تقف طائفة من الناس موقفاً وسطاً، تؤمن بالعين وتصدق بآثارها نقلاً وعقلاً، ولا تغالى فتنسب كل شيء إليها، تتقى العين قبل وقوعها، وتفعل الأسباب المأذون بها شرعاً بعد وقوعها. فلا ينبغي على الإطلاق للمسلم إلا هذا التوسط بين الطرفين فلا هو مع المنكرين للأمر الثابت شرعاً وعقلاً ولا هو من المفرطين في نسبة كل شيء إلى العين والحسد.

فيا أيها الإخوة! اتقوا الله، ولا يضر أحدُكم أخاه، وإياكم والحسدَ وإذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق.

واعلم أن فضل الله يؤتيه من يشاء كما يشاء ولن يذهبه عنه حسدك له، فلا تكن كمن قال تعالى فيهم: "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ" وابتعد ما قدرت على الإفلات من هذه الهوة هوة الحسد، فالحسد" كالأكلةِ الملِحَةِ تنخرُ العظمَ نخْراً، إنَّ الحسد مرضٌ مزمنٌ يعيثُ في الجسم فساداً، وقد قيل: لا راحة لحسود فهو ظالمٌ في ثوبِ مظلوم، وعدوٌّ في جِلْبابِ صديقٍ. وقد قالوا: لله درُّ الحسدِ ما أعْدَلَهْ، بدأ بصاحبهِ فقتَلَهَ.

إنني أنهى نفسي ونفسك عن الحسدِ رحمةً بي وبك، قبل أنْ نرحم الآخرين؛ لأننا بحسدِنا لهمْ نُطعمُ الهمَّ لحومنا، ونسقي الغمَّ دماءَنا، ونوزِّعُ نوم جفوننا على الآخرين.

إنَّ الحاسد يُشْعِلُ فرناً ساخناً ثم يقتحمُ فيه. التنغيصُ والكدرُ والهمُّ الحاضرُ أمراضٌ يولّدها الحسدُ لتقضي على الراحةِ والحياةِ الطيبةِ الجميلةِ. بلِيَّةُ الحاسِدِ أنهُ خاصمَ القضاءَ، واتهم الباري في العدْلِ، وأساء الأدب مع الشَّرعْ، وخالف صاحبَ المنْهجِ صلى الله عليه وسلم. [35]

نعوذُ باللهِ من شرِّ حاسد إذا حسدْ ونسأل الله تعالى معافاته.........

 

----------------------------------------

[1] الفرج بعد الشدة (ص 47)، التنوخي، نقلًا عن لا تحزن (ص 44).

[2] أخرجه أحمد 4 / 156، والحاكم 4 / 417، وصححه الألباني في الصحيحة (492).

[3] أخرجه أحمد 4 / 310 و311، والترمذي (2073)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 2/ 208.

[4] أخرجه مسلم: (2653).

[5] لا تحزن للقرني (ص 240). بتصرف

[6]لا تحزن للقرني (ص 241).

[7] مدارج السالكين (1 / 413).

[8] أخرجه الترمذي (2073)، وأحمد (4/ 311)، وحسنه الألباني صحيح الترغيب 3456.

[9] أخرجه أحمد 4 / 154 وقال المنذري في الترغيب (4/ 307): "رجاله ثقات". وأبو يعلى (1759) والحاكم 4 / 417، قال الحافظ ابن حجر في "تعجيل المنفعة" (114): رجاله موثقون، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 306): إسناده جيد. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة 1266.

[10] تفسير ابن كثير - (8 / 201)، وانظر: سليمان حمد العودة: خطبة بعنوان: آفة العين وطرق الوقاية والعلاج، وقد استفدت منها في مواضع من هذه الخطبة.

[11] الألوسي في تفسيرها.

[12] القرطبي في تفسيرها، بتصرف.

[13] أخرجه البخاري 5738.

[14] أخرجه مسلم (2188) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.

[15] أخرجه البخارى 5739، ومسلم (97).

[16] النهاية 2 / 375، والفتح 16/ 266.

[17] شرح السنة (12 / 163).

[18] أخرجه الترمذى (2059)، والنسائي (8/ 271)، وصححه الألباني المشكاة (4563).

[19] أخرجه ابن ماجة (3509)، وغيره وهو في صحيح الجامع الصغير 1 / 212.

[20] أخرجه ابن عدى في الكامل (6/ 408) وأبو نعيم في الحلية (7/ 90) وحسنه الألباني في الصحيحة 1249.

[21] زاد المعاد 4 / 165.

[22] أخرجه أبو يعلى فى مسنده، والطبرانى فى الكبير، والحاكم فى مستدركه وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع الصغير 1 / 212.

[23] تفسير القرطبى 16 / 31.

[24] تفسير القرطبى 16 / 31.

[25] أخرجه مسلم: (2574).

[26] التمهيد 23 / 26.

[27] أخرجه الطبراني في الأوسط 2555، والحاكم 1 / 147، وصححه وأقره الذهبى، وحسن سنده المنذرى في الترغيب (4 / 150) والهيثمي في مجمع الزوائد(1 / 416)، والحافظ في الفتح.

[28] بدائع الفوائد لابن القيم (2 / 238، 245) بتصرف وزيادة.

[29] شرح السنة 12 / 166، زاد المعاد 4 / 173.

[30] أخرجه البخاري (5752)، ومسلم (220).

[31] القول المفيد (1/ 57، 58).

[32] أخرجه مسلم 5831.

[33] لا تحزن.

[34] آفة العين وطرق الوقاية والعلاج سليمان حمد العودة.

[35] لا تحزن.

 

 

الألوكة

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع