..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

رسول الله: صدقه، عزته، تواضعه، وفاؤه ..(سلسلة النبيّ القدوة -3-)

رابطة خطباء الشام

٢ ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3382

رسول الله: صدقه، عزته، تواضعه، وفاؤه ..(سلسلة النبيّ القدوة -3-)
def-img.jpg

شـــــارك المادة

مقدمة:
كلما خارتْ قوايَ وظننتُ أن الاستسلام للتيار أجدى؛ رجعتُ بروحي وعقلي إلى سيرة  القدوة الأعظم صلاة الله عليه وسلامه، فوقفتُ وقفةَ الخشوع والإجلال تجاه سنينَ من حياته الشريفة قضاها في معالجة أخلاق قومه العرب وإعدادهم لحمل مشعل الفضيلة والهدى والسير به في أقطار الدنيا؛ وما هي إلا سنوات قلائل حتى كانت دعوةُ الإسلام أعزَّ دعوة تتحرك بها الألسنة، وحتى كانت الشعوب تتجرد من عقائدها وعباداتها، بل من ألسنتها وعاداتها، لتدخل تحت لواء الإسلام وتنادي بكلمة "حيَّ على الفلاح !" في آفاق جديدة من آفاق الأرض.
عناصر الخطبة:
1- الصدق في حياة رسول الله.
2- العزة في حياة رسول الله.
3- تواضع النبي صلى الله عليه وسلم.
4- وفاء الرسول مع غير المسلمين.
5- تفاؤل الرسول صلى الله عليه وسلم.
6- تعامله صلى الله عليه وسلم مع شاب جاء يستأذنه في الزنا.

1- الصدق في حياة رسول الله:
كان رسول الله   مثالاً في صفة الصدق؛ فقَبْل بعثته لُقِّب من قِبَل قريش بالصادق الأمين؛ فقد كانوا يستودعون رسول الله صلى الله عليه وسلم حوائجهم، ويأتمنونه على أشيائهم وأسرارهم، وحينما بُعِث رسول الله وأظهر له بنو جلدته وعشيرتُه العداوة والبغض والكره والحرب؛ لم تغير هذه الظروف من أخلاقه بل ظلَّ رسول الله  صلى الله عليه وسلم على حُسْنِ خُلُقه، وظهر ذلك في ردِّ الأمانات إلى قومٍ جعلوا أنفسهم أعدى أعدائه.
وعندما أمره الله عز وجل بإنذار عشيرته الأقربين صعِد على جبل الصفا، وقال: ( أَرَأَيْتكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟" قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا )( البخاري /4770)
ومن عظمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التربوية ما تركه في نفوس أحفاده والمسلمين من بعده من حُبِّ الصدق، وأكبر دليل على ذلك ما رواه أبو الحوارء السعدي حيث قال: (قلتُ للحسن بن علي رضي الله عنه :ما حفظت من رسول الله  ؟ قال:( حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ ) (رواه الترمذي وصححه الألباني/3378)
صدق رسول الله في الحرب:
وكذلك كان حال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وقت الحرب، التي أجاز فيها الكذب على الأعداء اتِّقاء لشرِّهم ودفعًا لضررهم، ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يقل أيضًا إلاَّ صدقًا، فقبيل غزوة بدر عندما (خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر يرصدان خبر العدو وجدا شيخا فسألاه عن حال قريش فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : "إذَا أَخْبَرْتنَا أَخْبَرْنَاك". قال: أذاك بذاك؟ قال: "نَعَمْ". فلما أخبرهما قال لهما من أنتما؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نَحْنُ مِنْ مَاءٍ". ثم انصرف عنه، قال يقول الشيخ: ما من ماءٍ؛ أمن ماء العراق؟).( ابن كثير: السيرة النبوية 2/396،)
2- العزة في حياة رسول الله:
إن المسلم ينبغي أن يكون عزيزاً في حمل عقيدته، وتبليغ رسالة ربه، وافتخاره بما يحمله من مشروع سماوي فيه صلاح العباد والبلاد، كل ذلك من غير فخر ولا استعلاء على خلق الله، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعد خسارة المسلمين في غزوة أحد (صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق جبل أحد، وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تجيبوه». فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: «لا تجيبوه». فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا.
فلم يملك عمر نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك. قال أبو سفيان: اُعْلُ هُبَل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه». قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا الله أعلى وأجل». قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه». قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم». قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مُثْلةً لم آمر بها ولم تسؤني..)
( البخاري/3817)
فعندما كان الأمر يتعلق بشخص النبي وأبي بكر وعمر قال عليه الصلاة والسلام: لا تجيبوه، أما عندما تعلق الأمر بالعقيدة والتوحيد والرسالة قال عليه الصلاة والسلام: أجيبوه.
هكذا هو الاعتزاز بالدين والعقيدة، هكذا الاعتزاز بالله المولى العزيز الجليل.. (الله أعلى وأجل.. الله مولانا ولا مولى لهم).
كانت حياة رسول الله حياة زكية طاهرة من الآثام التي تدنس الشباب في مجتمعاتهم، بعيدة عن الشرك فلم يسجد لصنم قط، بعيدة عن معايب الجاهلية ومفاسدها فلم يحضر سمرهم ولهوهم وعزفهم، وعندما عرض عليه المشركون أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة رفض ذلك ونزل عليه الوحي: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)( الزمر:64) وقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ *) (سورة الكافرون)

اجعل لربك كلَّ عزك يستقر ويثبت   ..    فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزَّك ميت

3- تواضع النبي صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم مع علو قدره ورفعة منصبه أشد الناس تواضعاً، وألينهم جانباً، وحسبك دليلاً على هذا أن الله سبحانه وتعالى خيَّره بين أن يكون نبياً ملكاً، أو نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً صلوات الله وسلامه عليه.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يحب من أصحابه أن يقوموا له، وما ذلك إلا لشدة تواضعه، وهذا خلاف ما يفعله بعض المتكبرين من حبهم لتعظيم الناس لهم، وغضبهم عليهم إذا لم يقوموا لهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( من أحب أن يتمثَّل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار )( رواه أحمد والترمذي و أبو داوود، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/ 694)
وفي سنن ابن ماجه عن قيس بن أبي حازم:( أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام بين يديه فأخذته رعدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  (هوّن عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) (رواه ابن ماجه /3312 وقال الأرناؤوط: صحيح ورجاله ثقات). والقديد :هو اللحم المجفف-
- تواضعه عند الانتصار:
فقد فُتِحت عليه الدنيا ودانت له الجزيرة كلها فما أخرجه ذلك عن تواضعه وخلقه، ولما دخل مكة فاتحا منتصرا طأطأ رأسه الشريف حتى لتكاد تمس مقدمةَ الرّحل تواضعاً لله تعالى، إلى غير ذلك من الأخبار الصحاح والحسان، التي زخرت بها كتب الحديث، والسير، والشمائل المحمدية.(السيرة النبوية على ضوء المصادر الأصلية 2/657)
فما أحوجنا اليوم إلى التأسي بقدوتنا وأسوتنا صلى الله عليه وسلم وخاصة عند الفتوحات والانتصارات، وأن ننسب الأمر إلى الله ونسجد له شاكرين ضارعين.
4- وفاء الرسول مع غير المسلمين:
من صور عدل الرسول  صلّى الله عليه وسلّم مع غير المسلمين أنه كان لا يأخذُ الجميع بظلم الواحد، ولا يعمِّمُ في الأحكام؛ ففي كل قبيلةٍ الصالح والطالح، وفي كلِّ فريق الوفي والغادر، ولا يعاقب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدًا بذنبٍ ارتكبه آخرون، ولو كان هذا الذنب عظيمًا جدًّا.. قال سبحانه: ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (المدثر: 38)
وقال تعالى:  ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )(الأنعام:164)
ومن الأمثلة البارزة في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ، والتي تدلُّ بجلاءٍ على هذا المعنى ما حدث من عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه بعد حادثة بئر معونة، والقصة بإيجاز كما رواها أَنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم ( أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لَحْيَانَ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَمَدَّهُمُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ، يَحْطِبُونَ بِالنَّهَارِ، وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ. فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ ). (البخاري:2899)
فهذه كارثة أصابت المسلمين، وراح ضحية الغدر فيها سبعون من كرام الصحابة –رضي الله عنهم أجمعين-، ووصل الأسى والحزن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن مكث شهرًا كاملاً يدعو على هؤلاء الغادرين، وهذا ليس أمرًا معتادًا في حياته صلّى الله عليه وسلّم، بل لعلها المرة الوحيدة التي وصل فيها حزنه إلى هذه الدرجة، ولم ينجُ من هذه الكارثة إلا صحابي واحد هو عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه، الذي أعتقه عامر بن الطفيل لرقبة كانت على أمه، وعاد عمرو بن أمية إلى المدينة المنورة، وفي طريق عودته التقى برجلين من المشركين من بني عامر، وهي فرع من فروع بني سليم التي قامت بقتل الصحابة السبعين، فرأى عمرو بن أمية أن قتلهما يعدُّ ثأرًا لأصحابه، فقتلهما بالفعل، ثم فوجئ بوجود عهد لهما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأمان، فعاد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحكى له القصة، فماذا كان ردُّ فعله  ؟!
لقد تناسى صلّى الله عليه وسلّم أحزانه تمامًا، وحكَّم دينه وعقله، ولم يُحَكِّم عاطفته وهواه.. لقد قال لعمرو بن أمية:(لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ لأَدِيَنَّهُمَا) . لقد قرَّر أن يدفع الدية لأهلهما!!
إنه صلّى الله عليه وسلّم لم يقُلْ: لقد خان الآخرون العهد وقتلوا سبعين، فمن حقي أن أخونَ العهد وأقتل رجلين.. إنه لا يأخذ أحدًا بجريرة أحد.. الرجلان العامريان لم يخطئا، ولم يرتكبا ذنبًا يستحق القتل، ومعهما عهدٌ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؛ فلا يجب أبدًا أن يُقتلا مهما كانت الظروف.
وليست الأزمة السياسية فقط هي الأزمة الوحيدة التي حدثت نتيجة قتل الصحابة السبعين، بل كانت هناك أزمات أخرى تمر بها المدينة المنورة، وقد تكون هذه الأزمات عاملاً مؤثرًا في اتخاذ القرار، وأهم هذه الأزمات هي الأزمات الاقتصادية، فقد كانت المدينة المنورة تمر بحالة شديدة من الفقر والاحتياج، وخاصة أن هذه الأحداث تقع بعد غزوة أحد بشهور، ومن ثَمَّ فهناك صعوبة كبيرة في تجميع القيمة المطلوبة لدفع الدية.. وسوف يحتاج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم  أن يتعاون مع اليهود بموجب الاتفاقية التي بينهما لجمع الدية اللازمة، وقد يدخل في أزمة مع اليهود؛ بسبب هذا المال المطلوب.
إنها أزمات مركَّبة ومتعددة..
فليس العامل النفسي والقلبي هو الذي يؤثر على الموقف فقط، ولكن العامل الاقتصادي والسياسي أيضًا، ومع ذلك فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حرص على أداء الدية، وبالفعل توجه إلى بني النضير ليسألهم المساهمة في الدية كما قضى الاتفاق الذي بين المسلمين واليهود، وكانت هذه الزيارة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني النضير سببًا في غزوة بني النضير كما هو معلوم في السيرة.( البخاري /كتاب المغازي).
أهناك في العالم -القديم والحديث- عدلٌ على هذا المستوى؟!
ألم تقل عنه زوجه عائشة رضي الله عنها: ( كان خلقه القرآن)(رواه أحمد/ 24601، وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير/4807)
والقرآن يقول: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا) (المائدة :8)
هل هناك من يدَّعِي بعد كل ذلك أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان لا يعترف أو لا يحترم أو لا يعدل مع غير المسلمين؟!
إن ما نرويه هنا لَيُعَدُّ في حسابات الكثير من الناس ضربًا من الخيال، أو لونًا من ألوان الأساطير، ولكن الإسلام يحقِّق فعلاً على أرض الواقع ما لا يمكن تَخَيُّلُهُ في الأحلام والتخيَّلات.
وما قلناه في حق العامِرِيَّيْنِ اللذيْنِ قُتِلا، وموقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهما يُعتبر نقطة في بحر إذا ما قِيس بما فعله صلّى الله عليه وسلّم بأموال أهل مكة، التي كانت في حوزته قبل أن يهاجر إلى المدينة المنورة.
والموقف مشهور ومعروف، ولكن يحتاج إلى وقفات وتدبُّر..
5- تفاؤل الرسول صلى الله عليه وسلم
التفاؤل، ذلك السلوك الذي يصنع به الرجالُ مجدَهم، ويرفعون به رءوسَهم، فهو نورٌ وقتَ شدةِ الظلمات، ومخرجٌ وقتَ اشتدادِ الأزمات، ومُتَنَفَّسٌ وقتَ ضيقِ الكربات، وفيه تُحَلُ المشكلات، وتُفكُ المعضلات، وهذا ما حصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تفاءل وتعلق برب الأرض والسموات؛ فجعل الله له من كل المكائد والشرور والكُرب فرجًا ومخرجًا.
فالرسول صلى الله عليه وسلم من صفاته التفاؤل، وكان يحب الفأل ويكره التشاؤم؛ ففي الحديث الصحيح عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة). البخاري/5756، ومسلم/2224
وإذا تتبعنا مواقفه صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، فسوف نجدها مليئة بالتفاؤل والرجاء، وحسن الظن بالله، بعيدة عن التشاؤم الذي لا يأتي بخير أبدًا.
- فمن تلك المواقف ما حصل له ولصاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- وهما في طريق الهجرة، وقد طاردهما سراقة، فيقول أبو بكر: ( أُتِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا - أُرَى - فِي جَلَدٍ مِنَ الأَرْضِ، - شَكَّ زُهَيْرٌ - فَقَالَ: إِنِّي أُرَاكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ، فَادْعُوَا لِي، فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ، فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَجَا، فَجَعَلَ لاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ: قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هُنَا، فَلاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ..) (البخاري/ 3615، ومسلم/2009)
- ومنها تفاؤله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار مع صاحبه، والكفار على باب الغار وقد أعمى الله أبصارهم؛ فعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، حَدَّثَهُ قَالَ: (نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا) (البخاري/4663، ومسلم/2381)
ومنها تفاؤله بالنصر في غزوة بدر، وإخباره صلى الله عليه وسلم بمصرع رءوس الكفر وصناديد قريش.
- ومنها تفاؤله صلى الله عليه وسلم عند حفر الخندق حول المدينة، وذكره لمدائن كسرى وقيصر والحبشة، والتبشير بفتحها وسيادة المسلمين عليها.
- ومنها تفاؤله صلى الله عليه وسلم بشفاء المريض وزوال وجعه بمسحه عليه بيده اليمنى وقوله: (لا بأس، طهور إن شاء الله). (البخاري /3616)
كل ذلك وغيره كثير، مما يدل على تحلِّيه صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة الكريمة.

فما أحوجنا اليوم إلى التفاؤل بعد هذه المحن والنكبات التي حلَّت بأمتنا وديننا

يا صاحب الهم إن الهم منفرج ...   أبشر بخيــــــر فان الفــــــارج اللــه
اليأس يقطع أحيانا بصاحبــــــــــه ...   لا تيأسن فان الكافـــي اللـــــــه
الله يحدث بعد العسر ميســــرة  ...   لا تجزعن فإن الصانع اللـــــــــــه
وإذا بليت فثق بالله وارض بــه  ...   إن الذي يكشف البلوى هو الله
والله مالك غير الله من أحــــد  ...   فحسبك الـــــله في كلٍ لك اللـــه

6- تعامله صلى الله عليه وسلم مع شاب جاء يستأذنه في الزنا:
روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح: (أن شاباً -تغلي الشهوة في عروقه- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: يا رسول الله! أتأذن لي في الزنا؟ -يستأذن رسول الله في الزنا- فقال الصحابة: مه! مه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ادن -أي: اقترب، لم يقل: اطردوه، أخرجوه، أخرجوا هذا النجس الفاسد الفاسق، لا- ويقترب الشاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأله النبي صلى الله عليه وسلم برفق وحب وحنان وخلق: أتحبه لأمك؟ فيقول: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، فيقول: أتحبه لأختك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه لابنتك؟ أتحبه لخالتك؟ أتحبه لعمتك؟ والشاب يقول: لا والله جعلني الله فداك، فيقول: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم وبناتهم، وأخواتهم، وعماتهم وخالاتهم، ومع كل ذلك يرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده المباركة الشريفة ليضعها على صدر هذا الغلام ويدعو الله عز وجل له ويقول: (اللهم اشرح صدره! واغفر ذنبه! وحصن فرجه)، فيخرج الشاب من عند رسول الله ولا يوجد على الأرض شيء أبغض إليه من الزنا)( رواه أحمد/22211، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة1/712)
إننا لا نتعامل مع ملائكة بررة، ولا مع شياطين مردة، ولا مع أحجار صَلدةٍ، بل نتعامل مع نفوس بشرية فيها الإقبال والإحجام.. فيها الحلال والحرام.. فيها الخير والشر.. فيها الطاعة والمعصية.. فيها الفجور والتقوى.. فيها الهدى والضلال، فلابد أن نكون على بصيرة بمفاتيح هذه النفوس البشرية؛ لنتغلغل إلى أعماق أعماقها، هذا إن كنا قد صدقنا الله بالفعل في أننا نريد أن ننقل الناس من البدعة إلى السنة، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الباطل إلى الحق، ومن الشر إلى الخير، ومن الضلال إلى الهدى، أما إن كنا نعمل من أجل أنفسنا ومن أجل الهوى فذاك شأن آخر، لكن إن كنت تريد بالفعل أن تنقل الناس من الباطل إلى الحق، فبحق، ولن تنقلهم أبداً إلا بحق، قال جل وعلا لنبينا صلى الله عليه وسلم: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [يوسف:108].
قال ابن القيم رحمه الله: (ولا يكون الرجل من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرة).

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع