..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مرصد الثورة

شيء من عذابات المعتقلات

عابدة فضيل المؤيد العظم

١٥ ٢٠١٣ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 9171

شيء من عذابات المعتقلات
00.jpg

شـــــارك المادة

أليس في بيتك موضع صغير محصور بين الغرف لا فتحة له ولا شباك سوى مجموعة من الأبواب؟

أَغْلق الأبواب كلها وأطفئ الأنوار، واجلس هناك في الموضع ذاك وحدك بلا سجادة تفترشها ولا كتاب يؤنسك، ولا هاتف أو أي وسيلة من وسائل الاتصال مع العالم ولا أي وسيلة من وسائل التسلية، أو من وسائل الراحة كالتبريد أو التدفئة أو أريكة...

 


اجلس فيها ساعتين في سكون الليل في العتمة، بل اجلس ساعة واحدة، بل نصف ساعة، واشرح لنا مشاعرك...
تلك المشاعر المتضاربة المتفاوتة... التي يمتزج فيها البؤس والألم واليأس والقلق والترقب...
قد تشعر بالاختناق وقد يصيبك الاكتئاب وقد تنهار... هذا شيء بسيط مما عانت منه مجموعة من المعتقلات في السجون السورية...
فهل يعلم الناس بالتفاصيل الصغيرة ما الذي يحدث داخل السراديب والمعتقلات؟

لقد يسر الله لي لقاء بعض المعتقلات وسمعت من كل واحدة معاناتها ورأيت دموعها، وشعرت برجفة صوتها وبالغصة العميقة التي لم تفارقها وهي تسرد قصتها...
الفتاة الأولى كانت في الخامسة والعشرين، رفضت الإعلان عن اسمها على الملأ وتخفت خلف اسم مستعار، قالت لي أشياء كثيرة حزينة وصوتها يتهدج، وأنهت حديثها بأنها تأمل بأن تمسك جلادها بيديها وتضربه وتعذبه وتفعل به كل ما فعله بها، فقد أغلظ عليها بالقول والفعل والتعذيب والإهانة... وعقبت: إن "رجال الأمن" لا يمتلكون أية مشاعر إنسانية، ولا يعرفون ما هي الرحمة، هؤلاء ليسوا بشراً على الإطلاق، يأتون إلى البيت فجأة ويختارون وقت النوم والراحة، يحاصرون البناء ويدخلون الدار كالإعصار، يتكلمون بألفاظ بشعة ولهجة مقززة يفتشون البيت وقد يقلبونه ويفسدون متاعه ويهينون ساكنيه، ثم يسحبون البنت بكل وحشية إلى سياراتهم ويمضون إلى المجهول تاركين أمها تبتهل وأبوها يتضرع وأخوها يساوم...
وإن أصعب شيء في المعتقلات التعذيب النفسي، يأخذونك فلا تعرف إلى أين؟ وتترقب حذراً .. كيف سيستدرجونك بالكلام وبأي الوسائل الوحشية سوف يستعينون عليك لتعترف؟

وفي غرفة التحقيق يستفردون بالفتاة، كلهم أعداء ووحوش آدمية، وهي بين يديهم وحيدة ضعيفة، فيضربون البنت على وجهها ويصفعونها بقسوة، ويدفعونها بغلظة فتقع أرضاً، فيدعسون عليها، ويركلونها كما تركل الكرة، يرفسها كل داخل للغرفة وكل خارج.
تخيلوا الصورة:
فتاة نحيلة لا يزيد وزنها عن 49 كغ تتلقى ضربات من حذاء ضخم عسكري محصن ومقاسه لا يقل عن 43... ماذا ستفعل بجسمها تلك الركلات، وماذا ستفعل الجلافة بقلبها الصغير وبراءتها وجهلها بقسوة الحياة؟!
وهل ستصمد تحت ثقل وزنهم حين يقفون فوق جسمها الناعم الطري ويضحكون ويضغطون بكل ثقلهم عليها (وأوزانهم قد تفوق المئة)؟!

قالت لي: وكنت أضع جهاز تقويم على أسناني ومع كل كف يضربون به وجهي تخرج نافورات من الدم من مناطق مختلفة من لثتي وتكثر الجراح في فمي وتلتهب، ولا يكترثون بل يزيدون في عذابي ويتحسسون جروحي ويتقصدون المكان الحساس المؤلم ليتابعوا الضرب عليه، لم أكن أرتضي البكاء وأراه ضعفاً ولكني بكيت، وبكيت كثيراً... عذبوني وضربوني بأسلاك الكهرباء حتى ما عدت أستطيع الوقوف على رجلي، وإن آثار التعذيب تبقى وتتجدد في سجونهم كل يوم، ومازالت باقية على ساقي فلما أرادوا الإفراج عني (بعد أشهر من الاعتقال) وجدوني عاجزة لا أستطيع الوقوف على قدمي من الألم والجراح والإعياء فتركوني مدة إضافية حتى استطعت المشي بصعوبة وبعرجة واضحة.

وهكذا تمضي الليالي في السجون ثقيلة وبطيئة وقميئة: "الثانية" دقيقة، و"الدقيقة" ساعة و"اليوم" سنة بحالها... أيام السجن محملة بالقهر والعذابات، وأكثر ما آلم تلك الصبية وحطم نفسيتها في سجنها "صفقة المبادلة" التي تمت بين الثوار وبين النظام، إذ آلمها أنهم اختاروا 300 معتقل وما كانت من بينهم (وهو عدد كبير نسبياً) فشعرت بالغبن والقهر وفقدت صوابها وإحساسها بالمكان والزمان... صرخت بأعلى صوتها، سَبَّت الرئيس وسَبَّت الثوار. ثم سقطت على الأرض، وأصيبت بانهيار عصبي.
أخذوها للمشفى وأعطوها إبرة نامت من تأثيرها نصف ساعة، ثم عادت للصراخ وتدهورت حالتها ودخلت المشفى عدة مرات وقضت فيه عدة أيام.

وقابلت المزيد من الفتيات وكلهن رفضن الإفصاح عن أسمائهن رغم إقامتهن خارج سوريا، كلهن خائفات!
ألهذه الدرجة وصل تأثير النظام؟! وامتد لآلاف الكيلو مترات خارج حدود الوطن؟

أكثرهن في العشرين، صغيرات وغير متزوجات ولا يعرفن شيئاً من الدنيا بعد، بدأت كل واحدة منهن حياتها الواعدة وأحلامها الوردية في سجون الإرهاب.
وعلمت منهن أن مئات البنات جربن "المنفردة" في السجون الأسدية، غرفة طولها متر وعرضها نصف متر وبابها ثخين سميك كالجدار، ما لها إلا طاقة صغيرة في السقف، والطاقة هي وسيلة الاتصال الوحيدة بين الفتاة وبين جلادها، يرمون البنت في تلك الغرفة ويقفلون الباب ويرحلون، وما أدراك ماصوت القفل وما الذي يصنعه في النفوس من تأثير ومن مشاعر سلبية مخيفة؟!

وتجلس الفتاة وحدها خلف الباب الموصد، تحاول معرفة الليل من النهار، والصيف من الشتاء، تقف على رؤوس أصابعها لعلها تشعر بنسمة المساء في الصيف أو بدفء الشمس في الليالي الباردة ليس في الغرفة إلا بطانية شتوية تنام عليها فكأنها تنام على الأرض الجرداء، لا تستطيع مد رجليها -في غرفة طولها متر- فتتكور على نفسها حتى يبس جسمها ونحل عودها.

وتنام المعتقلة على الأرض بالمنفردة أياماً وليالي طويلة، وتعاني من مشاعر قاسية تشعر بأن العالم تخلى عنها وتابع حياته ونسيها.
هي وحدها مع الحشرات، والباب مقفل ويصاحبها أحياناً جرذ أو أكثر يتجول هنا أو هناك، والصراصير تستوطن المكان وكم أيقظتها وهي تمشي على وجهها أو يديها.

وللنساء ظروف معينة وحاجات خاصة تكرر كل شهر، والبنت تستحي وتخفي وضعها هذا عن أبيها وأخيها فلما دخلت السجن اضطرت لطلب حاجتها من سجانها، وكم شعرت بالظلم والقهر أن يطلع رجل مجرم غريب على أسرارها ويعرف أخص خصوصياتها وقد حرصت كل الحرص على إخفاء ذلك الأمر عن أقرب الناس إليها. الأمر الذي زاد عذابها وحنقها على سجانيها.

الوضع فظيع داخل السجون والأمراض منتشرة فيه بكثرة، بما فيها الأمراض القديمة التي انقرضت، لقد رجعت الأمراض وغزت المعتقلات والسجون فتصاب واحدة من كل عشرين معتقلة بمرض مزمن عضال... أمراض حاربها العالم لعقود فذهبت وبادت واستطاع النظام الأسدي استحضارها من جديد، باستنبات جراثيمها في أقبيته العفنة (مثل السل والطاعون).
ولقد ظهرت في المعتقلات أمراض جديدة وحساسية من نوع غريب، فسقط شعر إحداهما حتى صلعت، ولازمت الأخرى حكة جلدية واحمرارا لم يفارقها حتى اليوم وقد غادرت السجن من شهور.

هذا بعض ما سمعت، وأكتفي به كيلا أطيل عليكم، وأختم بتذكرة صغيرة:

أيها القارئ الكريم تنتظر أنت ساعة عند طبيب الأسنان أو دقيقتين عند إشارة المرور فتتضجر وتشعر بوقتك يهدر ويضيع بالانتظار، ويعلق بك المصعد بين طابقين فتثور وتدق الباب وتنادي النجدة وتشعر بالاختناق.. فماذا تقول السجينات وهن حبيسات في مساحة تساوي مساحة مصعد صغير لا يكاد يتسع لخمسة أشخاص، وفي ظروف سيئة ومكان وسخ ليس فيه أي شيء من مقومات الحياة وفوقها فيه الذل والضرب والإهانة والتعذيب وتوريث الأمراض النفسية والجسمية؟

ويؤلمك فكك فلا تنام الليل حتى إذا أصبح الصباح كنت في عيادة الطبيب، أو تغدو من ليلتك إلى الطوارئ، فكيف بمن كانت آمنة في بيتها معافاة في بدنها فتسببوا لها بالعاهات والأمراض والآلام المبرحة والقروح والكسور... وعن سابق عمد وإصرار؟

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع