..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

انتصار حلب

جهاد خيتي

٢٣ ٢٠١٦ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 4079

انتصار حلب
1.jpg

شـــــارك المادة

 

انتصار حلب

خَلَّدَ الله -جل شأنه- في القرآن الكريم ذِكرَ عددٍ من الأشخاصِ والأقوامِ، عدّهم منتصرين وفائزين، رغم أنهم عُذِّبوا وقُتلوا على أيدي أعدائهم!
انتصار المؤمنين الذين أحرقوا في الأخدود:
ففي سورة البروج، [الآيات: 1-11] يخبرنا الله -عزوجل- عن قوم آمنوا بالله واتبعوا الحق الذي جاء من عنده، ولما لم يُفلح الكفار في صرفهم عن دينهم أحرقوهم في الأخدود.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} أي لُعن أصحاب الأخدود الذين حفروه وأضرموا فيه: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}، ثم ألقوا فيها المؤمنين والمؤمنات، {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} ليشرفوا على تعذيب المؤمنين وحرقهم، {وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
لقد استخدم أصحاب الأخدود وهم من يملك السلطة والسطوة، والجنود والقوة؛ استخدموا السلاح المعتاد في أيدي أهل الباطل: سلاح التعذيب والتنكيل والقتل، فهو ملجأ أهل الباطل في كل زمان ومكان حين يصطدمون بصلابة المؤمنين وثباتهم. وهذا السلاح -بلا شك- هو سلاح الضعفاء، فأهل الباطل يخفون وراء قوتهم وسطوتهم ضعفًا شديدًا في العقيدة والإيمان، والحجة والبرهان، وضعفًا في الحكمة والرأي، وضعفًا في الضمير، وضعفًا في الأخلاق؛ فيعمدون إلى تغطيته بالقتل والتنكيل.
وحين وجد المؤمنون أنفسهم أمام هذا الاختبار الهائل: إما الإيمان وإما الكفر، اختاروا الإيمان ولو على حساب أرواحهم، فاقتحموا الأخدود راضين بقدرهم، وألقوا بأنفسهم في النار التي أوقدها لهم الكفار دون تردد، ولما تقاعست امرأة منهم لأجل رضيعها الذي بين يديها أنطقه الله فقال: (يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ)؛ فاقتحمت، كما جاء في حديث صهيب -رضي الله عنه- في صحيح مسلم، رقم (3005).
ثم يخبرنا الله -تعالى- عن مصير الفريقين فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} في الآخرة، {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} عذاباً مضاعفاً في جهنم، أو قبلها في الدنيا أو البرزخ؛ بما أحرقوا المؤمنين؛ فإن الجزاء من جنس العمل.
الذي يهمنا من إيراد هذه القصة: أن الله -تبارك وتعالى- وَصَفَ نهاية هؤلاء المؤمنين المعذَّبين المُحرّقين في النار بأنها فوز كبير! {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}، ووَصْفُ الفوزِ الكبير لم يأت في القرآن إلا في هذا الموضع. فهؤلاء هم المنتصرون في الحقيقة، وما ذاك إلا لأنهم ثبتوا على إيمانهم بالله، والتعلق به سبحانه، وضحّوا بأنفسهم في سبيل نصرة الحق، وما زالت تلك طريقتهم حتى لقوا الله تعالى.
انتصار الغلام الذي قتله الملك:
وفي تفاصيل قصة المؤمنين الذين أحرقوا في الأخدود يخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الغلام الذي كانت هداية الناس على يديه، وكيف أنه انتصر على الملك الكافر انتصاراً ساحقاً، حيث قاده إلى النطق بكلمة كانت سبباً في إيمان الناس رغم أنفه، في حين أنها كانت سبباً في مقتله!
قال صلى الله عليه وسلم: (فَقَالَ [الغلام] لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ! فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا) رواه مسلم، رقم (3005).
انتصار حبيب النجار على قومه:
قال -تعالى- في سورة يس، [الآيات 13-27]: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} وهنا يتدخل رجل مؤمن، اتبع المرسلين وصدّقهم، ذكرت كتب التفسير أن اسمه: "حبيب بن مري النجار"؛ فينصح قومه نصيحة مشفق، {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} فما كان من قومه إلا أن قتلوه أبشع قِتْلة: وثبوا عليه، فوطِئوه بأقدامهم حتى خرج قَصَبُه (أي: أمعاؤه) من دُبُره؛ فمات، وقيل: رجموه بالحجارة، ولم يكن أحد يدافع عنه لضعفه ومرضه.
أترى هؤلاء القوم انتصروا حين قتلوه؟ كلا.
لذلك فقد حسم الله هذه القضية ببيان المنتصر الحقيقي، فقال عن هذا المؤمن: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} إنه الانتصار الأعظم الذي أنزل الله فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.
انتصار ياسر وسميّة رضي الله عنهما:
لا أدري لماذا تحضرني قصة هذين الصحابيين عندما أرى حال المسلمين في هذا الزمان، فياسر وسميّة -رضي الله عنهما- كانا في غاية الضعف: فهما مملوكين، في مجتمع تسوده ثقافة التفريق المقيت بين الأحرار والعبيد، ثم إن الذي كان يعذّبهما ويشرف على تعذيبهما بسبب إسلامهما: فرعون هذه الأمة، أبو جهل عمرو بن هشام، الذي آتاه الله منزلةً وسلطةً في قومه، وقوةً في بدنه، وكثرةً في ماله، فسلّطها كلها في محاربة الله ورسوله وأوليائه. ومحمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وهو رسول الله، لم يكن يملك لهما نصراً، فكان لا يزيد على قول: (صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ). رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (10/89)، والحاكم في المستدرك (5646)، وصححه، ووافقه الذهبي.
لقد أنهى أبو جهل حياة هذين الصحابيين، فقد دفعه حقده عليهما وغيظه من ثباتهما على كلمة التوحيد إلى قتل ياسر -رضي الله عنه- تحت التعذيب، ثم طعن سميّة -رضي الله عنها- في قُبُلها بحربة؛ فكانت أول شهيدة في الإسلام.
إن ما فعله أبو جهل لا يجعله -وبكل مقاييس الدنيا- منتصراً أبداً، بل هو مهزوم خاسر؛ لأنه -أولاً- قد استخدم قوته وبطشه في قتل شخصين ضعيفين مقيّدَين، لاحول لهما ولا قوة، ثم إنه أراد بقتلهما التغطية على عجزه عن إرجاعهما إلى دينه الباطل، سواء بالإقناع أو بالإغراء أو بالتعذيب، فلم يجد مهرباً من ورطته إلا بإنهاء حياتهما.

انتصار أهل حلب:
لك الله أيتها المدينة الحبيبة، لكم الله يا أهل حلب المؤمنين.
لقد تكالبت على حلب وأهلها قوى الشر كلها، واجتمعت عليهم المحن والمصائب من كل جانب، فالحصار والقصف الذي طال المدينة لم يتوقف منذ سنين، ثم اشتد منذ أشهر طويلة ليوهن أهلها ويزيد في معاناتهم.
واجتمع على قتالهم النصيريون، وأعوانهم من الروافض المجرمين، الذين قدموا من العراق ولبنان وإيران وأفغانستان بأحقادهم لقتل أهل السنّة والتنكيل بهم، تساندهم قوة جوية هائلة لأحلافهم النصارى الروس؛ فأنهكوهم قصفاً وحرقاً وتدميراً.
ولمّا ثبت أهل حلب ثبات الأبطال، ولم يقبلوا أن يستسلموا ولا أن يعطوا الدنيّة في دينهم وحريتهم وكرامتهم، أغاظ ذلك قوى الشر المتحالفة ضدهم، فزادوا من عتوّهم وإجرامهم، وارتكبوا من المجازر ما يندى له الجبين: هدموا البيوت فوق رؤوس أصحابها المدنيين العزّل، وصبوا حمم القنابل بكل أشكالها المسموحة والمحرّمة دولياً، ثم قصفوا المستشفيات التي تعالج الجرحى حتى أخرجوها عن الخدمة، ولما فرّ بعض الأهالي من المعبر الوحيد بين شرق وغرب حلب قتلوهم هناك في مشهد دموي مريع؛ حتى اضطر أهل حلب إلى الاستسلام والخروج منها.
إن التغلّب الذي حصل للقوى المعادية لأهل السنّة في حلب لا يعدّ انتصاراً حقيقياً، فلا المعركة متكافئة، ولا موازين القوى متساوية في حدّها الأدنى، بل إن تسمية حربَ الإبادةِ هذهِ (معركةً) غير دقيق، فالمعركة تكون بين جيشين، أما في حلب فالمدنيون طرف مهمّ فيها؛ عليهم يقع كمٌّ هائل من القتل والتنكيل والتشريد. والمعركة تكون بين طرفين، أما أن تكون بين قوى الشرّ في العالم ضد مجموعة صغيرة من الناس، فهذه ليست معركة، ولا الانتصار فيها انتصار.
لقد انقسم العالم تجاه ما يجري في حلب إلى ثلاثة أقسام: قسم ساعد الظالم، وأعانه على ظلمه، وعلى رأس هؤلاء إيران وروسيا. وقسم تآمر معه مؤامرة مفضوحة، فسكت على ظلمه، واكتفى بالتنديد والدعوة للمؤتمرات، وادعاء صداقة الشعب السوري المظلوم. وقسم عاجز لا يقدّم ولا يؤخر، وقسم غافل متغافل، لا يهمّه ما يجري. فأي انتصار هذا؟
ثم إننا رأينا أهلنا في حلب وهم يخرجون بالباصات الخضر، صحيح أن الحصار والقتل والدمار والجراح والأمراض قد أنهكتهم، لكنها لم تضعف من عزائمهم، لقد خرجوا وكلهم إصرار على أنهم غير مهزومين، وأنهم أصحاب حق، وأنهم عائدون إلى ديارهم التي أخرجوا منها، نجد ذلك في وجوههم ونظرات عيونهم قبل أن نسمعها من أفواههم، فهل هذه هزيمة؟
إن انتصار الأسد والرافضة وروسيا ومن تبعهم على حلب: هو كانتصار أصحاب الأخدود ومَلِكِهم على المؤمنين، وكانتصار أهل القرية على حبيب النجار، وكانتصار أبي جهل على سميّة وعمّار؛ انتصارٌ زائفٌ، لا يلبث أن ينقلب على من يدّعيه، ولا يلبث الحق أن يعود لأصحابه، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
حلب لم تهزم، بل قاتلت بشجاعة حتى النهاية، في حرب أكبر منها بكثير، وليست هي هدف الأعداء الأخير، بل هدفهم أهل السنّة في العالم أجمع.
وأهل حلب هم من حفظ للأمة كرامتها، وأراها معنى الصمود، وضرب لها المثل في الصبر والمصابرة والرباط والتضحية، وأسقط ورقة التوت الأخيرة عمن يدعي الانتماء للأمة، ويباهي بالشجاعة والرجولة.

 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع