..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

القرآن دستورنا

عباس شريفة

٢ ٢٠١٦ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 6409

القرآن دستورنا
دستورنا 000.jpg

شـــــارك المادة

هذا الشعار هو جزء من أزمة التعامل مع الشعارات الراقية ذات الوهج العاطفي التي تربت عليها قواعد الحركة الإسلامية وروادها وتعاملت معها تعاملاً مغلوطاً بتضخيم مظاهرها وتسطيح مضمونها على نحو يجعل من الشعار عبئاً فكرياً وعقدة منهجية في مسيرة الحركة الإسلامية مما يشكل عندها حالة من الرفض لما تتوهم أنه منافٍ لحقيقة ما تنادي به من شعارات وأهداف.
إن كلمة الدستور ليست عربية الأصل ولم تذكر القواميس العربية القديمة هذه الكلمة ولهذا فإن البعض يرجح أنها كلمة فارسية الأصل دخلت اللغة العربية عن طريق اللغة التركية، ويقصد بها التأسيس أو التكوين أو النظام.
الدستور هو القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيطة أم مركبة) ونظام الحكم (ملكي أم جمهوري) وشكل الحكومة (رئاسية أم برلمانية) وينظم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات التي بين السلطات وحدود كل سلطة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضع الضمانات لها تجاه السلطة.
بهذا المعنى صار الدستور ضرورياً لضبط التعاقد السياسي بين الأمة والسلطة في الدول الحديثة وكلما كان هذا الدستور مفصلا مكتوبا مراعيا للدين والأعراف والثقافة والهوية كان ضماناً لاحتواء أي أزمة سياسية حافظاً للحقوق مبيناً للواجبات بلا وكس ولا شطط ولا حيف ولا جنف ومعبراً عن حالة راقية من التعاقد السياسي بين الشعب وحاكمه.
إن أزمة الحضارة الإسلامية أزمة دستوريّة في جوهرها، بدأت بوادرها يوم السقيفة، وانتهت إلى فتنة عمياء في (الجمل)، ثم شبّت حرباً هوجاء في (صفّين).
واستمرت إلى أفول الخلافة العثمانية كمعبر عن الوحدة السياسية للأمة وعليه غاب المسلمون عن التأثير في المشهد الدولي. وتولت جل دويلاته إلى دول وظيفية تدور في ركب النظام العالمي.
وبدلاً من أن ينهض الفقهاء في علاج مبدأ الانحراف عملوا على تكريسه وتبرير هذا الخلل في العقد  السياسي الذي شاع بسببه الفساد السياسي في كل أجهزة الحكم الإسلامي.
ولا يزال البعض يصر على رفض فكرة أن يكون للأمة دستوراً ينظم العلاقة بين الحاكم والأمة بذريعة أن القرآن هو دستورنا ومن وافق منهم فإنه يجعل من الدستور شكلا بلا مضمون يوسع فيه صلاحيات الحكام ويحصنه عن الرقابة والمحاسبة بما يشبه عقود الإذعان.
هنا لا بد أن نقف ملياً عند الشعار الذي يرفعه البعض ليجهض كل دعوة للإصلاح الدستوري بقوله (القرآن دستورنا) ماذا يقصد بهذا الشعار وماذا يبغي من ورائه.
هذا الشعار إن قصد بها عدم الخروج عن صريح الكتاب فصحيح وإن كان القصد نسف فكرة أن يكون للدولة دستورا مكتوبا كعقد سياسي فكلام باطل.
جاء القرآن بقيم سياسية ولم يأت بنظام سياسي محدد وترك هذه التفاصيل التي تشكل مساحة الفراغ التشريعي لاجتهادنا بما لا يخالف القطعي.
ولو كان القرآن وحده كاف لضبط نظام الأمة السياسي لما احتاج إلى بيان السنة ولو كانت السنة كافية لما احتاجت للذين (يستنبطونه منهم).
فمعظم المصالح المرسلة سكت عنها الكتاب والسنة والناس متفاوتون في إدراك هذه المصالح فما هو السبيل لترجيح مصلحة على أخرى.
فالقرآن لم يفصل في كل شيء والخلاف بين الأمة لا يكمن في الكليات وإنما في الجزئيات فتحديد التفاصيل لتلافي الخلاف السياسي فيه مصلحة كبيرة.
ثم إن مقولة القرآن دستورنا يرفعها البعض كشعار في مواجهة الحلول العلمانية وليس في رفض صياغة دستور للأمة لا يصادم الشريعة ليكون بمثابة العقد السياسي الذي يفصل الحقوق والواجبات بين الأمة وحكامها.
فإذا كان القرآن ندبنا إلى توثيق عقد المداينة في أطول آية في كتاب الله حفظاً لحق الدائن فكيف نحرم توثيق عقد البيعة في دستور يرعى حق أمة. بما أن البيعة بين الأمة والحاكم هي عقد فأين المشكلة في أن نكتب بنود هذا العقد على وجه من التفصيل الذي يحدد الصلاحيات ويضمن الحقوق ويمنع الاستبداد والطغيان.
لكن أصحاب منطق فقه التغلب السياسي ممن يرفضون فكرة الدستور يقيسون عقد البيعة على عقد الرق والوصاية حيث تكون الأمة مسترقة عند السلطة والحاكم وصياً عليها وليس على عقد الوكالة والإجارة حيث يكون الحاكم وكيلا وأجيراً لدى الأمة.

فرفض فكرة الدستور من شأنها أن تؤسس لحقبة من الاستبداد الديني والسياسي من خلال احتكار جماعة بعينها الحق الحصري في فهم الكتاب وحمل الأمة على هذا الفهم دون أن يكون للأمة حق الاعتراض.
إن من يرفع شعار القرآن دستورنا للطعن في كل جهد بشري لتقنين النظام السياسي الإسلامي لا يختلف عن مقولة الخوارج لا حكم إلا لله وتسمية الاجتهاد حكم البشر لجعله حكما مصادماً لحكم الله  تلويحاً بعصا التكفير للمخالف.
ولأن أغلب نصوص الكتاب ظنية الدلالة ومعظم آياته حمالة ذات أوجه وهذا يجعل من مسألة الدستور حاجة ضرورية لمراعاة المصالح المرسلة ورفع الخلاف فسلطة الدستور الإسلامي منوطة في دائرة ترجيح المصالح وتقيد المباح والاختيار في مورد الظن ولا تعلق له في نسف المعلوم بالضرورة
وعدم قيام السلف بكتابة دستور لا يلغي الفكرة لأن القضية ليست تعبدية بحيث تقتضي الإتباع وإنما هي من قبيل العاديات التي يجوز فيها الابتداع.
ولم تكن الحاجة في زمنهم تلح لصياغة هذا الدستور لبساطة شكل النظم السياسية في حينها  البعيدة عن التعقيد والتكلف وبسبب شيوع القيم السياسية الأخلاقية التي تخفف الحاجة إلى وسائل الضبط القانونية وليس كما في زمانينا الذي تعقدت فيها أشكال الدول فالسلف اجتهدوا لزمانهم وعلينا كذلك أن نجتهد لزماننا وقد صار علينا لزاماً أن نصحح الخلل الحضاري الذي وقعت به الأمة بعد مقتل سيدنا عثمان -رضي الله عنه- ولم يكن من مبادئ دستورية تشكل  ميثاقاً تحتكم له الأمة يكون فيه مندوحة عن السيف وفقه التغلب وتحقن فيه الدماء فقد كانت السلطة هي محور الصرعات في كل تاريخنا الإسلامي كما يقول الشهرستاني إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة. [(الملل والنحل) في الجزء الأول صـ20]
نرى أنه لابد من ميثاق سياسي يلجم جموح الاستبداد والتسلط  ويكون نقطة انطلاق حضارية يغمد فيها سيف التغلب القهر ويشهر فيها سلطان الواجب والحق.

 

 

حساب الكاتب على تويتر

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع