..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

ملحمة المهاجرين «غير الشرعيين» اختبار إنساني صعب

عبد الوهاب بدرخان

٣١ ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2604

ملحمة المهاجرين «غير الشرعيين» اختبار إنساني صعب
الوهاب بدر خان+++0.jpg

شـــــارك المادة

كان الأوروبيون يعرفون أن هذا الصيف سيكون موسم الهجرة «غير الشرعية» الأكثر سخونة، تحدّثوا عنها كثيراً وتوقّعوه، قالوا إن احتمالات الهلاك أكبر في الشتاء بسبب البرد والأنواء؛ لذا استعدوا للصيف، تخاصموا حول السياسات والإجراءات، وكان يهمهم أن لا يُحرجوا بمزيد من الغرقى في البحر، فأغلقوا الموانئ وكثّفوا الرقابة البعيدة عنها في استشراف مبكر للوافدين.

لكنهم فوجئوا بأن عصابات التهريب التفّت على الموانع واكتشفت الثغرات فغيّرت الخريطة متخلية عن الوجهات التي تقصدها عادةً.

فجأةً أصبحت الشواطئ اليونانية أو حتى الصخور القريبة منها محطة لتفريغ حمولة القوارب المتهالكة من آلاف البشر اليائسين المعدمين، الذين أنفقوا كل ما لديهم أو كل ما ادخروه من أجل موطئ قدم على أي قارب يقلّهم إلى مغامرة العيش الآمن.
مع ذلك قضى بضع مئات الهاربين من كل مكان، تحديداً من سوريا والعراق، ومن إفريقيا وحتى من أفغانستان التي يصعب تخيّل المحطات التي مرّ بها مهاجروها ليبلغوا أخيراً الفردوس الأوروبي الموعود. وفي يوم واحد اكتشفت عشرات الجثث لعائلات سورية بأطفالها ونسائها ورجالها مختنقة في شاحنة مغلقة ومتروكة على جانب طريق سريع في النمسا، فيما ابتلعت مياه المتوسّط مئة أبحر بهم القارب من مكانٍ ما -غير مجهول- على الشاطئ الليبي. قبض المهربون وحماتُهم وعملاؤهم العمولة مسبقاً وتركوا مصير ركابهم للأقدار.

هذا التهريب لا ينفكّ يتمأسس، فهو ليس مطلوباً فقط وليس له زبائن كثيرون ومتزايدون فحسب، بل أصبحت له مكاتب ومقار يقصدها المحتاجون كما لو أنهم يرتادون المكاتب العادية للسفر والسياحة. والمهرّبون ليسوا معروفين فحسب، بل إن لديهم وكلاء يقصدون مخيمات اللاجئين أو يرابطون على الحدود لاصطياد الزبائن. وفي الآونة الأخيرة صارت لديهم «خدمات» مدفوعة طبعاً تتولّى تسهيل إخراج الراغبين من داخل سوريا والعراق وإيصالهم إلى الأمكنة التي ينتظرون فيها ساعة الرحيل.
هذا الصيف تحوّل إلى ملحمة إنسانية وتحوّل معها البحر الأبيض المتوسط إلى بؤرة حافلة بالمآسي، بالمغامرات الفردية، وفيما سمّاه البعض القبر الأبيض المتوسط فإنه كان شاهداً أيضاً على التمسّك بالحياة والإصرار على تحصيل الحد الأدنى من الأمان والكرامة، لكنه الصيف الذي ستتذكّر فيه أوروبا أن لها حدوداً مع الشرق المشتعل وتشمل تركيا واليونان وبلغاريا ودول البلقان، وأنها لم تفطن إلى «إغلاقها» فدهمها سقوط الحواجز الحدودية. قال رئيس هنغاريا: إن «بلادنا تتعرّض للغزو» كي يبرّر إقامة جدار/سياج شائك لمنع عبور الهاربين لكن الكثيرين منهم عبروا. وفي عواصم استلهم مسؤولون فظاظة دونالد ترامب، المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية، ليقولوا إن ما على هؤلاء القادمين سوى أن يعودوا من حيث أتوا فهم غير مرغوب فيهم.
ارتبكت معظم الحكومات الأوروبية أمام واقع مرير لا يستنهض إنسانيتها فحسب بل يستوجب التعامل معه. لم تنسَ أي منها الوعود التي قطعتها لمكافحة الهجرة «غير الشرعية»، ولم تنسَ الصعود غير المسبوق للعنصرية (تحديداً ضد المسلمين) أقوالاً وأفعالاً إلى حد باتت معه مراكز تجميع اللاجئين معرضة لهجمات، لكنها أخذت علماً أيضاً بوجود مبادرات لمنظمات وناشطين رأوا أن مساعدة المهاجرين واجب أخلاقي. الواقع أنه لم يعد مهمّاً أن تسمّى «غير شرعية»، فلهذه الهجرة ما يبرّرها ويشكّل قوة دفع لها، أي أنها اكتسبت إلى حدٍّ ما شرعيةً كان ثمنها بضعة آلاف ممن قضوا في طريقهم إلى البر الأوروبي. وقد يكون التعرّف إلى الخاصرة الرخوة للقارة القديمة (دول البلقان الست، صربيا والبوسنة والجبل الأسود ومقدونيا وألبانيا وكوسوفو) متأخّراً، ولن يفيد الضغط على الحكومات كي تتشدّد في صد المهاجرين، فحكومات الاتحاد الأوروبي نفسها لم تستطع الاتفاق على سياسة موحّدة، كما شكا وزير الخارجية النمساوي خلال «مؤتمر غرب البلقان» للبحث في الأزمة المتصاعدة.
في خضم الانشغال باستقبال المهاجرين قيل القليل عن الأزمات والصراعات التي دفعت بهم إلى خارج بلدانهم، وقيل الكثير عن «التوزيع العادل» بين أنحاء أوروبا، غير أن المهاجرين أنفسهم يعرفون الوجهة التي يفضّلونها، إنها ألمانيا، وتأتي بعدها فرنسا وإيطاليا وبريطانيا؛ لذا أصبحت الدول الأخرى مجرد ممرات للعبور. بدت مطالبة وزير الداخلية الألماني بالتصدّي «بصورة حاسمة» لأنشطة مهربي اللاجئين غير مسموعة، مع أنها قبل أسابيع كانت من أبرز الأهداف التي حددتها الحكومات. لكن كان لافتاً أن النمسا، التي تخوّفت من كون معظم اللاجئين يأتون من «مناطق داعش»، شدّدت على ضرورة «إقامة حماية آمنة وعازلة» لهم في بلدانهم.

وهذا يعيد طبعاً طرح التساؤلات عن أسباب إخفاق المجتمع الدولي أولاً في تلبية مطلب «حماية المدنيين» في سوريا عندما كان ذلك ممكناً في نهاية 2011، وفي إقامة مثل هذه المناطق مع تدفق اللاجئين إلى دول الجوار حتى لم تعد قادرة على الاستيعاب أو على تحمّل الأكلاف المالية والأمنية. لا شك أن هذين -التلكؤ والتقصير- لم يؤدّيا فقط إلى ظهور الإرهاب «الداعشي» واستشرائه بل أيضاً إلى نتيجة طبيعية تتمثّل بهذه الهجرة إلى أوروبا.
أبدى الأمين العام للأمم المتحدة حزناً وفزعاً إزاء واقعة اختناق اللاجئين، وقال إن الحرب في سوريا «تجسدت للتو على جانب طريق في قلب أوروبا»، لكن السوريين والعالم ينتظرون من المنظمة الدولية ما هو أكثر من المشاعر العاطفية. صحيح أنه لم يفت بان كي مون أن ينبّه إلى ضرورة عدم التمييز بين اللاجئين على أساس الدين والهوية، وكذلك عدم إجبارهم على العودة إلى بلدانهم ليتعرضوا للقتل أو الاضطهاد، لكنه أشار بوضوح إلى أن المسؤولية الأولى تقع على الدول الكبرى التي لا تنفك تفشل في حلّ النزاعات. لا شك أن نظام بشار الأسد وحده مغتبط بهذه المآسي، فأحد أهم إنجازاته هو طرد أبناء شعبه وإخراجهم من بيوتهم ووطنهم بلا أمل في العودة.

 

 

العرب

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع