..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

الأمة والخلافة والحقائق الغائبة

حاكم المطيري

٢ ٢٠١٤ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3309

الأمة والخلافة والحقائق الغائبة
المطيري00.jpg

شـــــارك المادة

 كما أعادت الثورة العربية المعاصرة وبكل قوة قضية (الخلافة) من جديد إلى ساحة الفكر والسياسة، فقد كشفت كذلك وبكل وضوح عن أزمة عميقة بين دعاتها في تصور حقيقة هذه الخلافة التي يدعون إليها، ليثور الجدل في شأنها أشد ما يكون، داخل التيار الإسلامي نفسه، وبكل ألوان طيفه، بين من لا يرى وجوبها أصلاً.

 

 

فموضوع الحكم والسلطة عندهم موضوع مدني مصلحي تركه الشارع لتطور الزمان واختلاف الأحوال، ومن يرى أنه أصل من أصول الإسلام، وفرض يجب على الأمة إقامته، ثم هؤلاء الذين يدعون إلى (عودة الخلافة) لا يقدمون تصوراً صحيحاً لحقيقتها، وغايتها، وكيفية عودتها، حتى تصور بعضهم أنه بإمكانهم عرض الخلافة على رئيس من الرؤساء الموجودين اليوم فإن وافق على الإعلان عنها، وإقامة حكم إسلامي، صار خليفة، وعادت الخلافة!

وتصور بعضهم أنه بالسيطرة على مساحة من الأرض وإعلان الخلافة فيها تقوم الخلافة من جديد!

ومنهم من لا يرى للأمة رأياً في إقامتها أصلاً، ولا حق لها في الشورى واختيار الخليفة، بل ويستخفون بها ويصادرون حقها الذي جعله الله لها بدعوى أن ذلك ديمقراطية وكفر!

فإذا الطغيان الذي مارسه العرب القوميون في سوريا والعراق، والعسكريون الاشتراكيون في مصر والجزائر وليبيا واليمن، والملكيون في الخليج والمغرب والأردن، والليبراليون في تونس، والإسلاميون في السودان، يراد له أن يعود من جديد باسم السنة والخلافة والإسلام، فالمهم ألا يتحرر العرب من ربقة الطغيان تحت أي نظام كان!

وقد تجلت الإشكالية أوضح ما يكون في أربع قضايا رئيسية:

الأولى: في تعريف الخلافة شرعاً وفقهاً ومعرفة حقيقتها وتصورها في ذاتها وغايتها!

الثانية: عدم الاعتراف بالأمة وحقوقها واستشكالهم أن يكون لها حق في اختيار السلطة الذي هو عندهم من اختصاص أهل الحل والعقد فقط، والذين قد يكونون عبارة عن مجلس شورى سري لفصيل من الفصائل لا يعرفهم أحد حتى أفراد تنظيمهم!

الثالثة: استشكال طبيعة العلاقة بين الأمة والسلطة والتي يجب أن تخضع الأمة لسلطانها ولو قهراً.

الرابعة: في تعريف أهل الحل والعقد.

وقد سبق تفصيل القول في تعريف الخلافة في الخطاب القرآني والنبوي والراشدي، وأن حقيقتها هي تحقق الاستخلاف للأمة كلها، أولاً بالسيادة والظهور والتمكين في الأرض، ثم اختيار الأمة للخليفة - ثانياً - بالشورى والرضا، وكيلاً عنها ينوب عن النبي صلى الله عليه وسلم في تولي الإمامة والخلافة، ليقيم أحكام الله فيها، والعدل والقسط الذي أوجبه الله عليها.

ولوضوح تلك الحقيقة القرآنية في معنى الخلافة والاستخلاف للمؤمنين في الأرض، كما وعدهم الله {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ}، ولكون المؤمنين جميعاً إخوة {ِإنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، جاء الخطاب النبوي والراشدي معبراً عن تلك الحقيقة أوضح تعبير، في اعتبار الأمة هي الأصل في الاستخلاف، والإمامة والسلطة فرع عنها، ولهذا كانت الخيرية والوسطية والعدالة وصفاً للأمة نفسها التي هي الأصل {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}.

وقد أضاف النبي صلى الله عليه وسلم للأمة ملك الأرض في دار الإسلام إضافة ملك واستحقاق، فقال كما في الصحيح: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها).[1]

وقال عمر رضي الله عنه: (وأيم الله إنها لبلادهم ومياههم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا).[2]

وكما قرر عمر حق الأمة في الأرض، قرر أيضاً حق الأمة في اختيار السلطة، حيث قام في الناس خطيباً محذراً من يريد اغتصاب حق الأمة في الخلافة، فقال - كما في صحيح البخاري - (إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم... من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي تابعه، تغرة أن يقتلا).[3]

وفي رواية عبد الرزاق: (إني لقائم عشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا المسلمين أمرهم).[4]

وفي رواية أحمد: (فمن بايع أميرا عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه، تغرة أن يقتلا).[5]

وفي رواية ابن أبي شيبة: (أما بعد فقد بلغني قالة قائلكم: لو مات أمير المؤمنين قمنا إلى فلان فبايعناه، وإن كانت بيعة أبي بكر فلتة، وأيم الله إن كانت لفلتة وقانا الله شرها، فمن أين لنا مثل أبي بكر نمد أعناقنا إليه كمدنا إلى أبي بكر، إنما ذاك تغرة ليقتل، من انتزع أمور المسلمين من غير مشورة فلا بيعة له).[6]

وفي رواية النسائي: (إنه لا خلافة إلا عن مشورة، وأيما رجل بايع رجلاً عن غير مشورة، لا يؤمر واحد منهما، تغرة أن يقتلا، قال شعبة: قلت لسعد: ما تغرة أن يقتلا؟ قال: عقوبتهما أن لا يؤمر واحد منهما).[7]

وفي رواية ابن حبان: (إني لقائم إن شاء الله العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يغتصبون الأمة أمرهم).[8]

وفي رواية البزار: (لأقومن العشية في الناس، فلأحذرنهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا الناس أمورهم).[9]

وكذا قال عمر للستة الذين رشحهم للخلافة بعد أن استشار الناس في شأنهم، ورآهم لا يخرجون عن واحد منهم: (من تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه).[10]

وفي رواية صحيحة عنه: (من دعا إلى إمارة لنفسه من غير مشورة المسلمين فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه).[11]

وفي رواية: (من دعا إلى إمرة من غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه).[12]

وكذا قال عبد الرحمن بن عوف، بعد أن استشار الناس فيمن يختارونه للخلافة عثمان أم علي؟ فاختار الأكثر عثمان، (فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال أما بعد: إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن - يا علي - على نفسك سبيلاً)، وقال لعثمان: (أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون).[13]

قال ابن حجر: (وسكوت من حضر من أهل الشورى والمهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد دليل على تصديقهم عبد الرحمن فيما قال، وعلى الرضا بعثمان).[14]

وقال ابن جرير الطبري: (ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد، وأشراف الناس يشاورهم، ولا يخلو برجل إلا أمره بعثمان... ثم تكلم فقال: أيها الناس إني قد سألتكم سراً وجهراً عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما علي وإما عثمان).[15]

وقال ابن كثير: (نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما، ويجمع رأي المسلمين، برأي رؤوس الناس جميعاً وأشتاتاً، مثنى وفرادى، سراً وجهراً، حتى خلص إلى النساء في خدورهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة، وفي مدة ثلاثة أيام بلياليهن).[16]

وقد كان علي رضي الله عنه يرى أن البيعة لا تكون إلا برضا الأمة، ورضا العامة، فقد قال بعد أن ألح عليه الناس ليبايعوه: (لا تفعلوا، فإني لكم وزير خير مني أن أكون أميرا).

فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك!

فقال: (ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفيا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين).

وفي رواية: (إن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سرا، ولكن أخرج إلى المسجد، فمن شاء أن يبايعني بايعني).

فلما دخل المسجد دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعه الناس.[17]

وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما يرى أن أهل الأمصار كافة لهم حق في الشورى، كأهل المدينة، فقد قال يعاتب أباه: (ألم آمرك - أي أشير عليك - ألا تبايع الناس حتى يبعث إليك أهل كل مصر ببيعتهم؟).

وفي لفظ: (آمرتك ألاّ تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر).

فقال علي رضي الله عنه :(أما مبايعتي قبل مجيء بيعة الأمصار فخشيت أن يضيع هذا الأمر).[18]

وحتى معاوية رضي الله عنه كان يرى هذا الرأي، فقد خطب الناس بعد بيعته وتنازل الحسن له، واجتماع الأمة عليه عام الجماعة، فقال: (أيها الناس! إنكم جئتم فبايعتموني طائعين، ولو بايعتم عبدا حبشيا مجدعا لجئت حتى أبايعه معكم).[19]

وهذا مذهب ابن عمر، إذ كان يشترط للبيعة إجماع الأمة على الإمام، أو اجتماعها عليه، وكان يقول: (والله ما كنت لأعطي بيعتي في فرقة، ولا أمنعها من جماعة).[20]

ولما وقع الخلاف بين علي ومعاوية لزم عبد الله بن عمر داره، ولم يبايع حتى كان عام الجماعة، وقد قال للحسين بن علي وعبد الله بن الزبير لما خرجا على يزيد (أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس، وتنظرا؛ فإن اجتمع الناس عليه لم تشذا، وإن افترقوا عليه كان الذي تريدان).[21]

فكان لا يبايع في زمن الفرقة حتى يجتمع المسلمون على رجل واحد، فإذا اجتمعوا عليه بايعه، وإلا لم يبايعه؛ ولهذا لم يبايع معاوية إلا بعد الصلح مع الحسن، ولم يبايع ابن الزبير بمكة لمنازعة مروان له.[22]

عن سعيد بن حرب العبدي قال: (كنت جليسا لعبد الله بن عمر في المسجد الحرام، زمن ابن الزبير، وفي طاعة ابن الزبير رؤوس الخوارج نافع بن الأزرق، وعطية بن الأسود، ونجدة، فبعثوا شابا إلى عبد الله بن عمر يسأله: ما يمنعك أن تبايع لعبد الله بن الزبير أمير المؤمنين؟ فرأيته حين مد يده وهي ترجف من الضعف فقال: والله ما كنت لأعطي بيعتي في فرقة ولا أمنعها من جماعة).[23]

وسأله عبد الله بن صفوان (يا أبا عبد الرحمن ما يمنعك أن تبايع أمير المؤمنين يعني ابن الزبير؟ فقد بايع له أهل العروض، وأهل العراق، وعامة أهل الشام؟ فقال: والله لا أبايعكم وأنتم واضعوا سيوفكم على عواتقكم تصبب أيديكم من دماء المسلمين).[24]

هذا مع أن كل الأمصار بايعت ابن الزبير بالرضا والشورى إلا أهل الأردن، كما روى أحمد بن حنبل عن أبي بكر بن عياش قال: (ما بقي أرض إلا ملكها ابن الزبير إلا الأردن).[25]

وكذا لم يبايع ابن عمر ابن الزبير حين خالفه عبد الملك، حتى اجتمع الناس على عبد الملك، فكتب إليه: (أما بعد: {اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ}، وقد بلغني أن المسلمين اجتمعوا على البيعة لك، وقد دخلت فيما دخل فيه المسلمون. والسلام).[26]

فلم يبايع حتى اجتمع المسلمون على عبد الملك واستقر له الأمر.

وعن الحسن البصري قال: (لما كان من أمر الناس ما كان زمن الفتنة، أتوا ابن عمر، فقالوا: أنت سيد الناس، وابن سيدهم، والناس بك راضون، اخرج نبايعك!

فقال: لا والله لا يهراق في محجمة من دم ولا في سببي ما كان في روح).[27]

وعن نافع مولى بن عمر، قال: (قال أبو موسى يوم التحكيم: لا أرى لهذا الأمر غير عبد الله بن عمر.

فقال عمرو بن العاص لابن عمر: إنا نريد أن نبايعك، فهل لك أن تعطى مالا عظيما على أن تدع هذا الأمر لمن هو أحرص عليه منك؟

فغضب، وقام.

فأخذ ابن الزبير بطرف ثوبه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنما قال: تعطي مالاً على أن أبايعك.

فقال: والله لا أعطي عليها، ولا أُعطى، ولا أقبلها إلا عن رضا من المسلمين).[28]

قال الذهبي: (كاد أن تنعقد البيعة له يومئذ، مع وجود مثل الإمام علي وسعد بن أبي وقاص، ولو بويع، لما اختلف عليه اثنان، ولكن الله حماه، وخار له).[29]

وعن القاسم بن عبد الرحمن: (أنهم قالوا لابن عمر في الفتنة الأولى: ألا تخرج فتقاتل، فقال: قد قاتلت والأنصاب بين الركن والباب حتى نفاها الله عز وجل من أرض العرب، فأنا أكره أن أقاتل من يقول لا إله إلا الله، قالوا: والله ما رأيك ذلك، ولكنك أردت أن يفني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضا، حتى إذا لم يبق غيرك قيل بايعوا لعبد الله ابن عمر بإمارة المؤمنين! قال: والله ما ذلك في، ولكن إذا قلتم حي على الصلاة أجبتكم، حي على الفلاح أجبتكم، وإذا افترقتم لم أجامعكم، وإذا اجتمعتم لم أفارقكم).[30]

وقال مروان لابن عمر: (ألا تخرج إلى الشام فيبايعوك؟

قال: فكيف أصنع بأهل العراق؟

قال: تقاتلهم بأهل الشام!

قال: والله ما يسرني أن يبايعني الناس كلهم إلا أهل فدك، وأن أقاتلهم، فيقتل منهم رجل).[31]

وفي رواية: (قال مروان: تضربهم حتى يبايعوا! قال: والله ما أحب أنها دانت لي سبعين سنة، وأنه قتل في سببي رجل واحد).[32]

وعن ميمون بن مهران، قال: (دس معاوية عمرو بن العاص وهو يريد أن يعلم ما في نفس ابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن! ما يمنعك أن تخرج تبايعك الناس، أنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس بهذا الأمر.

فقال: قد اجتمع الناس كلهم على ما تقول؟

قال: نعم، إلا نفر يسير.

قال: لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهجر لم يكن لي فيها حاجة.

قال: فعلم أنه لا يريد القتال.

فقال: هل لك أن تبايع من قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه، ويكتب لك من الأرضين والأموال؟

فقال: أف لك! اخرج من عندي، إن ديني ليس بديناركم ولا درهمكم).[33]

والمراد بالناس في كل هذه النصوص عن ابن عمر هم المسلمون عامة وليس فقط أهل الحل والعقد!

فكل هذه الروايات تؤكد أن مذهب ابن عمر هو أن الخلافة والبيعة للإمام لا تجب ولا تثبت شرعاً إلا في حالين:

الأولى: إجماع الأمة على من تختاره بالشورى والرضا، وهي الطريقة المشروعة في حال الاختيار، ولا يقتصر فيها على أهل الحل والعقد، بل يرى ابن عمر وجوب إجماع الأمة كلها، حتى لا يشذ منهم أحد، ولو كان عبداً رقيقاً من علوج هجر، من باب التأكيد على حق الأمة كلها بمجموعها، لا بآحادها.

الثانية: اجتماع الأمة على من غلب على الخلافة بالسيف، وهي طريقة محرمة ممنوعة بإجماع الصحابة ابتداء، وإنما جازت عند ابن عمر اضطراراً بشرطين، استقرار الأمر لمن غلب عليها، واجتماع الأمة عليه انتهاء، مراعاة للمصلحة الكلية، إذ الاجتماع عليه، واستقرار الأمر له، لا يحدث عادة إلا لتحقق الرضا والرغبة العامة بعدم الاقتتال، وهو ما يحدث عادة في ظل الظروف الاستثنائية وحال الاضطراب والحروب الداخلية، فيميل المجتمع بعدها لمن يحقق له الاستقرار والأمن، حين تبرز قيادة قادرة على جمع الكلمة ولو بالقوة، فاعتبر أهل هذا المذهب هذا المعنى رضا انتهاء لا ابتداء، وليس بالضرورة هو رضاً بالخليفة المتغلب نفسه، بل رضا باجتماع الأمة، وترك النزاع، وتحقق السلم الداخلي.

وهو كذلك مذهب ابن عباس ومحمد بن الحنفية رضي الله عنهما، فقد أراد منهما ابن الزبير البيعة، حين بايعه أكثر أهل الأمصار (فأبيا يبايعان له، وقالا: حتى يجتمع لك البلاد، ويتسق لك الناس).[34]

وضيق ابن الزبير على محمد بن الحنفية بمكة ليبايعه، فأبى وقال (دعاني إلى البيعة، فقلت: إنما أنا من المسلمين، فإذا اجتمعوا عليك فأنا كأحدهم).[35]

وأرسل ابن الحنفية إلى ابن عمه عبد الله بن عباس يسأله ما يصنع مع ابن الزبير، فقال له: (لا تطعه، ولا نعمة عين، إلا ما قلت، ولا تزده عليه).[36]

وأراد عبد الملك بن مروان البيعة من ابن حنفية حين قدم الشام، فرد عليه برسالة (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن علي إلى عبد الملك بن مروان سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فقد عرفت رأيي في هذا الأمر قديما، وإني لست أسفهه على أحد، والله لو اجتمعت هذه الأمة علي إلا أهل الزرقاء ما قاتلتهم أبداً، ولاعتزلتهم حتى يجتمعوا، نزلت مكة فراراً مما كان بالمدينة فجاورت ابن الزبير فأساء جواري، وأراد مني أن أبايعه فأبيت ذلك حتى يجتمع الناس عليك أو عليه، ثم أدخل فيما دخل فيه الناس فأكون كرجل منهم).[37]

وقال أيضا حين حج بأصحابه زمن ابن الزبير ووقف كل فريق بعرفة وحدهم، وسعى بينهم محمد بن سعيد بن جبير بالإصلاح لمنع الفتنة في الحج، فقال ابن الحنفية له: (ما أطلب هذا الأمر إلا أن لا يختلف علي اثنان).

وقال أيضاً: (تعلمون أن رأيي لو اجتمع الناس علي كلهم إلا إنسان واحد لما قاتلته).[38]

وحتى ابن الزبير نفسه كان يحتج باجتماع أكثر الأمة عليه بالرضا، فكان يقول: (أنا رجل قد اجتمع علي وبايعني الناس، وهؤلاء أهل خلاف).[39]

وكل هذا الإصرار منهم على هذا المبدأ، ما كان له أن يكون، لولا وضوح أصل قيام الدولة في الإسلام في المدينة، وأنها قامت بعقد البيعة بين النبي صلى الله عليه وسلم والأنصار، بالرضا بلا إكراه ولا إجبار، فبدأ الإسلام دعوته في مكة بالحكمة والموعظة الحسنة، وانتهى في المدينة بدولة على الشورى والرضا، بلا إكراه في الدين، ولا إجبار على الطاعة.

وقد جاء ابن الحنفية بعض شيعته يسأله كيف المخرج من الفتن التي يتعرضون لها بسبب توليهم آل البيت وعداوتهم بني أمية، فقام ابن الحنفية خطيباً (فحمد الله، وأثنى عليه، وشهد أن لا إله إلا الله وشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم قال: أما بعد، فإياكم وهذه الأحاديث؛ فإنها عيب عليكم، وعليكم بكتاب الله تبارك وتعالى؛ فإنه به هدي أولكم، وبه يهدى آخركم، ولعمري لئن أوذيتم لقد أوذي من كان خيرا منكم!

أما قيلك: لقد هممت أن أذهب في الأرض قفراً فأعبد الله حتى ألقاه، وأجتنب أمور الناس لولا أن يخفى علي أمور آل محمد؟

فلا تفعل؛ فإن تلك البدعة الرهبانية، ولعمري لأمر آل محمد أبين من طلوع هذه الشمس.

وأما قيلك: لقد هممت أن أخرج مع أقوام شهادتنا وشهادتهم واحدة على أمرائنا - أي: الخوارج - فيخرجون، فيقاتلون، ونقيم؟

فلا تفعل، لا تفارق الأمة، اتق هؤلاء القوم بتقيتهم.

قال عمر يعني بني أمية: ولا تقاتل معهم.

قال: قلت وما تقيتهم؟

قال: تحضرهم وجهك عند دعوتهم، فيدفع الله بذلك عنك عن دمك ودينك، وتصيب من مال الله الذي أنت أحق به منهم.

قال: قلت: أرأيت إن أطاف بي قتال ليس لي منه بد؟

قال: تبايع بإحدى يديك الأخرى لله، وتقاتل لله؛ فإن الله سيدخل أقواما بسرائرهم الجنة، وسيدخل أقواما بسرائرهم النار، وإني أذكرك الله أن تبلغ عني ما لم تسمع مني، أو أن تقول علي ما لم أقل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم).[40]

وفي رواية: (بايع بإحدى يديك على الأخرى، وقاتل على نيتك).[41]

وعن الحسن بن محمد بن علي قال: (لم يبايع أبي الحجاج، فلما قتل ابن الزبير بعث الحجاج إليه فجاء، فقال: قد قتل الله عدو الله، فقال ابن الحنفية: إذا بايع الناس بايعت... فلما اجتمع الناس على عبد الملك وبايع ابن عمر، قال ابن عمر لابن الحنفية: ما بقي شيء، فبايع، فكتب ابن الحنفية إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين من محمد بن علي أما بعد، فإني لما رأيت الأمة قد اختلفت اعتزلتهم، فلما أفضى هذا الأمر إليك، وبايعك الناس كنت كرجل منهم أدخل في صالح ما دخلوا فيه، فقد بايعتك وبايعت الحجاج لك، وبعثت إليك ببيعتي، ورأيت الناس قد اجتمعوا عليك).[42]

فهنا يحتج ابن الحنفية - وهو إمام أهل ذلك العصر وسيد أهل الحل والعقد آنذاك - بالأمة وبالناس ودخولهم في البيعة، إذ الأمر أمرهم، والحق لهم، فإن رضوا بمن غلب عليهم، فهذا شأنهم، فكما لهم الحق شرعاً في مقاومته قبل تغلبه، فلهم الحق كذلك بقبول الأمر الواقع والرضا به، وترك القتال، فهم أعلم بمصالحهم!

وقبول رأي الأمة وشوراها ورضاها هو سبيل المؤمنين، فهذا حكم الله وشرعه، كما قال علي رضي الله عنه بعد أن جاءه المهاجرون والأنصار يريدون بيعته (لا أفعل إلا عن ملأ وشورى).[43]

ثم قال بعد أن بايعه الناس: (هذه بيعة عامة، فمن ردها رغب عن دين المسلمين واتبع غير سبيلهم).[44]

وقال أيضا: (إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلاّ فلا أجد على أحد).[45]

وهو كذلك مذهب الصحابي عامر بن الطفيل أبي واثلة، فقد أراد ابن الزبير أن يبايعه هو ومحمد بن الحنفية، في نفر من أشراف الكوفة، فأبوا وقالوا: (نحن قوم من أهل الكوفة اعتزلنا أمر الناس حين اختلفوا، وأتينا هذا الحرم لئلا نؤذي أحدا، ولا نؤذَى، فإذا اجتمعت الأمة على رجل دخلنا معهم فيما دخلوا فيه، وهذا مذهب صاحبنا، ونحن معه عليه وله صحبناه).

وكان محمد بن الحنفية يقول: (لو بايعتني الأمة كلها غير سعد مولى معاوية ما قبلتها).[46]

وهذا يؤكد أن مذهبه الدخول فيما دخلت فيه الأمة، فإن أجمعت على إمام بايعه، وإلا لم يبايع أحدا.

وليس اشتراط أهل هذا المذهب إجماع الناس أي أن يرضى به كل واحد من المسلمين، بل المقصود ألا يعترض عليه أحد، ولا ينازعه أحد منهم، فإذا رضي المجموع به، فقد أصبح إماما عامّا.

وقد كان هذا مذهب العامة من الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة، ومذهب عامة أهل الأمصار، كما قال ميمون بن مهران: (قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أبا بكر ورضوا به من غير قهر ولا اضطهاد، ثم إن أبا بكر استخلف عمر، واستأمر المسلمين في ذلك فبايعه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعون ورضوا به من غير قهر ولا اضطهاد، فلما حضر عمر الموت جعل الأمر إلى شورى ستة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والحواريين ولم يأل النصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين جهده، فاختار أهل الشورى عثمان بن عفان فبايعه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعون والتابعون لهم بإحسان ورضوا به من غير قهر ولا اضطهاد... فلم يزل الناس على عهد أبي بكر وعمر مستقيمين، كلمتهم واحدة، ودعواهم جماعة، حتى قتل عثمان بن عفان...

وأما من لزم الجماعة فمنهم سعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وحبيب بن مسلمة الفهري، وصهيب بن سنان، ومحمد بن مسلمة في أكثر من عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسان قالوا جميعا: نتولى عثمان وعليا، ولا نتبرأ منهما... فهؤلاء هم الجماعة، قالوا: نلزم ما فارقنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن.

قال ميمون: فصار الجماعة والفئة التي تدعي عليه الإسلام ما كان عليه سعد بن أبي وقاص وأصحابه الذين اعتزلوا الفتن، حتى أذهب الله الفرقة، وجمع الألفة، فدخلوا الجماعة، ولزموا الطاعة، وانقادوا).

قال الخطابي: (وممن اعتزل تلك الفتنة فلم يكن مع واحد من الفريقين حتى انجلت محمد بن مسلمة الأنصاري وعبد الله بن عمر بن الخطاب في عدة كثيرة من الصحابة).[47]

وكذا كان حال أكثر أهل الأمصار، فقد بعث معاوية مسلم بن عقبة المري إلى دومة الجندل، وكان أهلها قد امتنعوا من بيعة علي ومعاوية جميعًا - وكان الصحابة قد اجتمعوا فيها قبل ذلك للتحكيم بين علي ومعاوية - فدعاهم إلى طاعة معاوية وبيعته، فامتنعوا، وبلغ ذلك عليًا فسير مالك بن كعب الهمداني في جمع إلى دومة الجندل، فلم يشعر مسلم إلا وقد وافاه مالك، فاقتتلوا يوما ثم انصرف مسلم منهزماً، وأقام مالك أياماً يدعو أهل دومة الجندل إلى البيعة لعلي فلم يفعلوا، قالوا: (لا نبايع حتى يجتمع الناس على إمام). فانصرف وتركهم. [48]

فلم يقاتلهم علي على طاعته ولا على الدخول في بيعته!

مذاهب العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة ببيعتهم:

وقد ظل هذا الأصل في كون الخلافة حق للأمة لا يفتئت عليها أحد، من الأصول العقائدية، والقواعد السياسية، كما ما تقرر ذلك عند أئمة أهل السنة، وعامة فقهاء الأمة على اختلاف مذاهبهم الفقهية والكلامية، حيث أجمعوا على أن العلاقة بين الأمة والإمام علاقة تعاقد، لا تتم إلا بعقد البيعة، وقد اختلفوا في كم يشترط لعقده على مذاهب، وأشهرها:

أولاً: مذهب من اشترطوا إجماع الأمة واتفاق أهل الحل والعقد:

وهذا قول عند أئمة أهل السنة، كالإمام أحمد بن حنبل؛ فقد سئل عن حديث (من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية)؟ فقال أحمد: (أتدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول: هذا إمام. فهذا معناه).[49]

فهو هنا يشترط إجماع الأمة على الرضا بالإمام والخليفة لتجب طاعته على الجميع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان مذهب أحمد: (ولهذا قال أحمد في رسالة عبدوس بن مالك العطار (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: ومن ولي الخلافة فأجمع عليه الناس، ورضوا به،[50] ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين، فدفع الصدقات إليه جائز برا كان أو فاجرا)، وقال في رواية إسحاق بن منصور وقد سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية) ما معناه؟ فقال تدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون كلهم يقول هذا إمام. فهذا معناه).[51]

وهذه إحدى الروايات عن أحمد أن عقد الإمامة يشترط فيه إجماع الأمة، من خلال اتفاق من ينوب عنها، وهم أهل الحل والعقد وإجماعهم، كما أشار إليه أبو يعلى (وإنما اعتبر فيها قول جماعة أهل الحل والعقد أنه الإمام، لأنه يجب الرجوع إليه، ولا يسوغ خلافه والعدول عنه، كالإجماع، ثم ثبت أن الإجماع يعتبر في انعقاده جميع أهل الحل والعقد، كذلك عقد الإمامة).[52]

ورواية اللالكائي: (اجتمع الناس عليه ورضوا به)، وهي موافقة للفظ أبي يعلى (الإمام الذي يُجتمع عليه)!

وهو كذلك مذهب علي بن المديني من كبار أئمة الحديث والسنة حيث قال: (ومن ولي الخلافة بإجماع الناس ورضاهم... فهو أمير المؤمنين... ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد اجتمع عليه الناس فأقروا له بالخلافة، بأي وجه كانت برضا كانت أو بغلبة، فهو شاق هذا الخارج عليه العصا).[53]

وأهل هذا المذهب يشترطون الإجماع والاتفاق وعدم الاختلاف في حال عقد البيعة للإمام بالشورى والرضا، ويشترطون الاجتماع وعدم الافتراق في حال أخذ الإمام الخلافة بالسيف والغلبة، أما قبل اجتماع الناس عليه، واستقرار الأمر له، فلا يرون وجوب طاعته، ولا صحة إمامته.

وأشار ابن حزم إلى هذا المذهب فقال: (ذهب قوم إلى أن الإمامة لا تصح إلا بإجماع فضلاء الأمة في أقطار البلاد).[54]

وهذا المذهب مذهب أكثر الصحابة الذين اعتزلوا علي ومعاوية زمن الفتن، وحجتهم فيما ذهبوا إليه تواتر النصوص التي تأمر بلزوم الأمة والجماعة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة حين سأله عن الفتن والمخرج منها والعصمة فيها فقال: (الزم جماعة المسلمين وإمامهم)، فقال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها).[55]

ثانيا: مذهب من اشترطوا اتفاق الجمهور وهم الأكثرية لصحة عقد البيعة:

وهي رواية عن أحمد: (فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى؛ فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد، ليكون الرضاء به عاما، والتسليم لإمامته إجماعا).[56]

والجمهور هم الأكثرية، كما قال الأزهري: (والسواد الأعظم من الناس: هم الجمهور الأعظم، والعدد الأكثر من المسلمين، التي تجمعت على طاعة الإمام وهو السلطان).[57]

وقال ابن منظور: (وجمهور كل شيء معظمه، وجمهور الناس جلهم، وجماهير القوم أشرافهم، واحدها جمهور، وجمهرت القوم إذا جمعتهم).[58]

وقال أبو يعلى الحنبلي: (والإمامة تنعقد من وجهين:

أحدهما: باختيار أهل الحل والعقد.

والثاني: بعهد الإمام من قبل.

فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فلا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد.

قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: "الإمام الذي يجتمع عليه، كلهم يقول: هذا إمام"

وظاهر هذا أنها تنعقد بجماعتهم).[59]

واحتج أهل هذا المذهب بنصوص الأمر بالجماعة، وأن المراد بالجماعة عامة الأمة وجمهورهم، لا جميعهم، كما جاء في الحديث: (عليكم بالجماعة ومن شذ شذ بالنار)، وفسرها بعض الصحابة بأن الجماعة (السواد الأعظم).

قال ابن جرير الطبري: (اختلف أهل العلم في معنى أمر النبي بلزوم الجماعة ونهيه عن الفرقة، وصفة الجماعة التي أمر بلزومها، فقال بعضهم: هو أمر إيجاب وفرض، والجماعة التي أمرهم بلزومها: السواد الأعظم، وقالوا: كل ما كان عليه السواد الأعظم من أهل الإسلام من أمر دينهم فهو الحق الواجب والفرض الثابت، الذي لا يجوز لأحد من المسلمين خلافه، وسواء خالفهم في حكم من الأحكام، أو خالفهم في إمامهم القيم بأمرهم وسلطانهم، فهو للحق مخالف... والصواب في ذلك أنه أمر منه صلى الله عليه وسلم بلزوم إمام جماعة المسلمين، ونهي عن فراقهم فيما هم عليه مجتمعون من تأميرهم إياه، فمن خرج من ذلك فقد نكث بيعته ونقض عهده بعد وجوبه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنًا من كان"...).[60]

قال ابن بطال: (وحديث أبى بكرة حجة في ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أمره بلزوم (جماعة المسلمين وإمامهم)، فبان أن الجماعة المأمور باتباعها هي السواد الأعظم، مع الإمام الجامع لهم).[61]

وقال ابن تيمية في معنى الجماعة: (ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر، والسواد الأعظم).[62]

وقال الكشميري: (قوله: (تلزم جماعة المسلمين)، ومنه أخذ لفظ: أهل السنة والجماعة، وذلك لكون الحق في جماعة المسلمين في الأغلب... فإن تلك الأحاديث إنما وردت في سياق التحريض على إطاعة أولي الأمر، لئلا تثير الفتن عند انقلاب الحكومة، فأوصى باتباع السواد الأعظم لهذا، ولم يرد في إجماع الأمة... ثم اعلم أن الحديث يدل على أن العبرة بمعظم جماعة المسلمين، فلو بايعه رجل واحد، أو اثنان، أو ثلاثة، فإنه لا يكون إماما ما لم يبايعه معظمهم، أو أهل الحل والعقد).[63]

وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية هذا المذهب في الرد على الحلي الشيعي وأبطل دعوى من ادعى صحة عقد الإمامة بالعدد، فقال:

(وأما قوله - أي الحلي الشيعي عن أهل السنة - إنهم يقولون: إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر بمبايعة عمر برضا أربعة، فيقال له: ليس هذا قول أئمة أهل السنة، وإن كان بعض أهل الكلام، يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليست هذه أقوال أئمة السنة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة عليها، الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماما، ولهذا قال أئمة السلف: من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية، فهو من أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فالإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكا بذلك..

وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه وأطاعوه، ولو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماما، سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز، فالحل والحرمة متعلق بالأفعال، وأما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن القدرة الحاصلة، ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله، كسلطان الخلفاء الراشدين، وقد تحصل على وجه فيه معصية، كسلطان الظالمين، ولو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة لم يصر إماما بذلك، وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة، ولهذا لم يضر تخلف سعد بن عبادة، لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية، فإن المقصود حصول القدرة والسلطان اللذين بهما تحصل مصالح الإمامة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك، فمن قال إنه يصير إماما بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة فقد غلط، كما أن من ظن أن تخلف الواحد أو الاثنين والعشرة يضره فقد غلط، وأبو بكر بايعه المهاجرون والأنصار الذين هم بطانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة وبهم قهر المشركون وبهم فتحت جزيرة العرب، فجمهور الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين بايعوا أبا بكر، وأما كون عمر أو غيره سبق إلى البيعة فلا بد في كل بيعة من سابق، ولو قدر أن بعض الناس كان كارها للبيعة لم يقدح ذلك في مقصودها...

وأما عمر، فإن أبا بكر عهد إليه وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر فصار إماما لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم له.

وأما قوله: ثم عثمان بن عفان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم، فيقال أيضا: عثمان لم يصر إماما باختيار بعضهم، بل بمبايعة الناس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان، ولم يتخلف عن بيعته أحد، قال الإمام أحمد في رواية حمدان بن علي: (ما كان في القوم أوكد بيعة من عثمان، كانت بإجماعهم)، فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إماما، وإلا فلو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماما...) انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.[64]

وما زلنا مع (عودة الخلافة) ومعالجة هذه الإشكالية، فما زال للحديث بقية!

 

-----------------------------------------------------

[1] مسلم ح 2889، وأبو داود ح 4252.

[2] رواه مالك في الموطأ رقم 1822، ومن طريقه البخاري في صحيحه ح 3059.

[3] صحيح البخاري 6830 من حديث ابن عباس مطولا، ومسلم في صحيحه ح رقم 1691 مختصرا لم يسق لفظه، ورواه ابن إسحاق في المغازي والسير مطولا كما في تهذيب ابن هشام 6/77.

[4] المصنف 5/439، بإسناد على شرط الصحيحين.

[5] المسند 1/55 بإسناد صحيح على شرط مسلم.

[6] مصنف ابن أبي شيبة - (12 / 307)

[7] السنن الكبرى للنسائي (6 / 408) بإسناد صحيح.

[8] ابن حبان في صحيحه ح رقم 414، بإسناد على شرط الشيخين.

[9] البزار في مسنده ح 191 بإسناد على شرط الشيخين.

[10] طبقات ابن سعد 3/262 بإسناد صحيح على شرط الشيخين .قال الحافظ في الفتح 7/68: (أخرجه ابن سعد بإسناد صحيح) من حديث ابن عمر.

[11] ابن شبه في تاريخ المدينة 3/936 بإسناد صحيح.

[12] أحمد في العلل ومعرفة الرجال 2/92 رقم 1660 بإسناد جيد.

[13] صحيح البخاري مع الفتح 13/194ح (7207).

[14] البخاري مع الفتح 13/197ح (7207)، وانظر تاريخ الإسلام للذهبي عهد الخلفاء ص305.

[15] تاريخ الأمم والملوك - (2 / 582).

[16] انظر البداية والنهاية 7/ 164 ، وسبل الهدى والرشاد للصالحي الدمشقي 11/ 277، وهذه الرواية أوردها ابن كثير والصالحي ولم ينكرا منها شيئا، وفيها دليل على مشروعية استشارة واستفتاء النساء والشباب الصغار والعامة بلا تمييز بين الناس، في أمر اختيار الخليفة لعموم قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.

[17] ابن جرير الطبري 2/696، والخلال في السنة (ح 620-623) بإسناد جيد.

[18] انظر ابن جرير الطبري 3/10- 11 ، ابن كثير 7/245.

[19] مصنف ابن أبي شيبة (11 / 93) 31198- حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن حبيب، عن هزيل بن شرحبيل به، وهذا إسناد صحيح، وروى هذه القصة البخاري من طريق آخر في صحيحه ح رقم 3882 مختصرا، وابن سعد في الطبقات 4/182 من طرق كثيرة، والطبراني في المعجم الكبير كما في مجمع الزوائد 4/376 وقال الهيثمي: (رجاله ثقات).

[20] انظر فتح الباري 13/195.

[21] ابن عساكر في تاريخ دمشق 14/208 من طريق ابن سعد بأسانيد كثيرة، والمزي في تهذيب الكمال6/416، وانظر ابن كثير 8/164 – 165 في صفة مخرج الحسين.

[22] فتح الباري 13/195.

[23] رواه البخاري في التاريخ الصغير رقم 794، والبيهقي في السنن الكبرى 8/193 ـ ط عطا ـ بإسناد حسن، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق 31/190.

[24] رواه البيهقي في السنن الكبرى 8/192 ـ ط عطا ـ بإسناد صحيح على شرط البخاري، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق 31/190.

[25] السنة للخلال رقم 849.

[26] أخرجه ابن سعد 4 / 152 عن عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا أبو المليح، عن ميمون بن مهران، قال: كتب ابن عمر، وهذا إسناد صحيح.

[27] أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 1 / 293 من طريق محمد بن إسحاق السراج، عن عمر بن محمد بن الحسن الأسدي عن أبيه، عن سلام بن مسكين، به، وهذا إسناد صحيح.

[28] رواه أبو نعيم في الحلية 1/294 من طريق محمد بن إسحاق السراج أبو العباس الثقفي حدثنا عبد الله بن جرير بن جبلة حدثنا سليمان بن حرب حدثنا جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن نافع به. وهذا إسناد صحيح.

[29] سير أعلام النبلاء - (3 / 227)

[30] حلية الأولياء 430 - (1 / 294) من طريق محمد بن إسحاق السراج حدثنا محمد بن الصباح حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ابن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به. وهذا إسناد صحيح.

[31] تاريخ الإسلام للذهبي 5/464 عن خالد بن نزال الأيلي عن سفيان عن مسعر عن علي بن الأقمر به، وهذا إسناد صحيح، إلا خالد بن نزال، لم أعرفه، وله رواية واحدة في النسائي الكبرى 4/74 ، وليس له ذكر في كتب الرجال! والصواب أنه خالد بن نزار الأيلي من رجال التهذيب ثقة يروي عن سفيان بن عيينة.

[32] رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (4 / 169) قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال: حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن عاصم بن أبي النجود، وهذا إسناد حسن.

[33] أخرجه ابن سعد في الطبقات 4 / 164 من طريق عبد الله بن جعفر الرقي، عن أبي المليح، عن ميمون، وهذا سند صحيح.

[34] ابن سعد في الطبقات 5/100 عن محمد بن عمر الواقدي من طرق كثيرة يتقوى بعضها ببعض.

[35] ابن سعد في الطبقات 5/ 95.

[36] ابن سعد (5 / 101).

[37] طبقات ابن سعد 5/ 108.

[38] ابن سعد في الطبقات 5/106 عن محمد بن عمر الواقدي من طرق كثيرة يتقوى بعضها ببعض.

[39] ابن سعد في الطبقات 5/104 عن محمد بن عمر الواقدي عن هشام بن عمارة عن سعيد بن محمد بن جبير عن أبيه في قصة سعيه في الإصلاح بين الناس في الحج زمن ابن الزبير، وهذا إسناد حسن، وفيه الواقدي وهو ضعيف وقد توبع على أصل القصة، وصرح بالسماع، فزال ما يخشى من تدليسه، وتقوى خبره.

[40] رواه ابن سعد في الطبقات (5 / 95 - 96) قال: أخبرنا مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي قال: أخبرنا عمر بن زياد الهذلي, عن الأسود بن قيس حدثه قال: لقيت بخراسان رجلا من عزة، قال: قلت للأسود: ما اسمه؟ قال: لا أدري، قال: ألا أعرض عليك خطبة ابن الحنفية فذكر القصة، وهذا إسناد حسن عن الأسود بن قيس، وعمر بن زياد هو أبو حفص الهلالي - وليس الهذلي كما صحف هنا - وقد ذكره ابن حبان في الثقات 7/ 174 ، وقال أبو زرعة كما في الجرح والتعديل 6/109 ليس به بأس، وقال البخاري فيه يعرف وينكر. ويتقوى برواية سفيان بن عيينة التالية.

[41] رواه ابن سعد أيضا في الطبقات 5/96 مختصرا على بعضه، قال أخبرنا علي بن عبد الله بن جعفر قال: حدثني سفيان يعني ابن عيينة قال: حدثني الأسود بن قيس، عن رجل، عن محمد ابن الحنفية قال: بايع بإحدى يديك على الأخرى، وقاتل على نيتك.

[42] ابن سعد في الطبقات 5/ 110 عن محمد بن عمر الواقدي بإسناد صحيح عن الحسن بن محمد بن الحنفية به، وقد صرح الواقدي بالسماع وتوبع على أصل القصة.

[43] ثقات ابن حبان 2/267.

[44] ثقات ابن حبان 2/268.

[45] ابن جرير 2/700.

[46] أنساب الأشراف للكلبي 1/ 442.

[47] رواه ابن الأعرابي في المعجم (2 /199) رقم 698، مطولا، وعنه الخطابي في العزلة (1 /21) رقم 17 مختصرا. عن محمد بن أحمد بن يزيد الرياحي عن أبيه عن كثير بن مروان قال سألت (جعفر بن برقان عما اختلف الناس فيه من أمر عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، ومعاوية، وعن قول العامة في ذلك) فقال قال ميمون بن مهران به قوله، وإسناده حسن رجاله ثقات، لولا كثير بن مروان فهو ضعيف عندهم، وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به، وهذا سؤال سأله جعفر بن برقان فأجابه عما جرى بالفتنة وافتراق الناس فيها.

[48] أنساب الأشراف للكلبي 1/369 ، الكامل في التاريخ (2 / 99)، ومختصر تاريخ دمشق 7/ 203.

[49] رواه عنه الخلال في السنة 1/80 رقم 10، وانظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص23، ومنهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/112.

[50] انظر اعتقاد أهل السنة - اللالكائي - (1 / 160)، ولفظه (فاجتمع الناس عليه ورضوا به).

[51] منهاج السنة النبوية - (1 / 365)

[52] الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء - (1 / 24)

[53] أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/ 168.

[54] الفصل في الملل والأهواء والنحل - (4 / 129)

[55] صحيح البخاري ح 6673، وصحيح مسلم ح 1847، وسنن أبي داود ح 4246، وأحمد في المسند 5/ 386.

[56] الأحكام السلطانية - (1 / 6)

[57] تهذيب اللغة (13 / 24)

[58] لسان العرب - (4 / 149)

[59] الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء - (1 / 23)

[60] شرح صحيح البخاري ـ لابن بطال - (10 / 33)

[61] شرح صحيح البخاري ـ لابن بطال - (10 / 36)

[62] مجموع الفتاوى - (3 / 345)

[63] فيض الباري شرح البخاري - (6 / 74)

[64] منهاج السنة النبوية - (1 / 363 - 365)

 

 

جريدة الأمة الكويتية

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع