..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

وسراجا منيرا

رقية القضاة

٧ ٢٠١٤ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 7316

وسراجا منيرا
الله00.jpg

شـــــارك المادة

{يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}
طال أمد الجاهلية، وامتدت ظلالها البائسة لتغمر وجه البشرية، وتعم الكون بما فيه ومن فيه، واشتاقت الأرض التي أظمأتها قرون الجفاف الإنساني والقيمي، إلى غيث الرحمة والعدالة الربانيّة، واستطالت الأيدي القاسية والقلوب المتحجرة الخاوية من منابع الرحمة، على المستضعفين في الأرض، وغدا الكون الذي أراده الله بالاستخلاف موطن عدل وعبادة وتوحيد وعمل مثمر ومساواة وتفكر وإبداع.


غدا مسرحا لكل أنواع الظلم والهمجية والتناحر، وتألّه الفراعنة المتعاقبون في كل زمان ومكان، وفق شريعة الغاب التي تنتعش وتزدهر معتقداتها، وتسود قوانينها في كل زمان ومكان يعطل فيه شرع الله، وتحارب فيه فطرته، وتنحّى فيه تشريعاته العادلة الرحيمة، وأصبحت الحياة على وجه الأرض جحيما لأولئك البائسين، الذين وضعتهم قوانين الجاهلية الخرقاء في ذيل الطائفة البشرية، وأحالت آدميتهم مجالا لتجريب كل أنواع الاضطهاد والتفرقة والامتهان، فالغلبة هنا لذوي القوة والبأس، والتشريع فيها يتم وفق مصلحة الأقوى، والمنهج المتبع هو منهج الآباء الغابرين، ولو كانوا لا يعقلون ولا يهتدون، والعصبية العمياء حكم وفيصل وقانون، والمال والحياة الكريمة وقف على الذين يمتلكون وسائل تحصيلها، أيّا تكن تلك الوسائل والآليات والنظم التي يتم بها ذلك التحصيل.
والنفس البشرية تقدر قيمتها بالشرف الاجتماعي والغنى المادي، والاستقواء القبلي أو الطبقي، فالحياة في عرف تلك المظلة الباغية، حق لأولئك الذين يقدرون على مقوماتها، ومقوماتها سلسلة لا تنتهي من الشرائع القاصرة، القائمة على تحييد العقل والرحمة والعدل والإنسانية، فهي جاهلية، ظلامية، ظالمة، منتنة، نفعية بكل معنى تحتمله هذه الكلمات.
فأي شقاء إذن تحياه البشرية، وأي ظلام تغرق فيه الأرواح، وتسترق فيه الأبدان، وأي ضنك يستعبد النفوس ويرهقها؟
وفي مكة الغارقة في الوثنية والجهل والعبودية الجائرة، يتأذن ربّنا الرحيم بأن تنطلق أولى مشارق النور الإلهي، وأن تنهل أول قطرات الغيث السماوي، وأن تنساب نسائم الفجر الندية لتمسح تلك الوجوه، التي نسيت آدميتها، ولم تعد تدري من أي صنف هي بين المخلوقات، وفي مكة أيضا بيت الله المحرم، تصطف فيه وحوله مئات الأصنام المسنّدة، تعبد من دون خالقها، وتقصد بالطلب من دونه، وهي لا تملك الإجابة، وتذبح لها القربات من دونه، وهي لا تفقه معنى التقرب، ويتمسح بها ويبكي أمامها ذوو الحاجة الملهوفون من دونه، وهي جامدة لا تدرك معنى الشكوى ولا تحس دفء اليد التي تتبرك بها ولا تشعر بانسياب الدمعة الحارّة، وهي تنسكب عليها.
وفي مكة كما في كل بقاع الأرض ظلم وقسوة وشرك، ورقّ قاس أليم، وفي ترابها كل يوم تدسّ أجساد صغيرة، لم تلامس دفء حضن أمهاتها، ولم تطلق في وجوه آباءها أولى ابتساماتها، ولم تبصر عيونها الشمس بعد، ولم تدرج أولى خطواتها نحو الحياة بعد، أرواح تدفن حية، بذنب لم تقترفه وجريمة هي منها براء، وعيب هو في الأصل ميزة لطيفة، فذنبها أنّها أنثى، وهي في عرف الرعونة الجاهلية، مجلبة للفقر والعار والمذلة، فأبشري أيتها الأرواح التي ناحت عليها قلوب الأمهات المكلومة دهرا، أبشري فالرحمة والحياة والانطلاقة الحرة والكرامة قادمة إليك مع بشائر الفجر القادم في ربيع الأول.
يوم يأذن الله بولادة نبي الهدى، ورائد المساواة، وحامل مشعل النور إلى الأرض، ليحيلها مكانا صالحا للحياة مشرقا بنور الله وشريعته وفي مكة أيضا، وفي ظلال الكعبة المشرّفة، يطوف عبد المطلب حاملا بين يديه خير مولود ولد على وجه البسيطة، يطوف به حول البيت العتيق، وهو لا يدري أن هذا البيت سيكون قبلة لهذا المولود، حين يبعثه الله نبيا رسولا، ولاّمته التي ستقام بها أركان العدل، وسيعم منهج الله العادل مشارق الأرض ومغاربها، بجهادها ونفرتها في سبيل الله، وها هي الأيام تمر، ومحمّد -صلى الله عليه وسلم- يرى في مكة العجب العجاب، ويرفض شرك أهلها، وينفر من استرقاق أرواح مستضعفيها، ويحاول قدر استطاعته أن يواسي المكلوم، ويعين الكل، ويطعم الجائع، ويصل الرحم، ويعين على نوائب الزمن من أصيب بها، وهو الصادق الأمين الحكيم، يقصده كل طالب حاجة ملهوف، وهو يرى ويسمع ويستنكر مظالم الجاهلية وشرائع الفراعنة.
ولكن أنّى له أن يقدر وحده عليها، ولأنّك يا محمّد خلقت لتكون نبيا، ومصلحا، وهاديا، فقد صنعت على عين ربّك وجبلت على مكارم الأخلاق، وها أنت تتلقى وحي ربك، ورسالته، وتنادى بأنّك رسول الله إلى الناس كافة، فكيف ترى ستكون الردود على رسالتك؟
وأي مشقة تنتظرك وأي صبر وثبات ستراه الدنيا منك؟ وأي رضا سيراه الله من قلبك؟ {إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، لك العتبى حتّى ترضى}.
والقوم في مكة سادرون بغيهم، ماضون مقتفون على آثار آباءهم، لا يرغبون في تغيير ملتهم، ولا يقبلون بجاهليتهم بديلا، ولكنك تصدع بما تؤمر وتمضي قدما، تتبعك الأرواح المعذبة التي شقيت بتلك الجاهلية قرونا طوال.
لقد كلفك ربك الرحيم برسالته الرحيمة، ووصفك بالرؤوف الرحيم، فكيف لا تكون رحيما ؟
وكيف تتوقف عن عناء المحاولة لتغيير منهج ظل لقرون وقرون دينا يدين به كل أهل الأرض، وقانونا سائدا لا يقبل الجدال، وتواجهك قوى الجهل والظلام، بالصدود والإيذاء والعدوان، وتحاربك ومن تبعك، ويشردونكم ما بين الشواطئ البعيدة والمهاجر الغريبة وأنت صابر محتسب، ترفض المساومة على عقيدتك وشرعتك التي ائتمنك الله عليها {يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}
ولا والله ما أنت بالذي يخون الأمانة وينكص على عقبيه، ولا أنت بمن يقبل بديلا عن دين الله {والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه}
سيدي يا رسول الله، عليك أزكى وأطيب صلوات الله، جئتنا بالهدى ودين الحق لتخرجنا من الظلمات بإذن ربّنا، وحملت راية الحق سنين ملأتها عدلا وفتوحا وصبرا وجهادا ورحمة، وكنت بنا رؤوفا رحيما وعلينا حريصا، ولنا مثلا يحتذى، وقائدا يقتدى به، وإماما يهتدى به، وعلم رحمة نختال به على من سوانا، من أهل الجهالة ودعاة الانحطاط الإنساني، وتظل فينا أبد الدهر سيدا، وقائدا ونبيا ورسولا، ونؤمن بقول الله تعالى فيك {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منير}

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع