..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

الإسلاميون والدولة إشكالات وتحديات

محمد الحمداوي

١٨ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 7257

الإسلاميون والدولة إشكالات وتحديات
1.jpg

شـــــارك المادة

1. في مكانة السياسة والحكم في المشروع الإسلامي
لا شك أن تناول موضوع الإسلاميون والحكم يعتبر مؤشرا دالا على أن الحركات الإسلامية انتقلت من طور التأصيل للمشاركة السياسية وتجاوزت سؤال جدوى المشاركة إلى طور تحديات الحكم واستحقاقات تدبير الشأن العام.

 


فبعد التحولات والتغيرات التي حصلت في العالم العربي، وبعد أن انتقلت بعض الحركات المشاركة من مواقع المعارضة إلى مواقع تحمل مسؤولية تدبير الشأن العام، بدأنا نلاحظ تراجعا ملحوظا لدواعي ومبررات التحفظ على العمل السياسي سواء لأسباب تتصل برفض الديمقراطية، أو بدافع تفادي التضخم السياسي وبحجة التركيز على العمل التربوي والدعوي.

ويظهر هذا الأمر بجلاء في الحالات الآتية:
- حالة «الدعاة الجدد» :
حيث كانت أصوات تحتج بنجاحهم في وجه التنظيمات المشاركة في العمل السياسي وترد هذا النجاح والتأثير إلى تركيزهم على العمل الدعوي وابتعادهم عن العمل السياسي، إلى أن جاء الربيع العربي فوجدنا بعض رموزهم يبادرون إلى تأسيس أحزاب خاصة بهم كما هو الشأن مع أبرز رموزهم، الأستاذ عمرو خالد الذي كان حريصا على تفادى التصنيف السياسي، قبل أن يؤسس حزب «مصر  المستقبل» بعد اقتناعه بضرورة العمل السياسي.
- حالة الاتجاه السلفي :
الذي كان يدخل العمل التنظيمي في إطار جماعات أو حركات أو أحزاب في باب البدعة، قبل أن نراه اليوم وقد تجاوز هذه التصورات والأحكام المسبقة وانطلق رواده بكل حماس وفعالية نحو تأسيس أحزاب سياسية، مثل ما حصل في مصر وما يحصل تباعا في عدد من البلدان الأخرى.
- حالة بعض مدارس التزكية والتربية في تركيا:
والتي كانت تقصر جهودها على العمل التعليمي والتربوي والدعوي وتقدم على أنها النموذج المطلوب من الحركات الإسلامية المشاركة أن تحذو حذوه وتبتعد عن العمل الحزبي والسياسي المباشر أو تخفف منه. ها نحن نجدها في السنين الأخيرة حاضرة بقوة في محطات سياسية بامتياز وتدعو أعضاءها للمشاركة المكثفة سواء في الاستفتاء على الدستور، أو في التصويت في الانتخابات التشريعية لفائدة حزب العدالة والتنمية التركي، بل أصبحنا في مستوى آخر نجد بعضا منها حريصا على المشاركة في حكومات العدالة والتنمية.
2.  مكانة الدولة في المشروع الإسلامي:
وإذا كان موضوع المشاركة السياسية يتجه نحو الإجماع بين مختلف مدارس الحركة الإسلامية فإن حجم هذه المشاركة والهدف منها وكذا مكانة إقامة الدولة في هذا المشروع وهل هي المدخل الأساسي والوحيد لتنزيل المشروع الإسلامي أم أنها مدخل من مداخل أخرى تبقى متفاوتة بين مدرسة وأخرى وتجربة وأخرى.
وفي هذا الإطار فقد سبق للدكتور أحمد الريسوني أن رصد مواقف كثير من التجارب وخلص إلى أن الجماعات الإسلامية، وكثير من العلماء والدعاة، يعلقون بدرجة كبيرة - مكانة الإسلام وتطبيق الإسلام ومصير الإسلام ومستقبله، على موقف الدولة ومدى التزامها بأحكامه، وقيامها بحمل رايته.
وكثيرون يرون أن التطبيق الحقيقي للإسلام والمستقبل الحقيقي للإسلام إنما يتمثل في "قيام الدولة الإسلامية" أو ربما "الخلافة الإسلامية".
ولا شك أن الدولة الإسلامية أو الحكم الإسلامي هي عروة من عرى الإسلام وحصن حصين للحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي.
ولذلك فإن الانشغال بأمر إقامتها وبذل الجهود والتضحيات في سبيلها أمر مشروع ومعتبر.
غير أنه حينما تصبح إقامة الدولة الإسلامية هي الشغل الشاغل والهدف العاجل، أو هي الأولوية العليا والغاية القصوى، فإن هذا يصبح داعيا للتريث وموجبا للتثبت، حتى نضع الأمور في نصابها ونعطيها قدرها ومكانها..
لقد رأينا في حركاتنا الإسلامية من اعتمدوا شعار "الدولـة الإسلاميـة أولا"، فخاضوا لأجل الإقامة الفورية لها كبرى معاركهم وألقوا فيها كامل ثقلهم، وجندوا لها كل طاقاتهم  وإمكاناتهم المادية والمعنوية.
واليوم بعد وصول بعض الحركات الإسلامية لمؤسسات الدولة فهل وجدت فعلا أن الحكم هوالعروة الأساسية والرئيسية في تنزيل المشروع الإسلامي؟
الحكم وعرى الإسلام:
يكثر الاستشهاد على أهمية الدولة الإسلامية وعلى أولويتها أو ضرورة استعادتها ضمن حركة التصحيح وإعادة البناء، بالحديث النبوي الشريف“عن أبي أمامة قال: قال رسول الله: "لتَنقُضُنَّ عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها.
فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة". حيث إن الحديث اعتبر الحكم عروة من عرى الإسـلام. غير أن هذا الحديث يشير إلى حقيقتين ضمنيتين لا ينتبه إليهما المستشهدون به، ومنهما كون الحكم هو أضعف عروة من عرى الإسلام، لأن الانتقاض والانكسار يصيب أول ما يصيب الجزء الأضعف أو الأقل صلابة من أي شيء.
بينما يظل الجزء الأكثر قوة ومتانة صامدا مقاوما لعوامل الهدم والكسر، حتى يكون الأخير بقاء والأخير انكسارا وانتقاضا. فمعنى الحديث أن أضعف ما يعتمد عليه الإسلام في وجوده وبقائه هو الحكم، وأن أرسخ ما يقوم عليه وأصلب ما فيه هو الصلاة.
ومعنى هذا  أن الدولة ليست كل شيء وليست أهم شيء. بل يجب أن ينظر إليها الناس على  أن لها حيزا محدودا ووظائف محدودة، وأنها لا يمكن أن تقوم مقام الأمة، فإنهم حينئذ يتحررون من عقدة الدولة ومن تأليه الدولة، وينطلقون في أداء واجباتهم وإصلاح شؤونهم وبناء مجتمعهم وحمل رسالتهم، لأن الأمة هي الأصل 
إن الامتحان الكبير الذي على العلماء وطلائع العمل الإسلامي أن يخوضوه وينجحوا فيه هو تفعيل طاقات الأمة في جميع الاتجاهات، هو الوصول إلى الاشتغال الآلي للمجتمع الأهلي، أو ما يسمى اليـوم بالمجتمـع المدنـي.
3. تجديد الفكر السياسي الإسلامي والأسئلة الراهنة
ظلت أسئلة الفكر السياسي الإسلامي على مدى القرون الماضية تدور حول قراءة بعض النصوص والأحكام القليلة التي تتعلق بالمجال السياسي كالنصوص الآمرة بالشورى والعدل والإحسان والحكم بما أنزل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم....
كما أن ما تداولته كتب الفقه السياسي ومصنفات السياسة الشرعية – حسسب الدكتور الريسوني- ليست أكثر من توصيف وتنظيم فكري ظرفي للنظم والأعراف التي صاغتها وصنفتها الممارسة الفعلية لحركة التاريخ أو بالأحرى يمتزج تاريخ المسلمين وتصرفات المسلمين بالمرجعية الإسلامية والثقافة الإسلامية وقد يكون نصيب التاريخ وتأثيره فيها أكثر من نصيب الشرع وأدلته.
فحين يتحدث العلماء والمفكرون في قضايا الخلافة والملك وأهل الحل والعقد وعن صلاحيات الإمام وحقوقه وطاعته وعن الشورى والبيعة وعن ولاية العهد وإمامة المتغلب ووزارة التفويض ووزارة التنفيذ، فإنهم عادة يتحدثون عن ذلك - يؤكد الدكتور الريسوني-  وهم يجمعون ويمزجون بين استلهام الواقع الماثل وما يتطلبه إصلاحا وتكميلا وما يسمح به وما لا يسمح به، من جهة وعن تقديراتهم وتصوراتهم وتجربتهم المعيشة من جهة ثانية وبين التفاتهم إلى المبادئ والأدلة الشرعية وما تسعف به وترشد إليه من جهة ثالثة.
كما أن الممارسة التاريخية فيها الكثير من المحاكاة والاقتباس من أنماط الحكم السائدة وقتئذ.
لذلك وجب التمييز بين ما هو تاريخي وبين ما هو شرعي وإعمال الاجتهاد العلمي حتى في ما نتج عن التأمل في المبادئ والأدلة الشرعية.
إذ الفصل بين الشريعة ومكوناتها والتاريخ ومكوناته سيرفع الحرج عن مبدأ المراجعة لتراث الفقه السياسي ويساهم في إنتاج فقه سياسي يجيب على أسئلة راهنه وإشكالات زمانه من قبيل الحرية والمواطنة والدولة المدنية والمواثيق الدولية وعن الموازنة بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وعن التشارك في إنتاج الثروة والتضامن في توزيع ثمارها وعن إسهام المرجعية الإسلامية في إغناء وتطوير القيم الكونية وعن الفن والإبداع والحريات العامة والحريات الفردية وغيرها .
الدولة المدنية والدولة الدينية:
لم يسبق أن طرح سؤال الدولة المدنية مثلما يطرح اليوم مصحوبا بتخوفات وهواجس بعضها مشروع ناجم عن ضعف التواصل والحوار بين التيارات الإسلامية وما يسم بالتيارات المدنية حتى لا نسميها علمانية غير أن الهواجس الأخرى ليست سوى مزايدة وإحراج أو جزء من عملية التحريض والتخويف وإثارة الزوابع أمام هذه التجارب الديمقراطية الناشئة .
وفي هذا الصدد نتساءل اليوم مع الأستاذ فهمي هويدي حول هل يندرج موضوع الدولة المدنية والدولة الدينية في سياق الإجابة عن سؤال آني تفرضه الظروف والسياقات الحالية التي أفرزها ما سمي بالربيع العربي، من تصدر الإسلاميين لنتائج الانتخابات وتحمل مسؤولية الحكم في بعض الأقطار
أو أنه مجرد محاولة لإيجاد إجابة إسلامية عن سؤال غربي في الأساس، أفرزته التجربة الغربية مع الكنيسة، ولا وجود له أصلا في التصور الإسلامي، وبالتالي فإن الخوض في هذا الإشكال هو مجرد نقل قسري لسؤال غربي إلى الساحة الإسلامية. 
أو كما نبه إلى ذلك المستشار طارق البشري حين قال أننا : "نتساءل ونختلف في دولة دينية أو مدنية، ونظنهما دولتين نختار بينهما، بينما هما شيء واحد، ونحن إذا حطمنا ما نظنه واحدة منهما فلن نجد الأخرى"، وبأن «المدنية» في الاستخدام العادي لها كانت تقوم في مواجهة «العسكرية»، ولكنها في الاستخدام الدائر الآن تقوم في مواجهة «الدينية»، وأن «المدنية» في هذا الاستخدام مقصود بها التنظيم المؤسسي للدولة وللمجتمع.
و«الدينية» مقصود بها المرجعية الفكرية والثقافية العامة التي تقوم وراء هذا التنظيم المؤسسي. وبالتالي يدعو إلى أن يكون جهدنا ليس في إثارة التعارض بينهما، ولكن في استخلاص التوافق بينهما ليصير شيئا واحدا. 
أو أنه محاولة لتدارك مفهوم "حاكمية الله"، التي نظر لها الفقيه الباكستاني الكبير أبو الأعلى المودودي، وطورها المفكر الشهيد سيد قطب، والتي أصبحت بعد ذلك أكثر ترددا وشيوعا في كتابات الكثير من دعاة "حاكمية الله" من خلال الدعوة للعمل من أجل "حكومة الله" التي يأتي بها "حزب الله" لتُعلي كلمة الله، وبالتالي فهي محاولة لتحصين هذا المفهوم بضوابط واضحة تمنع أي انزلاق لإساءة استخدام اسم الله وسلطانه سبحانه وتعالى، أو أي تقديرات أو تفسيرات تخلط حق الله بحق الحاكم وحق الناس، وهو خلط قد يدفع ثمنه الناس في النهاية. (أنظر كتاب القرآن والسلطان لفهمي هويدي ص 138).
أم أنها بغض النظر عن ذلك كله، تعتبر قضية أصيلة مطروحة في ساحة الفكر السياسي الإسلامي وجب تدارسها والبحث فيها، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة التي تربط بين الدعوي والسياسي في إطار الدولة الإسلامية، هل الفصل القاطع بينهما وإقامة السياسة على أسس مدنية محضة تقصي الدين بصفة تامة باعتباره شأنا مطلقا يحيل على المقدس بينما السياسة شأن نسبي ليس مقدسا وإنما قابل للنقد والمعارضة.
أو الوصل والدمج التام بما يجعل العمل السياسي عملا دينيا انطلاقا من أن الدين الإسلامي دين شامل.
أم أن العلاقة الأوفق بين الدين والسياسة في الإسلام ليست هي الفصل إلى درجة القطيعة، ولا الوصل إلى درجة التطابق، وإنما هي التمييز والتمايز كما ناقش ذلك الدكتور سعد الدين العثماني في كتابه الدين والسياسة تمييز لا فصل. 
غير أن السؤال الأهم في هذا الإطار هو هل الدولة المدنية دولة علمانية بالضرورة؟
وما هي ملابسات ارتباط العلمانية بالدولة المدنية؟
وهل الربط والترابط يعتبر ربطا تكوينيا ميكانيكيا أم هو ربط مخصوص بالتجربة الأوربية وكفاحها للتخلص من طغيان المؤسسة الدينية المنحرفة في تحالفها مع المؤسسة الملكية الطاغية ؟.
وفي الجهة المقابلة هل الدولة الإسلامية دولة دينية ثيوقراطية؟
وبالتبع هل الحكم في الإسلام يستمد من مصدر إلهي أم هو شورى واختيار ورضى بشري وهل الحاكم يستمد شرعيته ممن اختاره برضاه ويملك محاسبته وعزله أم هو من إرادة إلهية لا سبيل لمحاسبته إلا من تلكم الإرادة ؟

إن الإجابة الصحيحة عن الأسئلة الأولى هو الذي من شأنه أن يفك الارتباط بين الدولة المدنية والفكرة العلمانية.
والجواب الراشد عن الأسئلة الثانية هو الذي من شأنه أن يفك الارتباط بين الدولة الإسلامية والفكرة الثيوقراطية.
فالدولة تكون دينية عندما ترتبط السياسة فيها بالقداسة وترتبط فيها مصادر مشروعية السلطة بمصادر علوية غيبية متعالية وتتطابق فيها إرادة الحاكم بإرادة مقدسة، أو عندما يدعى فيها الحاكم العصمة أويضفى طابع القداسة على ما من يحكم.
والدولة المدنية هي التي تفصل فيها السياسة عن القداسة؛ وترتبط فيها المسؤولية بالانتخاب وتمارس فيها السلطة التداول والقرار بالشورى والديمقراطية المعبرين عن الإرادة الحرة للمحكومين.
إن المعركة اليوم من اجل مدنية الدولة تمر بالضرورة عبر فك الارتباط على المستوى الفكري والمعرفي بين المدنية والعلمانية من جهة وعلى المستوى التاريخي تسليط الضوء على جوانب الفشل والقصور في تجربة الدولة العلمانية على النمط الفرنسي وتطبيقاتها في عالمنا العربي خاصة في تركيا وتونس ما قبل تجربتي التحول الديمقراطي فيهما.
وللخروج من المأزقين معا تم مؤخرا طرح فكرية جديدة هي فكرة الدولة المدنية بمرجعية إسلامية وذلك على غرار الحزب السياسي بمرجعية سياسية لأن الحزب والدولة هما مؤسسات يفترض أن تعبر عن الإرادة الشعبية وتمثل الاختيارات القيمية للشعوب وذلك في نطاق قيم وثوابت كل شعب وكل أمة.
وفي هذا الإطار تضمنت مذكرة حركة التوحيد والإصلاح حول الإصلاح الدستوري دعوة واضحة إلى "الدولة المدنية الديمقراطية بمرجعية إسلامية التي تكون فيها السلطة للشعب وترتبط فيها ممارسة السلطة بالمسؤولية والمحاسبة، على أساس تعاقد سياسي يضمن الكرامة والحرية والعدالة، ويحقق استقلال سلطة القضاء والارتقاء بمنظومة حقوق الإنسان وإطلاق الحريات" .
وفي الأخير نخلص مع الدكتور أحمد الريسوني إلى "إن بعض الإسلاميين المتحفظين عن مصطلح الدولة المدنية موافقون ومتفقون تماما على رفض ما يضاد الدولة المدنية وخاصة الدولة الدينية التيوقراطية بكل مفاهيمها ونماذجها المعروفة في الثقافة المسيحية والتاريخ المسيحي الأوربي.
فالدولة التي يؤمن بها الإسلاميون - بكل مدارسهم بمن فيهم السلفيون المتحفظون على مصطلح الدولة المدنية - ليس لأحد فيها قداسة أو عصمة أو سلطة مطلقة وليس فيها من يأتي إلى الحكم أو يمارسه بنسب إلهي أو بتفويض إلهي وكل واحد فيها يؤخذ من كلامه ويرد كما قال الإمام مالك -رضي الله عنه-، وكل واحد فيها يحاسب ويؤاخذ على أفعاله في الدنيا كما في الآخرة.
ويؤكد كثير من العلماء والمفكرون المسلمين أن الدولة في الإسلام توصف بأنها إسلامية ولكن لا توصف بأنها دولة دينية وأن ليس فيها شيء من محاذير الدولة الدينية وصفاتها".
في تصحيح مفهوم الشريعة قبل تطبيقها:
تطبيق الشريعة من الموضوعات الشائكة التي تتطلب مناقشة عميقة أولا لمفهومها وثانيا لمضمونها وثالثا للمقاربة الدستورية المثلى لتطبيقها.

في مفهوم الشريعية
ولعل ما يثير الانتباه في هذا الإطار هو الصورة النمطية التي ارتسمت في الأذهان بخصوص مفهوم الشريعة عموما وبخصوص سؤال تطبيقها على وجه الخصوص.
فمن جهة ينبغي بذل مجهودات كبيرة من أجل تصحيح الصورة النمطية عن مفهوم الشريعة تلك الصورة التي تختزل الشريعة في جلد شارب الخمر ورجم الزاني وقطع يد السارق وفرض الحجاب على الفتيات ورفض حقوق النساء بالجملة وتحريم لكل مباهج الحياة، وكذا رفض حقوق الأقليات وتصنيف الناس على أساس ديني إلى فسطاطين والعالم إلى دارين.
هذه الصورة القاتمة التي جرى ترويجها عن الشريعة تحتاج إلى جهد فكري وشرعي ومعرفي كبير، أولا لدحضها وثانيا لتصحيحها.
وعليه فإن المفهوم الشرعي والإنساني "للشريعة" يمتد في حقيقته إلى معاني تشمل "إصلاح العقيدة، وإقامة العدل، والتوزيع العادل للثروة، وإشاعة الاستقامة، وإشاعة الأمن، والإحسان للمخالفين من أهل الكتاب.
ولذلك فإن إقامة أي عروة من عرى الدين وأي حكم من أحكامه، كل ذلك من الشريعة سواء كان من المعتقدات أو الأخلاق أو النظام الاجتماعي أو السياسي.
كما أن العمل بالعرف الحسن من الشريعة، وكل ما استقر من معروف وخير عند عقلاء النوع البشري هو مما تأمر الشريعة بالأخذ به والعمل به  ومن ثمة فالشريعة لا تنحصر لا في الحدود ولا في نظام العقوبات الذي هو نفسه مجرد جزء من النظام الإسلامي.
كما أن درء إقامة الحدود عند وجود الشبهات وعند انتفاء شروطها ومقدماتها هو من الشريعة أيضا".
فالقرآن الكريم وكل ما تضمنه من فاتحته إلى نهايته، هو الشريعة الإسلامية . والسنة النبوية الصحيحة كلها وكل ما فيها هي الشريعة الإسلامية .
فالإيمان بالله، والخوف من الله، والحياء من الله، وتقوى الله، كلها شريعة الله وكل ما يتحقق من هذه الأمور فهي من تطبيق الشريعة.
وكذلك عبادة الله والتوكل عليه والإخلاص له وذكره وشكره كلها شريعة الله وكلها تطبيق للشريعة.
والتخلق بمكارم الأخلاق والآداب من عدل وإحسان وصدق ووفاء ورفق وتواضع ... كل هذه الأمور من شريعة الله وكذلك التنزه والتخلص من سفاسف الأخلاق ورذائلها والتعفف من الخبائث والمحرمات والوقوف عند المباحات الطيبات جزء من الشريعة ومن تطبيق الشريعة.
وطلب العلم أي علم نافع وبذله ونشره والمساعدة عليه شريعة وتطبيق للشريعة.
وكل ما يحقق ويخدم مقاصد الشريعة في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فهو من صميم الشريعة ومن مصالح الشريعة ...
والزواج والمساعدة عليه وحسن العشرة الزوجية فيه ... كله شريعة وعمل بالشريعة.
وكل ما يجلب أو يحقق أو يعزز كرامة الإنسان وحريته وأمنه ورفعته ماديا ومعنويا فهو من الشريعة ومن إقامة الشريعة.
وفضلا عن شرف الحكم بما أنزل الله مما هو منصوص في كتابه وسنة نبيه فإن الحكم والعمل بكل ما فيه عدل وإحقاق للحق ورفع الظلم هو جزء من شريعة الله...
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أركان الشريعة... وكل إصلاح ونفع على وجه الأرض وكذلك كل إزالة أو إعاقة لأي فساد أو ضرر في الأرض فهو من الشريعة..
فكل من عمل بشيء من هذا كله أو أعان عليه فهو عامل بالشريعة وقائم بتطبيق الشريعة سواء كان فردا أو كان جماعة أو دولة أو حكومة أو وزير أو رئيس أو مرؤوس وأي واحد من هؤلاء خالف وخرق شيئا مما ذكر من الشريعة أو ساعد على خرقه فهو معطل للشريعة بقدر مخالفته وخرقه.
مسؤولية تطبيق الشريعة مسؤولية جميع المسلمين:
لقد اتضح مما تقدم من إشارات وعناوين مدى اتساع الشريعة وتنوع مضامينها وأنها ليست بذلك الضيق الذي يتصوره أولئك الذين يرهنون الشريعة وتطبيقها بيد القضاة ومحاكمهم وبيد الرؤساء وحكوماتهم فإن هم طبقوها فقد طبقت وارتفعت رايتهم وإن هم نبذوها واعرضوا عنها فقد عطلت ونكست رايتها.
وأيا ما كانت أهمية السلطة والدولة في إقامة الدين وتطبيق شريعته فإنها تبقى ويجب أن تبقى دون أهمية الأمة والمجتمع.
والجريمة الكبرى التي يرتكبها كثير من حكام المسلمين ليست هي عدم تطبيقهم للشريعة في سياساتهم وقوانينهم وغنما في تكبيل الشعوب وما فيها من طاقات وتخويف الناس وصرفهم ومنعهم من القيام بما يمكنهم القيام به من مصالحهم وواجبات دينهم.
وإذا كنا اليوم بعد وصول بعض الإسلاميين إلى الحكم إلى بعض مواقع الحكم في مواقعهم نتساءل ونتحدث عن مدى وفاء هؤلاء لشعار تطبيق الشريعة وعن مدى قدرتهم على ذلك وعن أسلوبهم وطريقتهم في هذا الباب...،فإن أهم ما يجب علينا البدء به هو تصحيح مفهوم الشريعة ومفهوم تطبيق الشريعة.
وبناء عليه فإن أهم وأكبر خدمة يمكن تقديمها للشريعة وتطبيق الشريعة هي إطلاق الطاقات الإسلامية المعطلة أو المعاقة طاقات المجتمعات.
فيجب إطلاق طاقات الأمة ودعم مبادراتها وفاعليتها بأفرادها وجماهيرها وهيئاتها وعلمائها ودعاتها ونسائها وشبابها وأغنيائها ومفكريها... فهذه الطاقات والفعاليات هي المعول عليها في تطبيق الجمهرة العظمى من الشريعة وهي التي ستشكل الرافد والسند القوي الوفي لكل المبادرات الحكومية والبرلمانية المندرجة في تطبيق الشريعة أو الرامية إلى ذلك.
عن هذه التساؤلات يجيب الدكتور أحمد الريسوني أن أحكام الشريعة هي عين المصلحة الحقيقية للناس أفرادا وجماعات وأن المصلحة الحقيقية هي أيضا شريعة.. وأن لا تعارض بين الشريعة الحقيقية والمصلحة الحقيقية ولا تضاد بين ما تريده شريعة الإسلام وما تريده شعوب الإسلام ويسوق في هذا الإطار عدد من الأدلة والقواعد لبيان كون الشريعة  مصلحة وكون المصلحة شريعة.
وبيان حجية المصلحة ومرجعيتها في التشريع الإسلامي  .
وعلى هذا الأساس وعلى هذا النهج لا يبقى مجال لتخويف الناس على مصالحهم الحقيقية فالإسلام يتسع غاية السعة لكل الفنون الجميلة الممتعة البناءة بما فيها فنون اللهو والترفيه وفي صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- "أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو"
والإسلام يتسع للسياحة والتمتع بمباهج الأرض ومخلوقاتها "ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون" النحل آية 6
وهكذا فنحن في الإسلام لا نحتاج إلا إلى فهم مقاصده ومصلحية أحكامه ومراعاة ذلك وحسن تنزيله وسيفهم جميع الناس حينئذ إلا من أبى أن جميع أحكام الشريعة هي الأحفظ لدنياهم وسعادتهم الدنيوية فضلا عن دينهم وكرامتهم.
4- الإسلاميون وتحديات الحكم
بعد الحراك العربي وجد الإسلاميون أنفسهم أمام تحديات الحكم في ظرفية دقيقة تتطلب معالجة مخلفات مراحل الاستبداد والتحكم وجبر الأضرار المتراكمة بما فيها ضحايا الثورات ثم تلبية انتظارات الناس وترجمة آمالهم في التغيير الذي من أجله هبوا وخرجوا.
غير أن وصول هؤلاء الإسلاميين جاء في مرحلة غاية في الصعوبة إذ فضلا عن نسب العجز الاقتصادي ومستوى النهب والهدر والفساد الذي تعرضت لها مقدرات بلادهم وثرواتهم هنالك أزمة اقتصادية عاصفة بالدول في محيطهم وخاصة بالنسبة إلى الدول شديدة الارتباط بالاقتصاد العالمي.
ومن جهة أخرى يتعين عليهم إعادة بناء الدولة وإعادة هيكلة السلطة فيها بما يرسي منهجا قائما على الشراكة السياسية ويسد المنافذ على الاستبداد والإقصاء والتفرد بالسلطة .
إن ما يزيد من صعوبة هذه المهام كونها تأتي في ظل أوضاع ما زالت فيها القوى المضادة تبحث عن سبل استعادة زمام المبادرة وتنشط فيها جيوب المقاومة لتغذية مناخ اللاثقة بين الشركاء فضلا عن تحريض الخصوم وزرع الألغام في الطريق والاستدراج إلى معارك وقضايا سجالية .
• فهل سيعتبرون ذلك من مستلزمات طريق الإصلاح ويصبرون على الأذى اتباعا للحديث النبوي الشريف (المؤمن الذي يخالط الناس, ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم....) ويقرون بأن المدافعة بين الصلاح والفساد سنة مستدامة لاتنتهي بانتخابات أو بأغلبية أو بمعارضة أو بالحكومة أوبالدولة مصداقا لقوله تعالى: "ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" أم أنهم سيركزون على خطاب المظلومية؟
• وفي ضوء كل هذه المعطيات يقف الإسلاميون أمام مفترق طرق في تعاملهم مع مطالب الشارع هل يستندون إلى الشرعية الثورية أم يبددون مخاوف خصومهم في الداخل والخارج حيال الديمقراطية والاعتراف بالأخر ويؤسسون لشراكة سياسية  تؤسس للكتلة التاريخية بين الأطراف الأساسية في الأمة.
• هل ينهجون مسلك الإصلاح المتدرج التراكمي المنتج الذي نظروا له والذي يبني على الموجود أم ينساقون مع اللحظة الثورية ويسلكون المنهج الثوري الطفروي القطائعي.؟ أي الاستئناف الصفري.
• كيف ينتقلون من خطاب المشروع البديل ويبددون هواجس الإقصاء والتفرد ويؤسسون لخطاب الإسهام والتشارك؟
• كيف يوازنون بين ضغط الجماهير الثائرة المستعجلة لتحقيق أهداف الثورة والمتطلعة إلى تقاسم ثمارها وبين توازنات المعادلات الدولية وألغام السياسة الدولية؟
• كيف يوازنون بين أشواق الناس في الحرية وتطلعاتهم إلى التصالح مع مرجعياتهم وإعادة الاعتبار إلى هوياتهم وبين مستلزمات المسؤولية وإكراهات التدبير والإنجاز للارتقاء بالمعيش اليومي للناس ومعالجة بنيوية لآفات الفقر والبطالة وتوفير الخدمات الأساسية.
• كيف يوازنون بين محاربة الفساد واستعادة الثروات المنهوبة وفي نفس الوقت تأمين الناس على مصالحهم وعدم زرع الفوبيا والخوف المؤشرة على عدم الاستقرار والطاردة للاستثمار والمضرة بالسياحة؟.
• كيف ينصفون ضحايا المراحل المظلمة ولا يزرعون الضغائن والأحقاد والانتقام وهل من سبيل إلى عدالة انتقالية بديلة عن العدالة الانتقامية؟
• كيف يتعاملون مع القطاعات الحساسة كالفن والسينما والإعلام  بمنطق يضع هذه القطاعات في قلب الإصلاح وفي نفس الوقت يحافظون على مكتسبات الحرية والإبداع.


**والخلاصة هي:

أن وصول الإسلاميين إلى الحكم وانخراطهم في مؤسسات الدولة يحتاج إلى مصاحبة معرفية وفكرية تجديدية لطرح الأسئلة الحقيقية الراهنة وتوفير الفضاءات المتنوعة والمتعددة للاجتهاد وإبداع خيارات وبدائل تمثل سندا لهذه التجربة
إن الاشتغال بقضايا الدولة وإشكالات السلطة يعتبر مدخلا مهما في التنزيل للمشروع الإسلامي غير أنها ليست المدخل الوحيد والأوحد وليست حتى المدخل الأهم وسيكون من الخطأ التفريط في المداخل الأخرى كالعمل التربوي والدعوي والثقافي أي مدخل تكوين وتخريج الإنسان الصالح المصلح، وسيكون بمثابة ما حصل في غزوة أحد حين غادر الرماة الجبل والتحقوا بالصفوف التي حققت النصر في بداية الغزوة، فانشغلوا جميعا باستحقاقات النصر والنجاح وضيعوا مهمة الإسناد الحقيقي المتمثل في الحماية والمدافعة .
وإن الخشية ونحن نستحضر هذا الحدث من سيرة الرسول –صلى الله عليه وسلم- ومسيرة الرسالة وما نستقي منها من عبر ودروس تبقى قائمة من أن يخلي الجميع مواقع الرمي ووظيفة الرماة وهي محاضن التربية ومنابر الدعوة وفضاءات الفكر والثقافة من دعوتهم ويهرعون جميعا إلى العمل المباشر الذي انبسطت فرصه.
وليس هذا وحسب بل التحذير يبقى قائما من أن نستثمر خيرة طاقاتنا وجل رجالنا ونسائنا وخبراتنا في هذا العمل الذي نتواضع جميعا على حجمه ومكانته التي لا تقاس بأي حال من الأحوال بقيمة وحجم ودور التربية والدعوة والفكر في المشروع الإسلامي.
فالتحدي الأساسي هو كيف نجعل للعمل السياسي وتسيير الدولة والحكومة عائدا حضاريا يتجاوز حالة المد والجزر التي تعرفها الانتخابات بل يعمل على ترسيخ وإشاعة قيم حضارتنا التي تضمن الاستمرارية.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع