..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

يوم من أيام حوران المجيدة

محمد سرور زين العابدين

٣ ٢٠١١ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3499

يوم من أيام حوران المجيدة
32.jpeg

شـــــارك المادة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى اله وصحبه وكل من اهتدى بهديه واتبع سنته إلي يوم الدين، أما بعد:
قال من ابتلينا به في بلاد الشام: ما يحدث في البلاد العربية لا يمكن أن ينتقل إلى سورية لأن حالنا تختلف عن أحوالهم، فنحن والشعب يد واحدة نقف بوجه المخططات الصهيونية، ولا نقبل أن يفرض علينا الأمريكان وصايتهم، وعندما سئل عن الإصلاح قال: بدأنا بالإصلاح الاقتصادي، أما السياسي فيحتاج إلى التدرج في تطبيقه. وقد اعتاد على ترديد مثل هذه الأقوال التي ليس لها أدنى مصداقية، فالشعب السوري كما يرى لا يفهم في السياسة، ويريد أن يعلمه ولعله أشار إلى حاجته إلى عقد آخر.


وقال أبناء جيلي: حقاً إن سورية تختلف عن أي بلد عربي آخر، فالبلد تحكمه طائفة معينة منذ ثمان وأربعين عاماً، وقد تربى جيل كامل على الذل والقهر والاستعباد، وصار المواطن حتى لو كان في سفر متحفظاً في كل كلمة يقولها إذا كانت تمس النظام من قريب أو بعيد. وأضافوا:
إن عدد رجال الأمن يبلغ بضع مئات -حسب بعض التقديرات- ولهم فروع ومكاتب في كل قرية ولو كانت صغيرة ونائية، أما أحياء المدن فلهم في كل حي أكثر من فرع، وهذه ظاهرة لم يعرفها بلدنا من قبل.. ويمسك بتلابيب هذه الأجهزة كما يمسك بتلابيب الجيش أبناء هذه الطائفة الحاكمة، ويمارسون أبشع أنواع الظلم والاستبداد، ويتحدون مشاعر الناس في حريتهم وكرامتهم ويبتزون أموالهم بطرق دنيئة.. فكيف سيحدث التغيير في مثل هذه الأجواء الخانقة التي يحاسب فيها الإنسان حتى لو لم يتكلم؟.
وقال الشباب ممن هم دون سن الثلاثين:
أيها الآباء والأجداد إننا نعتز بما تعلمناه منكم، ونحترم خبرتكم وفضلكم، ولكن عصرنا يختلف عن عصركم، ونحن نعرف كيف نستخدم الآلات والوسائل الحديثة، وأنتم لا تعرفون، وقد تعلمنا منكم بأن لكل زمان دولة ورجال، فدعونا نطرق أبواب تجربة جديدة مع حاجتنا إلى دعائكم لنا بالتوفيق والنجاح.
كانت الأجواء متوترة منذ الثورة التونسية وزادت توتراً بعد التجربة المصرية، فأجهزة الأمن مستنفرة ومنتشرة في كل مكان تسترق السمع، وتراقب الناس وتكمم الأفواه.. وكنت أتساءل: هؤلاء الشباب الذين يبيتون أمراً ما، هل يعيدون تجارب جيلنا، أم سيصنعون حدثاً جديداً يختلف في شكله ومضمونه عن كل التجارب والمحاولات السابقة؟!.
والذي أدهشني أن الذي أشعل نيران هذه الثورة أطفال من درعا حاضرة حوران عندما كتبوا على الجدران الشعب يريد إسقاط النظام، فاعتقلتهم المخابرات، ونقلتهم إلى وكر من أوكارها في دمشق، وهب المتظاهرون في ذرعا يهتفون: "من حوران هلت البشائر"، واستخدم النظام البطش الذي لا يعرف سلاحاً غيره، وقتل من قتل ممن نحتسبهم شهداء في سبيل الله ولا نزكي على الله أحداً.. وخشيت أن تنفرد قوات الأمن بهذه المدينة، وتعزلها عن بقية مدن وقرى حوران، ثم عن المحافظات السورية كلها، ثم تفعل بها ما فعلته بمدينة حماة عام 1982، غير أن الوضع كله قد اختلف: لقد هبت عشائر حوران بشيبها وشبابها، ويممت نحو درعا سيراً على الأقدام رغم الحصار المفروض عليها، ودخلها كثير منهم من طرق جانبية ليلبوا نداء إخوانهم: "الفزعة.. الفزعة يا حوران".. ثم امتدت الثورة لتشمل: طفس، وداعل، والحراك، والشيخ مسكين، ونوى، والصنمين، وجاسم، والحارة، وإنخل، وكل قرية من قرى حوران، وإن لم تذكرها وسائل الإعلام..
وسقط شهداء هنا وهناك برصاص العصابة الحاكمة التي لم ترتق إلى مستوى الدولة رغم مرور ثمان وأربعين عاماً على استلامها دفة الحكم، ولا أدري كيف ستنسى هذه العشائر شهداءها الذين غطوا أرض حوران، وهل تفهم هذه العصابة معنى النداء الذي كان يردده الجمهور الهادر: يحرم علينا لابسات العصايب..  لن ما خذينا لعيال حوران بالثار.
والذي كان يخشاه النظام وقع، فالمظاهرات امتدت إلى كل من: دمشق، ودوما، والتل، والمعظمية، وحمص، وبانياس، واللاذقية، وحماة، ودير الزور، ومناطق أخرى.. وسالت الدماء، وأخذ النظام يترنح، ويتناقض فيما يُصدر من تصريحات تقرأها وتعلق عليها عجوز متوترة، وما كان يزعمه من ورث الحكم وهو ليس أهلاً له بأن الإصلاحات تحتاج إلى زمن، والشعب لا يدري مدة هذا الزمن، وهل تبدأ فعلاً؟ تبدد وأخذ يعلن وبطريقة غامضة عن إلغاء قانون الطوارئ، وعن إصدار تشريعات تسمح بتعدد الأحزاب وغير ذلك مثل إطلاق سراح الأطفال المعتقلين، وبعض النساء والرجال.
وقبل الاسترسال في الحديث عن تقويمي لبداية تجربة هؤلاء الشباب، أستسمح القراء عذراً في وقفة قصيرة أسجل فيها أحاسيس ومشاعر من فرض عليه هذا النظام الغاشم غربة مضى عليها ست وأربعون عاماً:
1- هذا المسجد الذي يتحدث اليوم العالم عنه عبر وسائل إعلامه هو مسجدي الذي كنت أصلي فيه الجمعة، وأستمع لخطب ودروس شيخنا الأول عبد العزيز أبازيد - رحمه الله -، وما زلت أذكر بعض ما قاله في مناسبات لم يكن فيها هذا الوحش المفترس الذي أسموه قانون الطوارئ.. كان طول العهد أنساني أن اسمه "المسجد العمري"، وقيل لي مازال كما عهدته، لم يتغير فيه شيء والعهدة على الراوي.
2- وهذه المظاهرة المباركة التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، ذكرتني بمظاهرات كثيرة شاركت فيها وأنا طالب في متوسطة درعا (لم تكن المرحلة الثانوية قد تأسست)، وكان أشهرها مظاهرات 1954م التي انتهت بسقوط الحاكم العسكري أديب الشيشكلي. في هذه المظاهرة قتل طالب من عائلة عزيزة، ونسيت إن كان قد قتل غيره، واعتقلت الشرطة العسكرية لم يكن هناك مخابرات عدداً قليلاً من كبار الطلبة، ناموا يومين في السجن، وحلق السجانون شعر رؤوسهم، ثم عادوا أبطالاً، وكنا نمازح بعض الطلبة، فنقول لهم: أنتم تعلقتم بسيارة الشرطة ليعتقلوكم، ولتعودوا أبطالاً، ولكنهم فوتوا عليكم الفرصة التي كنتم تسعون إليها... غادر أديب الشيشكلي سورية، ورفض إراقة دماء أبناء الوطن، فشتان شتان بين ذاك الحاكم العسكري، وهذا النظام العسكري الباطني.
3- هل يدري هؤلاء الشباب الذين كسروا حاجز الخوف، وفجّروا ثورة سلمية، واستقبلوا رصاص الغدر والخيانة بصدور عارية، وشجاعة نادرة... نعم هل يدرون أن أجدادهم الأقربين هم الذين كسروا حاجز الخوف من فرنسا العظمى، (وليس من هذا الصعلوك وأخيه الأحمق) في عام 1920 يوم دخل غورو دمشق في زهو وخيلاء، وكان أول عهده بها زيارة قبر البطل صلاح الدين الأيوبي، وقال يخاطب القبر: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"، وفي رواية تاريخية أخرى: قال: "نحن أحفاد غود فراي فأين أحفادك يا صلاح الدين"؟!.
سمعت سورية كلها هذا التحدي من علج صليبي متجبر، ووقفت مذعورة مقهورة، وما عساها تفعل بعد هزيمة جيشها ومتطوعيها في معركة ميسلون؟!.
أما أجدادكم أيها الشباب من (آل الحلقي، والجباوي، والحريري، والزعبي، والحشيش، والمسالمة، والأبازيد، والجوابرة، والخليلي، والمقداد والرفاعي، والمصري.. وجميع العشائر الأخرى دون أي استثناء) فقد اجتمعوا في حاضرتهم الباسلة درعا، وطلبوا من ملك سورية الذي خلعته فرنسا، قيادة ثورتهم، لكن فيصل بن الحسين أبى ومضى في قطاره المتجه إلى حيفا، فقاد أجدادكم أيها الشباب البواسل ثورتهم وحدهم ودون مساعدة أحد ممن يجاورونهم، وكانت أرض معركتهم تمتد من شمال الصنمين وحتى درعا جنوباً، ومن بحيرة طبريا غرباً حتى بادية الشام الجنوبية شرقاً. واستخدم الفرنسيون جميع أنواع الأسلحة الحديثة في تلك الأيام، وهدمت طائراتهم بعض بيوت شيوخ العشائر، وكان من المواجهات الكثيرة بين الحوارنة والفرنسيين القطار الذي كان يقل كبار أعضاء الحكومة المتعاونة مع فرنسا، فانقضوا عليه، وقتلوا أكثر ركابه من الفرنسيين والسوريين العملاء، وقاد حمد وعقله القطار بعد الاستيلاء عليه من محطة "خربة غزال" إلى درعا بصعوبة بالغة. فحمد وعقلة الذي يتندر البعض بذكر اسميهما بطلان من أبطال الجهاد، ومفخرة من مفاخر حوران.
وأجدادكم -أيها الأبناء والأحفاد- هم الذين قاتلوا القوات الفرنسية في درعا في نهاية عام 1945م بسلاح بدائي، وأرغموها على مغادرة المحافظة قبل أن تنسحب هذه من أية محافظة أخرى. قال لي من شهد هذه المعركة: كان البعض يهجم على القوات الفرنسية بالسلاح الأبيض أو ببنادق قديمة ذات طلقة واحدة ولسان حالهم يردد: {وعجلت إليك ربي لترضى}، مما أوقع الرعب في قلوب الفرنسيين رغم امتلاكهم الأسلحة المتطورة، وقتلهم عدداً كبيراً من المجاهدين. لقد غادرت بلدي عام 1965م أي بعد عشرين عاماً من هذه المعركة الفاصلة، وبعض نوافذ البنك الوحيد في درعا التي اخترقتها رصاص هذه المعركة باقية على حالها.
يا شباب حوران: لقد جئت على ذكر بطولة أجدادكم الأقربين لسببين:
- الأول: لم يذكر التاريخ المقرر، ومذكرات السياسيين السوريين عن هذه البطولات والتضحيات التي لم تنقطع طوال عهد الاستعمار الفرنسي أكثر من سطرين أو ثلاثة، وهذا ظلم يجب أن يستدركه أهل الأقلام منكم.
- الثاني: لأذكركم بأنكم خير خلف لخير سلف، وأطالب هؤلاء الحكام الحمقى أن يقرؤوا التاريخ جيداً ليعلموا من هو الخائن الذي وضع نفسه في خدمة كل مستعمر؛ سواءً كان هذا المستعمر: صليبياً أو فرنسياً أو يهودياً، ومن هو المجاهد الذي لا يريد علواً في الأرض ولا فساداً.
أبنائي وأحفادي: في حديث قادم سأذكر باعتزاز الدروس التي تعلمتها منكم، والله ولي التوفيق.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع