..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

العالم الرباني ونكبات الأمة

هبة الله شتا

١٠ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3665

العالم الرباني ونكبات الأمة
2.jpeg

شـــــارك المادة

العالم الرباني المؤمن التقى الذي ورث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تعاليم الدين الحنيف ينظر إليه المجتمع وكأنه النور المتحرك في الظلمة؛ فيقوم بتوفيق الله - تعالى - له بإصلاح هذه الظلمة، فكلما هدى الله على يديه أحد البشر كثر النور وقل الظلام، حتى ينعدم بفضل الله - عز وجل -.

 


فالعالم الرباني كبير الهمة يحمل على عاتقه هم الأمة الإسلامية بأكملها، ويقويه الله - تعالى - على تحمل العبء بالاستعانة والصبر. يرجع إليه الأمير والبسيط لاستشارته، فهو الحامل لكتاب الله وسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فحق له أن يستشار وتسمع كلمته ويحترم قوله، كما أنه لا يسكت عند قوة أهل الفجور وأذاهم، يقول كلمة الحق ويبذل الجهد فهو قوي بالله، ولا يخشى في الله لومة لائم.
في عصرنا هذا تخرج الأمة الإسلامية من نكبة إلى أخرى أكبر منها، تصاب الأمة وتمرض ويشفيها ويقويها الله ويقيمها عالية شامخة مرة أخرى؛ لكنها على طول الخط تحتاج إلى النور الذي يضيء لها الطريق، وهو هذا العالم الرباني القوي بالله، ذلك العالم الذي تحتاجه محنة سوريا الآن أشد الاحتياج، وما أشبه الليلة بالبارحة في هذه البقعة الشامية الطاهرة، حيث تسطر لنا كتب التاريخ الكثير من مشاهد العلماء الربانيين مع محن أرض الشام، أردت أن أستعيدها الآن لندرك حجم الدور الذي يمكن أن يؤديه العالم الرباني من أجل انقشاع غمة سوريا الراهنة.
تحكي لنا كتب التاريخ أنه بعد سقوط القدس في الحرب الصليبية الأولى استيقظ العديد من الفقهاء والقضاة والأمراء لحقيقة ذلك الغزو بعد أن هددهم في أرضهم وعقيدتهم، فقام بعض فقهاء الشام بالكتابة والتأليف في الجهاد ضد الغزو لتهيئة الأجواء الفكرية وتثقيف المسلمين ونشر الثقافة الإسلامية، فاخذوا في تنوير مجتمعاتهم الإسلامية بالتأليف والوعظ في الناس وتوضيح أمور وأركان الدين الإسلامي الحنيف، وتحريض المسلمين على الجهاد لإدراكهم الضعف العام في إيمان المسلمين وتركهم لأمور دينهم.
ومن هؤلاء العلماء الفقيه "على بن طاهر السلمي الدمشقي الشافعي"، كان من علماء الشام، وعند مجيء الغزو تحول إلى واعظ ومحرض على الجهاد بإلقائه الخطب في المساجد التي تنقل فيها عبر مدن وبلاد الشام، كي يعلم الناس ويعلي من همتهم، وقد ألف كتابه "الجهاد" الذي جاء عقب سقوط بيت المقدس عام1098م. ويعتبر الفقيه السلمي من أوائل من حث على الجهاد في زمنه، حيث أدرك أن ضعف العالم الإسلامي وتجزئته هو العامل الرئيسي وراء نجاح الغزو الصليبي، وليس قوة الصليبين أنفسهم، لذا اجتهد في نصحهم بالعودة إلى الله، وتطهير النفوس والرجوع إلى كتاب الله، فقال: "وقدموا جهاد أنفسكم على جهاد أعدائكم؛ فان النفوس أعدى لكم منهم، واردعوها مما هي عليه من عصيان خالقها - سبحانه - تظفرون بما تؤملونه من النصرة عليهم". وقال أيضاً في خطابه لهم عن الجهاد: "وليكن قصدكم بجهادكم هذا إرضاء ربكم والذب عن أنفسكم وعن غيركم من إخوانكم، ليمحص لكم ثواب عدوكم. ولا يكون ذلك أمام تقدم الغزو الصليبي وأخذه لمدن عديدة إلا المبادرة إليهم والمرابطة على المدن التي لم تحصل في أيديهم، فإن النفير إليهم وقصدهم في البلاد التي قد تملكوها علينا إنما هو حرب يقصد بها الدفاع عن النفوس والأولاد والأهل والأموال والحراسة لما بقى في أيدينا من البلاد". وكانت دعوة "السلمي الدمشقي" للمسلمين عامة لوحدة القوى الإسلامية ونصحهم بتطهير النفوس والتعافي فيما بينهم، حيث رأى أنه إن لم يتناس الحكام المسلمين أحقادهم وخلافاتهم فإنهم مازالوا على جاهلية غير مقتدين بالمثل النابع من التراث "عند الشدائد تذهب الأحقاد".
كما قام بعض من الفقهاء الآخرين بالمشاركة الفعلية في ساحات الجهاد، ومن أبرز أولئك الفقهاء المشاركين في ساحات القتال كان القاضي "أبو محمد عبد الله بن منصور" المعروف "بابن صليحة"، قاضي حصن جبلة، وكان ذا خبرة عسكرية جيدة، وبرزت مواهبه عند محاصرة الإفرنج حصن جبلة للاستيلاء عليه عام1100م، واستخدامه لما يسمى بالحرب النفسية لنشر الذعر بين صفوف قوات الفرنج، فتابعهم بالحيل حيله تلو الأخرى، ووفقه الله - تعالى - في تفكيره، فأول الحيل أظهر أن السلطان "بركياروق" قد توجه إلى الشام لمساعدته مما أثار الفرنج ونشر الذعر والقلق بين صفوفهم وألقى الله في قلوبهم الرعب فرحلوا خائفين، لكنهم أدركوا الخدعة وعادوا مرة أخرى. فأتاهم بالحيلة الثانية فنشر بينهم أن المصريين قد توجهوا لحربهم ومساعدته فتركوا محاصرة الحصن مرة ثانية خائفين، ولكن سرعان ما فطن الفرنجة لتلك الخدعة ورجعوا مرة ثانية عازمين الاستيلاء على الحصن بكل عنف، فأتاهم "القاضي ابن صليحة" بالحيلة الثالثة وقرر أن يفاجئهم بأسلوب جديد فقرر مع النصارى الذين في الحصن واتفق معهم على إرسال وفد منهم إلى الفرنجة للتفاهم حول تسليم الحصن، وإرسال مجموعة من فرسانهم لاستلام الحصن، شرط أن يبعثوا ثلاثمائة رجل من أعيانهم وشجعانهم، فوافق الفرنجة ونصب "القاضي ابن صليحة" لهم كمين فلم يزالوا يرقون في الحبال واحد بعد واحد وقتلوا جميعاً، فلما أصبح الفرنجة رمى الرؤوس إليهم فاستشاطوا غضباً من هذا الفعل، وقاموا بهدم مجموعة من الأبراج التي حول الحصن. فلم يستسلم قاضى جبلة وبادر بوضع خطة أخرى ذكية؛ حيث أحدث ثقوباً في أسوار المدينة، وخرج "القاضي ابن صليحة" وجيشه من الأبواب لقتالهم وتظاهر بالهزيمة أمامهم، فبادر الصليبيون إلى مطاردته حتى أبواب المدينة، في الوقت الذي استغل فيه جنوده الفرصة في الخروج من تلك الفتحات والثقوب والتقوا من حوله فصاروا وقد أتوا الفرنج من ظهورهم فولوا منهزمين".
والحرب النفسية هذه استخدمها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في كثير من غزواته، ففي غزوة الخندق حيث خديعة الخندق وهزيمة جيوش الأحزاب، وكذلك في غزوة مؤتة عندما حول القائد خالد بن الوليد –رضي الله عنه- المعركة من الهزيمة إلى النصر على الروم عن طريق تكثيف الغبار بفرسانه حتى ظن الروم بوصول الإمدادات إلى المسلمين فولوا هاربين.
وفي أوقات الحروب والنكبات يشارك العلماء بأموالهم وأنفسهم ويؤدون أدوارهم تجاه إخوانهم المسلمين في أي بقعة من بقاع الأرض، ففي الحروب الصليبية والتي نتخذها من هذا المقال مثالاً لم تقتصر المشاركة الفعلية للفقهاء في القتال على فقهاء "مدن الشام فقط" حيث محل النكبة، ولكن شارك الفقهاء المغاربة والأندلسيون الذين كانوا يقيمون ببلاد الشام في تلك المعارك، وكان منهم الفقيه المغربي "أبو الحجاج يوسف الفندلاوي المالكي"، وكان عالماً كبيراً زاهداً عابداً خرج راجلاً فرآه حاكم دمشق فقصده وسلم عليه وقال له: "يا شيخ أنت معذور ونحن نكفيك، وليس بك قوه على القتال"، فرد عليه بقوله: "لقد بعت واشترى فلا نقيله ولا نستقيله"، يعنى قول الله - تعالى -: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}. وتقدم فقاتل الفرنج حتى قتل - رحمه الله - شهيداً ورئي في المنام بعد استشهاده فقيل له: "أين أنت؟ فقال: في جنات عدن على سرر متقابلين".
هذا دور من أدوار المسلم العالم الفقيه في وقت النكبات والأزمات، يقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه)).
هدى الله المسلمين إلى الطريق المستقيم، ورزقهم نعمة النصر لدينه في شتى بقاع الأرض.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع